193
حكم النّبيّ الأعظم ج5

ثالثا : الغرض من وضع حديث عبد اللّه بن زيد

لا يمكن إبداء وجهة نظر قاطعة حول الغرض من وضع هذا الحديث ، غير أنّ بعض المحقّقين يرجّح احتمال وضعه من قبل عمومة عبد اللّه بن زيد ، قال مبيّنا ذلك:
ومن القريب جدّا أنّ عمومة عبد اللّه بن زيد هم الذين أشاعوا تلك الرؤيا وروّجوها ؛ لتكون فضيلة لبيوتاتهم وقبائلهم ، ولذلك نرى في بعض المسانيد أنّ بني عمومته هم رواة هذا الحديث ، وأنّ من اعتمد عليهم إنّما كان لحسن ظنّه بهم. ۱
وإنّنا نرى أنّ وضع هذا الحديث لا يخلو من أغراضٍ سياسيّة ، حاله حال الكثير من الأحاديث الموضوعة ، وقد أسلفنا آنفا ۲ أنّ الأذان فضلاً عن كونه تذكيرا بأحد أهمّ الواجبات الفرديّة وإعلاما لأوقاتها ، فهو شعار سياسيّ واجتماعيّ في غاية الأهميّة ، وهذا الشعار هو ليس فقط لتوفير الأرضيّة المناسبة لاستمرار سيادة الإسلام في المجتمعات الإسلاميّة ، وإقراره القيم الدينيّة الفاضلة فيها ، بل يمكن أن يؤدّي إلى انتقال تلك القيم إلى سائر المجتمعات الاُخرى . ومن هنا نلاحظ أنّ التيّارات السياسيّة التي ترى أنّ سيادة الإسلام الأصيل تتعارض مع مصالحها ، لا تتفاعل مع هذا الشعار .
ويبدو أنّ وضع حديث عبد اللّه بن زيد من قبل الحزب الاُمويّ وفي عصر سلطة معاوية المطلقة ، كان لغرض حذف شعار الأذان السياسيّ والاجتماعيّ أو تحريفهِ ، لأنّه إذا كان مصدر تشريع الأذان مستمدّا من رؤيا يراها عامّة الناس ، فإنّ الّذي يدّعي خلافة النبيّ صلى الله عليه و آله ـ بل خلافة اللّه تعالى في الأرض ـ يمكن تغيير خلافته حسب الرغبة برؤيا اُخرى، أو حذفها بشكلٍ تامّ !
ولتوضيح هذا المطلب نقول : إنّ كلّ من اطّلع على تاريخ الإسلام ، يعلم أنّ الحزب الاُمويّ كان مخالفا للإسلام منذ فجره الأوّل ، ولم يتوافق في أيّ وقت مع هذا النظام الإلهيّ ، ومع أنّه لم يستطع أن يعلن مخالفته حينما قوي أمر الإسلام ، لكنّه أضمر العداء وأسرّ الكفر ، فوقف في أوّل فرصة سانحة بوجه النظام الإسلاميّ الأصيل بقيادة إمام المتّقين وأمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، فأصبح مانعا أمام سموّ هذا النظام الإلهيّ وتألُّقهِ ؛ ذلك لأنّه وجد أسباب القوّة ، كالمقام والمال والأعوان، قال أمير المؤمنين عليه السلام :
ما أسلَموا ولكِنِ استَسلَموا ، وأسَرُّوا الكُفرَ ، فَلَمّا وَجَدوا أعوانا عَلَيهِ أظهَروهُ.۳
ولدينا شاهد تأريخيّ يرويه المغيرة بن شعبة ، وهو صديق حميم لمعاوية ، يتحدّث فيه عن اجتماعٍ خاصّ وسرّي بمعاوية ، وهو يعكس مدى مخالفة معاوية للأذان ، وعدائه لشعار الإسلام العباديّ السياسيّ ، وفيما يلي نصّ هذا الشاهد التأريخيّ برواية مطرف بن المغيرة بن شعبة ، قال:
جاءَ [ المُغيرَةُ] ذاتَ لَيلَةٍ فَأَمسَكَ عَنِ العَشاءِ ، فَرَأيتُهُ مُغتَمّا ، فَانتَظَرتُهُ ساعَةً ، وظَنَنتُ أنَهُ لِشَيءٍ حَدَثَ فينا أو في عَمَلِنا . فَقُلتُ لَهُ : ما لي أراكَ مُغتَمّا مُنذُ اللَّيلَةِ؟ قالَ : يا بُنَيَّ ، إنّي جِئتُ مِن عِندٍ أخبَثِ النّاسِ ! قُلتُ لَهُ : وما ذاكَ؟ قالَ : قُلتُ لَهُ [ أي لِمُعاوِيَةَ] وقَد خَلَوتُ بِهِ : إنَّكَ قَد بَلَغتَ مِنّا يا أميرَ المُؤمِنينَ ، فَلَو أظهَرتَ عَدلاً ، وبَسَطتَ خَيرا ، فَإِنَّكَ قَد كَبِرتَ ، ولَو نَظَرتَ إلى إخوَتِكَ مِن بَني هاشِمٍ ، فَوَصَلتَ أرحامَهُم ، فَوَاللّه ِ ما عِندَهُمُ پاليَومَ شَيءٌ تَخافُهُ . فَقالَ لي: هَيهاتَ ، هَيهاتَ! مَلَكَ أخو تَيمٍ فَعَدَلَ وفَعَلَ ما فَعَلَ ، فَوَاللّه ِ ما عَدا أن هَلَكَ فَهَلَكَ ذِكرُهُ ، إلّا أن يَقولَ قائِلٌ : أبوبَكرٍ . ثُمَّ مَلَكَ أخو عَدِيٍّ ، فَاجتَهَدَ و شَمَّرَ عَشرَ سِنينَ ، فَوَاللّه ِ ما عَدا أن هَلَكَ فَهَلَكَ ذِكرُهُ ، إلّا أن يَقولَ قائِلٌ : عُمَرُ . ثُمَّ مَلَكَ أخونا عُثمانُ ، فَمَلَكَ رَجُلٌ لَم يَكُن أحَدٌ في مِثلِ نَسَبِهِ ، فَعَمِلَ ما عَمِلَ وعُمِلَ بِهِ ، فَوَاللّه ِ ما عَدا أن هَلَكَ فَهَلَكَ ذِكرُهُ ، وذِكرُ ما فُعِلَ بِهِ . وإنَّ أخا هاشِمٍ يُصرَخُ بِهِ في كُلِّ يَومٍ خَمسَ مَرّاتٍ : أشهَدُ أنَّ مُحَمَّدا رَسولُ اللّه ِ ، فَأَيُّ عَمَلٍ يَبقى مَعَ هذا؟ لا اُمّ لَكَ ! وَاللّه ِ إلّا دَفنا دَفنا!.۴
وممّا يمكن أن يؤيّد هذا التحليل ، هو أنّ موقف أهل البيت عليهم السلام تجاه الروايات التي تعتبر بدء تشريع الأذان هو رؤيا عبد اللّه بن زيد ، كان بعد استقرار حكومة معاوية ، فلو كان هناك أدنى ذكر لمثل هذه الشائعة المهينة للنبيّ صلى الله عليه و آله قبل هذا التّاريخ أو في حياة أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنّه ـ بلا ريب ـ سيتّخذ منها موقفا حاسما ، لكنّ أوّل موقف يسجّله التّاريخ لأهل البيت عليهم السلام تجاه هذه الشائعة ، هو للإمام الحسن المجتبى عليه السلام بعد الصلح مع معاوية . ۵

1.الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف : ص ۱۳۶ ، الأذان تشريعا وفصولاً : ص ۲۹ .

2.راجع : موسوعة ميزان الحكمة : ج ۲ ( الأذان / المدخل / حكمة الأذان / الحكمة الاجتماعية ) .

3.نهج البلاغة : الكتاب ۱۶ .

4.مروج الذهب: ج ۴ ص ۴۱ ؛ الأخبار الموفقيّات : ص ۵۷۶ الرقم ۳۷۵ .

5.راجع : موسوعة ميزان الحكمة : ج ۲ ( الأذان / الفصل الأول : تشريع الأذان / تكذيب بعض ما رُوي في بدء تشريعه ) .


حكم النّبيّ الأعظم ج5
192

4 . وجوه اُخرى

إنّ الّذي ذكرناه من نقد مضمون الروايات التي تقول : إنّ بدء تشريع الأذان لم يستند إلى الوحي ، يكفي لإثبات عدم اعتبارها ، غير أنّه ذُكرت بعض الوجوه الاُخرى لإثبات هذا المدّعى ، مثل : التعارض الجوهريّ في مضمون هذه الروايات ، وعدد الذين يدّعون الرؤيا ۱ ، وتعارضها مع نقل البخاري وغيره ۲ .
بناءً على ذلك ، فلو فرضنا أنّ أسانيد هذه الروايات صحيحة اصطلاحا ، فليس ثَمّة أدنى ريب في رفضها وردّها ؛ ذلك لأنّ مضمونها لا يتوافق مع العقل السليم ، ولا ينسجم مع اُصول الإسلام .
على أنّ أسانيدها غير قابلة للاعتماد ؛ لأنّها إمّا موقوفة ـ أي لا يتّصل سندها بالنبيّ صلى الله عليه و آله ـ وإمّا أنّ بعض رجالها الذين يقعون في سلسلة الأسناد مجهولون أو مجروحون أو ضعفاء أو متروكون ۳ .
من هنا ، فإنّ ما ذكره الحاكم في المستدرك بأنّ علّة عدم إخراج حديث عبد اللّه بن زيد في الصحيحين هو اختلاف الناقلين في أسانيده ۴ ، يمكن أن يكون واحدا من أسبابٍ عدّة ، ولعلّ بعض الوجوه الاُخرى التي ذُكرت آنفا كانت أيضا سببا في عدم إخراج حديثه في الصحيحين .

1.نُقل أن الّذين ادّعوا الرؤيا أربعة عشر شخصا . راجع : السيرة الحلبيّة : ج ۲ ص ۹۶ .

2.راجع : الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف : ص ۱۳۵ ـ ۱۳۹ و الأذان تشريعا وفصولاً .

3.راجع : الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف : ص ۱۴۰ ـ ۱۴۳ و الأذان تشريعا وفصولاً .

4.المستدرك على الصحيحين : ج ۳ ص ۳۷۸ .

  • نام منبع :
    حكم النّبيّ الأعظم ج5
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دار الحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1429 ق/1387 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 205471
الصفحه من 622
طباعه  ارسل الي