81
حكم النّبيّ الأعظم ج5

توضيح حول أقسام الغيبة

قال الشهيد الثاني ۱ رضوان اللّه عليه في ذكر أقسام الغيبة : لمّا عرفتَ أنّ المراد منها ذِكرُ أخيك بما يكرهه منه لو بلغه أو الإعلام به أو التنبيه عليه ، كان ذلك شاملاً لما يتعلَّق بنُقصانٍ في بدنه أو نسبه أو خلقه أو فعله أو قوله أو دينه أو دنياه ، حتّى في ثوبه وداره ، وقد أشار الصادق عليه السلام إلى ذلك ـ أي في مصباح الشريعة ۲ ـ بقوله : وجوهُ الغِيبَةِ تَقَعُ بذِكرِ عَيبٍ في الخُلقِ والفِعلِ والمُعامَلَةِ والمَذهَبِ والجَهلِ وأشباهِهِ . فالبدن كذكرك فيه العمش والحول والعور والقرع والقصر والطّول والسّواد والصّفرة وجميع ما يتصوّر أن يوصف به ممّا يكرهه . وأمّا النّسب بأن تقول : أبوه فاسقٌ أو خبيث ، أو خسيس ، أو إسكاف ، أو حائك ، أو نحو ذلك ممّا يكرهه كيف كان ، وأمّا الخُلق بأن تقول : إنّه سيّء الخُلق بخيل متكبّر مُراءٍ شديد الغضب جبان ضعيف القلب ونحو ذلك . وأمّا في أفعاله المتعلّقة بالدّين كقولك : سارق ، كذّاب ، شارب ، خائن ، ظالم ، متهاون بالصلاة ، لايحسن الركوع والسجود ، ولايحترز من النجاسات ، ليس بارّا بوالديه ، لايحرس نفسه من الغيبة والتعرّض لأعراض الناس . وأمّا فعله المتعلّق بالدنيا كقولك : قليل الأدب ، متهاون بالناس ، لايرى لأحد عليه حقّا ، كثير الكلام ، كثير الأكل ، نؤوم ، يجلس في غير موضعه ، ونحو ذلك ، وأمّا في ثوبه كقولك : إنّه واسع الكمّ ، طويل الذّيل ، وسخ الثياب ، ونحو ذلك .
واعلم أنَّ ذلك لايقصر على اللسان ، بل التلفّظِ به إنّما حُرّم لأنّ فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه ، فالتّعريض كالتّصريح ، والفعل فيه كالقول والإشارة والإيماء والغمز والرّمز والكنية والحركة ، وكلّ مايُفهم المقصود داخل في الغيبة ، مساوٍ للّسان في المعنى الذي حُرّم التلفّظ به لأجله ، ومن ذلك ما روي عن عائشة أنّها قالت : دخلت علينا امرأة فلمّا ولّت أومأتُ بيدي أي قصيرة ، فقال صلى الله عليه و آله : اغتَبتِيها . ومن ذلك المحاكاة بأن تمشي متعارجا أو كما يمشي فهو غيبة ، بل أشدّ من الغيبة ؛ لأ نّه أعظم في التصوير والتفهيم ، وكذلك الغيبة بالكتاب فإنّ الكتاب ـ كما قيل ـ أحد اللّسانين . ومن ذلك ذكر المصنّف شخصا معيّنا وتهجين كلامه في الكتاب إلّا أن يقترن به شيء من الأعذار المحوجة إلى ذكره كمسائل الاجتهاد التي لايتمّ الغرض من الفتوى وإقامة الدلائل على المطلوب إلّا بتزييف كلام الغير ونحو ذلك . ويجب الاقتصار على ما تندفع به الحاجة في ذلك ، وليس منه قوله : قال قوم كذا مالم يصرّح بشخص معيّن ، ومنها أن يقول الإنسان : بعض من مرّ بنا اليوم أو بعض من رأيناه حالُهُ كذا ، إذا كان المخاطب يفهم منه شخصا معيّنا ؛ لأنّ المحذور تفهيمه دون ما به التفهيم ، فأمّا إذا لم يفهمه عينه جاز ، كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا كره من إنسان شيئا قال : ما بالُ أقوامٍ يفعلونَ كذا وكذا ؟ ! ولا يُعيِّن .
ومن أخبث أنواع الغيبة غيبة المتسمّين بالفهم والعلم المرائين ؛ فإنّهم يفهمون المقصود على صفة أهل الصلاح والتقوى ليُظهروا من أنفسهم التعفّف عن الغيبة ويفهمون المقصود ، ولايدرون بجهلهم أنّهم جمعوا بين فاحشتين : الرياء والغيبة ، وذلك مثل أن يذكر عنده إنسان فيقول : الحمد للّه الذي لم يبتلنا بحبّ الرياسة أو بحبّ الدّنيا أو بالتكيّف بالكيفيّة الفلانيّة ، أو يقول : نعوذ باللّه من قلّة الحياء أو من سوء التوفيق ، أو نسأل اللّه أن يعصمنا من كذا ، بل مجرّد الحمد على شيء إذا علم منه اتّصاف المحدّث عنه بما ينافيه ونحو ذلك فإنّه يغتابه بلفظ الدعاء وسمت أهل الصلاح ، وإنّما قصده أن يذكر عيبه بضرب من الكلام المشتمل على الغيبة والرياء ودعوى الخلاص من الرذائل ، وهو عنوان الوقوع فيها ، بل في أفحشها .
ومن ذلك أنّه قد يقدِّم مدح من يريد غيبته فيقول : ما أحسن أحوال فلان ! ما كان يقصّر في العبادات ، ولكن قد اعتراه فتور وابتلي بما نبتلى به كلّنا ، وهو قلّة الصبر ! فيذكر نفسه بالذمّ ومقصوده أن يذمّ غيره ، وأن يمدح نفسه بالتشبّه بالصالحين في ذمّ أنفسهم ، فيكون مغتابا مرائيا مزكّيا نفسه فيجمع بين ثلاث فواحش ، وهو يظنّ بجهله أنّه من الصالحين المتعفّفين عن الغيبة ، هكذا يلعب الشيطان بأهل الجهل إذا اشتغلوا بالعلم أو العمل، من غير أن يتقنوا الطريق ، فيتعبهم ويُحبِط بمكائده عملهم ويضحك عليهم .
ومن ذلك أن يذكر ذاكرٌ عيب إنسان فلا يتنبّه له بعض الحاضرين ، فيقول : سبحان اللّه ما أعجب هذا ! حتّى يصغي الغافل إلى المغتاب ويعلمَ ما يقوله ، فيذكرَ اللّه سبحانه ويستعملَ اسمَه آلة له في تحقيق خبثه وباطله ، وهو يمنّ على اللّه بذكره جهلاً منه وغرورا .
ومن ذلك أن يقول : جرى من فلان كذا وابتلي بكذا ، بل يقول : جرى لصاحبنا أو صديقنا كذا تاب اللّه علينا وعليه ! يُظهر الدعاء والتألّم والصداقة والصّحبة ، واللّه مطّلع على خبث سريرته وفساد ضميره ، وهو بجهله لايدري أنّه قد تعرّض لمقتٍ أعظم ممّا يتعرّض له الجهّال إذا جاهروا بالغيبة .
ومن أقسامها الخفيّة الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجّب ؛ فإنّه إنّما يُظهر التعجّب ليزيد نشاطَ المغتاب في الغيبة فيزيد فيها ، فكأنّه يستخرج منه الغيبة بهذا الطريق ، فيقول : عجبت ممّا ذكرتَه ما كنت أعلم بذلك إلى الآن ، ماكنت أعرف من فلان ذلك ! يريد بذلك تصديق المغتاب واستدعاءَ الزيادة منه باللّطف ، والتصديق للغيبة غيبة ، بل الإصغاء إليها بل السكوت عند سماعها ... . ۳

1.وهو من أكابر علماء الشيعة الإمامية ، واستشهد في طريقه إلى قسطنطنية في ساحل البحر سنة ۹۶۶ه . ق .

2.راجع : مصباح الشريعة : ص ۲۰۴ .

3.راجع : بحار الأنوار : ج ۷۵ ص ۲۲۳ ـ ۲۲۵ .


حكم النّبيّ الأعظم ج5
80
  • نام منبع :
    حكم النّبيّ الأعظم ج5
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دار الحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1429 ق/1387 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 208447
الصفحه من 622
طباعه  ارسل الي