431
حكم النّبيّ الأعظم ج4

للجواب عن هذا السؤال نقول :
إنّ الزهد الإسلاميّ غير الرهبانيّة المسيحيّة ، وإنّ هناك فرقا كبيرا بينهما ؛ إذ أنّ أهمّ مواصفات الزهد الإسلاميّ التي ترجع إليها سائر الخصائص الاُخرى ، هي أنّه يقوم على أساس المنطق والبرهان الواضح ، أمّا الرهبانيّة المسيحيّة فليس لها تبرير علميّ منطقيّ .
إنّ الزهد الإسلاميّ ليس عدم الرغبة في مطلق اللذائذ الدنيويّة وغضّ النظر عنها ، بل هو ـ كما أوضحنا ـ غضّ النظر عن اللذائذ الضارّة وعدم الرغبة فيها ، أمّا الرهبانيّة المسيحيّة فهي تدعو الناس إلى غضّ النظر عن مطلق اللذائذ المادية . وبعبارة اُخرى : قسّم الإسلام اللذائذ الماديّة إلى قسمين : اللذائذ المفيدة ، واللذائذ الضارّة ، والزهد الإسلاميّ لا يشمل اللذائذ المفيدة ، وهذا عين الشيء الذي يدعو إليه العقل والمنطق .
إنّ الإسلام لم يقل إطلاقا : إنّ على الإنسان غضّ النظر وترك اللذائذ المفيدة لحياته ، ولم يدعُ إلى عدم الرغبة فيها ، ولكيلا يشتبه مفهوم الزهد الإسلاميّ مع الرهبانيّة ولصيانة ذلك المفهوم من التحريف ، يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله :
لَيسَ الزُّهدُ فِي الدُّنيا تَحريمَ الحَلالِ ، ولا إضاعَةَ المالِ ، ولكِنَّ الزُّهدَ فِي الدُّنيا الرِّضا بِالقَضاءِ ... .۱
إنّ جميع الروايات التي جاءت تحت عنوان «التنبيه على تحريف الزهد» وكذلك تحت عنوان «النهي عن الترهّب وتحريم ما أحلّ اللّه » هي في الواقع لأجل بيان الفرق بين الزهد الإسلاميّ والرهبانيّة المسيحيّة.
إنّ الإسلام لا يسمح للإنسان أن يقوم بعملٍ ما دون علم ومعرفة ۲ ، والزهد في

1.راجع : الدنيا والآخرة في الكتاب والسنة : ( القسم الثالث / الفصل الأوّل : تعريف الزهد وتحريفه : ح۸۴۹ ) .

2.قال تعالى : «وَ لَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» (الإسراء : ۳۶) .


حكم النّبيّ الأعظم ج4
430

الدنيا المذمومة نفسيّا إلى جانب إعراضه العمليّ.

ثالثا ـ مراتب الزهد

أشرنا إلى أنّ أدنى مراتب الزهد هو عدم الرغبة النفسيّة مع الاجتناب عن المحرّمات ، أمّا أعلى درجاته فهي النقطة التي تنزاح معها حجب المعرفة بشكل تامّ من أمام نظر القلب ، ويصل فيها السالك إلى مرتبة اليقين ، وبالوصول إلى هذه المرتبة ينكشف للزاهد باطن الدنيا المذمومة وحقيقة غرورها ، وعندها لا يرغب عن الدنيا وحسب ، بل ينفر منها ويبغضها ، كما جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصفه لرسول اللّه صلى الله عليه و آله :
عُرِضَت عَلَيهِ الدُّنيا فَأَبى أن يَقبَلَها ، وعَلِمَ أنَّ اللّهَ أبغَضَ شَيئا فَأَبغَضَهُ .۱
وبيّن عليه السلام نفرته من الدنيا المذمومة في كثيرٍ من أحاديثه ، منها قوله :
أمَرُّ عَلى فُؤادي مِن حَنظَلَةٍ يَلوكُها ذو سُقمٍ .۲
وقوله :
أهوَنُ في عَيني مِن عُراقِ خِنزيرٍ في يَدِ مَجذومٍ .۳

رابعا ـ الفرق بين الزهد الإسلاميّ والرهبانيّة المسيحيّة

عرفنا أنّ للزهد الإسلاميّ بُعدا باطنيّا وبُعدا ظاهريّا ، وأنّ الزاهد يشعر في داخله بعدم الرغبة في الدنيا ، ويظهر ذلك في الخارج أيضا ، وهنا قد يُطرح سؤال : على ضوء هذا التعريف للزهد الإسلامي ، ما الفرق بينه وبين الرهبانيّة المسيحيّة؟ ولماذا تنهى الروايات والأخبار بشدّة عن الرهبانيّة؟ ۴

1.راجع : الدنيا والآخرة في الكتاب والسنة : ( القسم الثالث / الفصل السادس : أماثل الزهاد : ح ۱۱۶۵ ) .

2.راجع : الدنيا والآخرة في الكتاب والسنة : ( القسم الثاني / الفصل الثاني : تقويم الدنيا : ح ۵۱۱ ) .

3.راجع : الدنيا والآخرة في الكتاب والسنة : ( القسم الثاني / الفصل الثاني : تقويم الدنيا : ح ۵۱۰ ) .

4.راجع : الدنيا والآخرة في الكتاب والسنة : ( القسم الأوّل / الفصل الثاني : أهميّة الدنيا ودورها في بناء ف الآخرة : النهي عن الترهّب وتحريم ما أحلّ اللّه ) .

  • نام منبع :
    حكم النّبيّ الأعظم ج4
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دار الحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1429 ق/1387 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 247660
الصفحه من 702
طباعه  ارسل الي