121
حكم النّبيّ الأعظم ج2

كلام فيما يظهر منه نفي القضاء الموقوف

تدلّ أحاديث الباب السابق بوضوح على أنّ القضاء الإلهي ومقدّراته على نوعين: القضاء المحتوم الّذي لا يمكن تغييره ، والقضاء غير المحتوم الّذي من الممكن أن يتغيّر ؛ ولكن هناك إزاء هذه الأحاديث، روايات أُخرى تدلّ في الظاهر على نفي القضاء الموقوف وغير المحتوم ، ونتيجتها انحصار القضاء في القضاء المحتوم .
طوائف هذه الأحاديث : يمكن تقسيم هذه الأحاديث إلى عدّة مجاميع :
المجموعة الاُولى : الأحاديث الّتي تؤكّد أنّ قلم التقدير الإلهي قد عيّن كلّ ما يحدث حتّى القيامة وأنّ هذه الكتابة قد جفّت ، وهو إشارة إلى أنّ المقدّرات الإلهيّة محددة وغير قابلة للتغيير حتّى القيامة، وتسمّى هذه الطائفة من الروايات بأحاديث «جفّ القلم»، مثل مارواه ابن عبّاس عن النبيّ صلى الله عليه و آله ، أنّه قال له :
إذا سَأَلتَ فَسَلِ اللّه َ ، وَإذا استَعَنتَ فَاستَعِن بِاللّه ِ ، فَقَد جَفَّ القَلَمُ بِما هُوَ كان (إلى) يَومِ القِيامَةِ ، فَلَو جَهَدَ الخَلائِقُ أن يَنفَعُوكَ بِشَيءٍ لَم يَكتُبهُ اللّه ُ لَكَ لَم يَقدِرُوا عَلى ذلِكَ ، وَلَو جَهَدَ الخَلائِقُ أن يَضُرّوكَ بِشَيءٍ لَم يَكتُبهُ اللّه ُ عَلَيكَ لَم يَقدِروا عَلى ذلِكَ .۱
كما نقل عن أبي هريرة أنّه قال:
قُلتُ : يا رَسولَ اللّه ِ إنّي رَجُلٌ شابٌّ ، وأَنَا أَخَافُ عَلى نَفسِي العَنَتَ ، ولا أَجِدُ ماأَتَزَوَّجُ بِهِ النّساءَ ، فَسَكَتَ عَنّي ، ثُمَّ قُلتُ مِثلَ ذلِكَ ، فَسَكَتَ عَنّي ، ثُمَّ قُلتُ مِثلَ ذلِكَ ، فَسَكَتَ عَنّي ، ثُمَّ قُلتُ مِثلَ ذلِكَ ، فَقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : يا أَبا هُرَيرَةَ ، جَفَّ القَلَمُ بِمَا أَنتَ لاقٍ ، فَاختَصِ عَلَى ذلِكَ أَو ذَر .۲
وروي عن عبداللّه بن عمر ، أنه قال :
سَمِعتُ رَسُولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله يَقُولُ : إنَّ اللّه َ عز و جل خَلَقَ خَلقَهُ في ظُلمَةٍ ، فَأَلقى عَلَيهِم مِن نورِهِ ، فَمَن أَصابَهُ مِن ذلِكَ النُّورِ اهتَدى ، ومَن أخطَأَهُ ضَلَّ ، فَلِذلِكَ أقولُ : جَفَّ القَلَمُ عَلى عِلمِ اللّه ِ .۳
ونقل عن سراقة بن مالك أنّه قال : قلت لرسول اللّه صلى الله عليه و آله :
أَنَعمَلُ عَلى ما قَد جَفَّ بِهِ القَلَمُ وجَرَت بِهِ المَقاديرُ أو لِأَمرٍ مُستَقبَلٍ ؟ قالَ :
يا سُراقَةُ ، اِعمَل لِما جَفَّ بِهِ القَلَمُ وَجَرَت بِهِ المَقاديرُ ، فَإِنَّ كُلًا مُيَسَّرٌ .۴

كما جاء في كتاب علل الشرائع:
هبط جبرئيل عليه السلام على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ... قال :
. . . يا مُحَمَّدُ ، وَيلٌ لِوُلدِكَ مِن وُلدِ العَبّاسِ . فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله إلَى العَبّاسِ فَقالَ : يا عَمُّ ، وَيلٌ لِوُلدي مِن وُلدِكَ ! فَقالَ : يا رَسولَ اللّه ِ أفَأَجُبُّ نَفسي ؟ قالَ : جَفَّ القَلَمُ بِمَا فِيهِ .۵
المجموعة الثانية : الأحاديث الّتي تدلّ على أنّ عددا من الناس خُلقوا للجنّة وخُلق عدد آخر منهم للنار ، وكلّ واحد منهم لايمكنه فعل إلّا ما خُلق له ، بمعنى أنّ أصحاب الجنّة لا يوفّقون إلّا للقيام بالأعمال الّتي تقودهم إلى الجنّة ، فيما يوفّق أصحاب النار للأعمال الّتي تجعلهم يستحقّون نار جهنّم ، كما يروي عمران بن حصين ذلك قائلاً :
قيلَ : يا رَسولَ اللّه ِ ، أعُلِمَ أهلُ الجَنَّةِ مِن أهلِ النَارِ؟ قالَ : فَقالَ : نَعَم ، قالَ : قيلَ : فَفيمَ يَعمَلُ العامِلونَ؟ قالَ : كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ .۶
ونقل في سنن أبي داوود عن عبداللّه بن عمر ، أنّ رجلاً سأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله :
يا رَسولَ اللّه ِ فيما نَعمَلُ؟ أفي شَيءٍ قَد خَلا أو مَضى ، أو في شَيءٍ يُستَأنَفُ الآنَ؟ قالَ : في شَيءٍ قَد خَلا وَمَضى . قالَ الرَجُلُ أو بَعضُ القَومِ : فَفيمَ العَمَلُ؟ قالَ : إنَّ أهلَ الجَنَّةِ يُيَسَّرونَ لِعَمَلِ أَهلِ الجَنَّةِ ، وَإنَّ أَهلَ النّارِ يُيَسَّرونَ لِعَمَلِ أَهلِ النّارِ» .۷
وروى صحيح البخاري عن أبي عبدالرحمن السلمي عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال:
كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله في جَنازَةٍ ، فَأَخَذَ شَيئا فَجَعَلَ يَنكُتُ بِهِ الأَرضَ ، فَقالَ : ما مِنكُم مِن أحَدٍ إلّا وَقَد كُتِبَ مَقعَدُهُ مِنَ النّارِ وَمَقعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ . قالوا : يا رَسولَ اللّه ِ ، أفَلا نَتَّكِلُ عَلى كِتابنا ونَدَعُ العَمَلَ؟ قالَ : اِعمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ ، أمّا مَن كانَ مِن أهلِ السَّعادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهلِ السَّعادَةِ ، وأمّا مَن كانَ مِن أهلِ الشَّقاوَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهلِ الشَّقاوَةِ . ثُمَّ قَرَأَ :«فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَ اتَّقَى * وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى»۸.۹
المجموعة الثالثة : الأحاديث الّتي تعتبر في الظاهر سعادة البشر وشقاءهم أمرا مقدّرا ومفروغا منه ، ومع ذلك فإنّها توصي بالعمل مستدلّةً بأنّ الذين هم أهل السعادة يوفّقون للأعمال الّتي توصلهم إلى سعادتهم المقدّرة ، وأمّا أهل الشقاء فإنّهم يوفّقون للأعمال الّتي تنتهي بهم إلى مصيرهم المشؤوم ، مثل ما نقل عن عمر بن الخطّاب من أنّه قال للنّبيّ صلى الله عليه و آله :
يا رسولَ اللّه ِ ، أرَأَيتَ ما نَعمَلُ فيهِ أمرٌ مُبتَدَعٌ أو مُبتَدَأٌ أو أمرٌ قَد فُرِغَ مِنهُ؟ قالَ : أَمرٌ قَد فُرِغَ مِنهُ ، فَاعمَل يَابنَ الخَطّابِ ، فَإِنَّ كُلّاً مُيَسَّرٌ ، فَأَمّا مَن كانَ مِن أهلِ السَّعادَةِ فَإِنَّهُ يَعمَلُ لِلسَّعادَةِ ، وَمَن كانَ مِن أهلِ الشَّقاءِ فَإِنَّهُ يَعمَلُ لِلشَّقاءِ .۱۰
المجموعة الرابعة : الأحاديث الّتي تقول : إنّ لكلّ إنسان مقدّرات خاصّة من الناحية المادّية ، وإنّ مقدارا معيّنا من الإمكانيات المادّية قد خلق له ، وسوف يصل إليه بالإجمال والاعتدال في طلب الرزق ، وإنّ الحرص والسعي الزائدين عن الحدّ سوف لايزيدان منه شيئا ، مِثل ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله من أنّه قال :
أَجمِلُوا في طَلَبِ الدُّنيا فَإِنَّ كُلًا مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ مِنها .۱۱
المجموعة الخامسة : الأحاديث الّتي تقول : إنّ اللّه فرغ من تقدير أعمال جميع البشر وآجالهم وآثارهم ومضاجعهم ورزقهم ، ولذلك فإنّ أحدا لا يمكنه أن يخرج من دائرة المقدّرات الإلهيّة ، مثل ماروي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله :
فَرَغَ اللّه ُ إلى كُلِّ عَبدٍ مِن خَمسٍ : مِن عَمَلِهِ وَأجَلِهِ وَأثَرِهِ وَمَضجَعِهِ وَرِزقِهِ ، لا يَتَعَدّاهُنَّ عَبدٌ .۱۲

1.المعجم الكبير : ج ۱۱ ص ۱۷۸ ح ۱۱۵۶۰ .

2.صحيح البخاري : ج ۵ ص ۱۹۵۳ ح ۴۷۸۸ .

3.سنن الترمذي : ج ۵ ص ۲۶ ح ۲۶۴۲ .

4.المعجم الكبير : ج ۷ ص ۱۲۸ ح ۶۵۸۸ .

5.راجع : علل الشرائع : ج ۲ ص ۳۴۸ ح ۷ ووردت في المصادر الاُخرى أيضا .

6.صحيح مسلم: ج ۴ ص ۲۰۴۱ ح ۹ .

7.سنن أبي داوود : ج ۴ ص ۲۲۴ ح ۴۶۹۶ .

8.الليل : ۵ و ۶ .

9.صحيح البخاري : ج ۴ ص ۱۸۹۱ ح ۴۶۶۶ .

10.مسند ابن حنبل : ج ۲ ص ۳۷۰ ح ۵۴۸۲ .

11.مسند الشهاب : ج ۱ ص ۴۱۶ ح ۷۱۶ .

12.تاريخ دمشق : ج ۵۲ ص ۳۹۱ ح ۱۱۰۸۸ .


حكم النّبيّ الأعظم ج2
120
  • نام منبع :
    حكم النّبيّ الأعظم ج2
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دار الحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1429 ق/1387 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 175727
الصفحه من 686
طباعه  ارسل الي