223
حكم النّبيّ الأعظم ج2

معنى محبّة اللّه للعبد

إنّ ما ورد في هذا الفصل يدلّ بكل جلاء على أنّ المعتقدات والأخلاق والأعمال الحسنة توجب محبّة الخالق للمخلوق ، وبما أنّ الذات الإلهيّة منزّهة عن كلّ تبدّل وتغيير ، يتبادر هنا إلى الأذهان سؤال مفاده : ما معنى محبّة اللّه للإنسان ؟
قيل :
مَحَبَّةُ اللّه ِ لِلعِبادِ إنعامُهُ عَلَيهِم وأن يُوَفِّقَهُم لِطاعَتِهِ ويَهدِيَهُم لِدينِهِ الَّذِي ارتَضاهُ ، وحُبُّ العِبادِ للّه ِِ أن يُطيعوهُ وَلا يَعصوهُ .۱
وقيل :
مَحَبَّةُ اللّه ِ صِفَةٌ مِن صِفاتِ فِعلِهِ ، فَهِيَ إحسَانٌ مَخصوصٌ يَليقُ بِالعَبدِ ، وأمّا مَحَبَّةُ العَبدِ للّه ِِ تَعالى فَحَالَةٌ يَجِدُها فِي قَلبِهِ ، يَحصُلُ مِنهَا التَّعظِيمُ لَهُ وإيثَارُ رِضاهُ وَالإِستِئناسُ بِذِكرِهِ .۲
والإنصاف إنّنا إذا شئنا بيان معنى محبّة الخالق للمخلوق ، يتحتّم علينا أن نرى ما المقصود من محبّة المخلوق للخالق ؟ لأنه روي عن النبي صلى الله عليه و آله :
أنَّ اللّه َ يُنزِلُ العَبدَ منه حَيثُ أنزَلَهُ مِن نَفسِهِ .۳
فهناك طائفة من أهل الإيمان تعني محبّتهم للّه طاعتهم له ، وترك معصيتهم إيّاه ، وهؤلاء في الحقيقة لا يتنعّمون بنعمة المحبّة ، وعبادتهم غير قائمة على أساس المحبّة ، وإنّما على أساس الخوف والخشية ، وفي المقابل تعني محبّة اللّه لهذه الطائفة توفيق العمل الصالح في الدنيا ، وجزاؤهم في الآخرة الجنّة .
ولكن في الوقت نفسه يوجد من بين عباد اللّه ثلّة ـ وإن كانت قليلة عددا ـ تحبّ اللّه واقعا وتطيعه لا عن خوفٍ من عذابه ، ولا طمعا في جنّته ، وإنّما حبّا له وتعلّقا به . هذه الثلّة تقول في مناجاتها للّه : «سَيِّدي ... أنَا مِن حُبِّكَ ظَمآنُ لا أروى» ، وتقول أيضا : «مَا أطيَبَ طَعْمَ حُبِّكَ» ، وأيضا : «يا نِعَمي وَجَنَّتي» ، وأيضا : «فَهَبني ـ يا إلهي وسَيِّدي ومَولايَ ورَبّي ـ صَبَرتُ عَلى عَذابِكَ فَكَيفَ أصبِرُ عَلى فِراقِكَ» ، وما إلى ذلك .
ومن الطبيعيّ أنّ حبّ اللّه لهذه الثلّة يتّخذ مفهوما آخر ، والمعنى والمفهوم الحقيقي لهذين النوعين من المحبّة لا يدركه إلّا من بلغ تلك المرحلة ، وكلّ كلام يستهدف بيان المحبّة الحقيقيّة للمخلوق وتفسيرها تجاه الخالق وبالعكس يبقى ناقصا غير وافٍ بالغرض ، وأفضل بيان يعكس آثار هذه المحبّة هو ما ورد في حديث «التقرّب بالنوافل» . ۴
قال الفقيه المحقّق الكبير الشيخ البهائي رحمه الله بشأن هذا الحديث :
وَهَذا الحَدِيث ، صَحِيحُ السَّنَد وَهُوَ مِن الأَحادِيثِ المَشهُورَةِ بَينَ الخَاصَّة وَالعَامَّة وقَد رَوُوه فِي صِحاحِهِم بِأدنى تَغيِيرٍ .
وقال في بيانه لمعنى جملة : « وإنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتّى أحِبَّهُ » :
النوافل جميع الأعمال غير الواجبة ممّا يُفعل لوجه اللّه سبحانه ، وأمّا تخصيصها بالصلاة المندوبة فعرف طارئ ، ومعنى محبّة اللّه سبحانه للعبد توفيقه للتجافي عن دار الغرور والترقّي إلى عالم النور ، والاُنس باللّه والوحشة ممّا سواه ، وصيرورة جميع الهموم همّا واحدا . قال بعض العارفين : إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما أقامك .
وقال أيضا في بيان قوله تعالى : «فَإِذا أَحبَبتُهُ كُنتُ سَمعَهُ الَّذي يَسْمَعُ بِهِ .. .» ۵ إلى آخر الحديث :
لأصحاب القلوب في هذا المقام كلمات سنيّة وإشارات سرّيّة وتلويحات ذوقيّة تعطّر مشام الأرواح وتحيى رميم الأشباح لا يهتدي إلى معناها ولا يطّلع على مغزاها إلّا من أتعب بدنه بالرّياضات وعنّى نفسه بالمجاهدات حتّى ذاق مشربهم وعرف مطلبهم ، وأمّا من لم يفهم تلك الرموز ولم يهتد إلى هاتيك الكنوز لعكوفه على الحظوظ الدّنيّة وإنهماكه في اللّذّات البدنيّة ، فهو عند سماع تلك الكلمات على خطر عظيم من الترّدي في غياهب الإلحاد ، والوقوع في مهاوي الحلول والإتّحاد تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا .
ونحن نتكلّم في هذا المقام بما يسهل تناوله على الأفهام ، فنقول : هذا مبالغة في القرب وبيان استيلاء سلطان المحبّة على ظاهر العبد وباطنه وسرّه وعلانيّته .
فالمراد ـ واللّه أعلم ـ إنّي إذا أحببت عبدي جذبته إلى محلّ الاُنس وصرفته إلى عالم القدس وصيّرت فكره مستغرقا في أسرار الملكوت وحواسّه مقصورةٌ على اجتلاء أنوار الجبروت ، فتثبت في مقام القرب قدمه ويمتزج بالمحبّة لحمه ودمه إلى أن يغيب عن نفسه ويذهل عن حسّه فتتلاشى الأغيار في نظره حتّى أكون له بمنزلة سمعه وبصره . ۶

1.مجمع البحرين : ج ۱ ص ۳۴۸ .

2.المصدر السابق. .

3.المستدرك على الصحيحين : ج ۱ ص ۶۷۲ ح ۱۸۲۰ ، المعجم الأوسط : ج ۳ ص ۶۷ ح ۲۵۰۱ .

4.راجع : مصباح المتهجّد : ص ۸۴۷ .

5.صحيح البخاري : ج ۵ ص ۲۳۸۵ ح ۶۱۳۷ .

6.الأربعون للشيخ البهائي : ص ۶۸۹ ح۳۵ .


حكم النّبيّ الأعظم ج2
222

۱۸۳۶.عنه صلى الله عليه و آله :إنَّ أحَبَّ النّاسِ إلَى اللّه ِ يَومَ القِيامَةِ وأدناهُم مِنهُ مَجلِسا إمامٌ عادِلٌ . ۱

۱۸۳۷.عنه صلى الله عليه و آله :إنَّ أحَبَّكُم إلَى اللّه ِ أحسَنُكُم عَمَلاً . ۲

۱۸۳۸.عنه صلى الله عليه و آله :أحَبُّ العَبيدِ إلَى اللّه ِ تَبارَكَ وتَعالى الأَتقِياءُ الأَخفِياءُ . ۳

1.سنن الترمذي : ج ۳ ص ۶۱۷ ح ۱۳۲۹ عن أبي سعيد الخدريّ ؛ روضة الواعظين : ص ۵۱۲ ، بحار الأنوار : ج ۷۵ ص ۳۵۱ ح ۵۹ .

2.الجعفريّات : ص ۲۳۸ ، بحار الأنوار : ج ۷۸ ص ۱۳۶ ح ۱۳ .

3.المستدرك على الصحيحين: ج ۳ ص ۳۰۳ ح ۵۱۸۲ عن معاذ بن جبل ؛ التحصين : ص ۱۹ ح ۳۴ .

  • نام منبع :
    حكم النّبيّ الأعظم ج2
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دار الحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1429 ق/1387 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 172276
الصفحه من 686
طباعه  ارسل الي