451
حكم النّبيّ الأعظم ج2

حكم النّبيّ الأعظم ج2
450

۲۵۰۶.الإمام العسكري عليه السلام :قُلتُ لِأَبي عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدٍ عليهماالسلام : هَل كانَ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله يُناظِرُ اليَهودَ وَالمُشرِكينَ إذا عاتَبوهُ ويُحاجُّهُم [إذا حاجّوهُ] ؟ قالَ : بَلى مِرارا كَثيرةً ، مِنها ما حَكَى اللّه ُ مِن قَولِهِم : « وَ قَالُواْ مَالِ هَـذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَ يَمْشِى فِى الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ» إلى قَولِهِ ـ : «رَجُلاً مَّسْحُورًا » . ۱
« وَ قَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هَـذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ » . ۲
وقَولُهُ عز و جل : « وَ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنمـبُوعًا» ـ إلى قَولِهِ ـ : «كِتَـبًا نَّقْرَؤُهُ » . ۳
ثُمَّ قيلَ لَهُ في آخِرِ ذلِكَ : لَو كُنتَ نَبِيّا كَموسى لَنَزَلَت عَلَينَا الصّاعِقَةُ في مَسأَلَتِنا إلَيكَ ، لِأَنَّ مَسأَلَتَنا أشَدُّ مِن مَسائِلِ قَومِ موسى لِموسى عليه السلام .
قالَ : وذلِكَ أنَّ رَسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله كانَ قاعِدا ذاتَ يَومٍ بِمَكَّةَ بِفِناءِ الكَعبَةِ ، إذِ اجتَمَعَ جَماعَةٌ مِن رُؤَساءِ قُرَيشٍ ، مِنهُمُ الوَليدُ بنُ المُغيرَةِ المَخزومِيُّ ، وأبُو البَختَرِيِّ بنُ هِشامٍ ، وأبو جَهلٍ ، وَالعاصُ بنُ وائِلٍ السَّهمِيُّ ، وعَبدُاللّه ِ بنُ أبي اُمَيَّةَ المَخزومِيُّ ، وكانَ مَعَهُم جَمعٌ مِمَّن يَليهِم كَثيرٌ ، ورَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله في نَفَرٍ مِن أصحابِهِ يَقرَأُ عَلَيهِم كِتابَ اللّه ِ ، ويُؤَدّي إلَيهِم عَنِ اللّه ِ أمرَهُ ونَهيَهُ .
فَقالَ المُشرِكونَ بَعضُهُم لِبَعضٍ : لَقَدِ استَفحَلَ ۴ أمرُ مُحَمَّدٍ وعَظُمَ خَطبُهُ ، فَتَعالَوا نَبدَأ بِتَقريعِهِ وتَبكيتِهِ وتَوبيخِهِ وَالِاحتِجاجِ عَلَيهِ وإبطالِ ما جاءَ بِهِ ، لِيَهونَ خَطبُهُ عَلى أصحابِهِ ، ويَصغُرَ قَدرُهُ عِندَهُم ، فَلَعَلَّهُ يَنزِ عُ عَمّا هُوَ فيهِ مِن غَيِّهِ وباطِلِهِ وتَمَرُّدِهِ وطُغيانِهِ ، فَإِنِ انتَهى وإلّا عامَلناهُ بِالسَّيفِ الباتِرِ .
قالَ أبو جَهلٍ : فَمَن ذَا الَّذي يَلي كَلامَهُ ومُجادَلَتَهُ ؟ قالَ عَبدُاللّه ِ بنُ أبي اُمَيَّةَ المَخزومِيُّ : أنَا إلى ذلِكَ ، أفَما تَرضاني لَهُ قَرنا حَسيبا ومُجادِلاً كَفِيّا ؟ قالَ أبو جَهلٍ : بَلى ، فَأَتوهُ بِأَجمَعِهِم ، فَابتَدَأَ عَبدُاللّه ِ بنُ أبي اُمَيَّةَ المَخزومِيُّ فَقالَ : يا مُحَمَّدُ ، لَقَدِ ادَّعَيتَ دَعوًى عَظيمَةً ، وقُلتَ مَقالاً هائِلاً ، زَعَمتَ أنَّكَ رَسولُ اللّه ِ رَبِّ العالَمينَ ، وما يَنبَغي لِرَبِّ العالَمينَ ، وخالِقِ الخَلقِ أجمَعينَ أن يَكونَ مِثلُكَ رَسولَهُ بَشَرا مِثلَنا ، تَأكُلُ كَما نَأكُلُ ، وتَشرَبُ كَما نَشرَبُ ، وتَمشي فِي الأَسواقِ كَما نَمشي ، فَهذا مَلِكُ الرّومِ وهذا مَلِكُ الفُرسِ لايَبعَثانِ رَسولاً إلّا كَثيرَ المالِ عَظيمَ الحالِ ، لَهُ قُصورٌ ودورٌ وفَساطيطُ وخِيامٌ وعَبيدٌ وخُدّامٌ ، ورَبُّ العالَمينَ فَوقَ هؤُلاءِ كُلِّهِم [أجمَعينَ] فَهُم عَبيدُهُ ، ولَو كُنتَ نَبِيّا لَكانَ مَعَكَ مَلَكٌ يُصَدِّقُكَ ونُشاهِدُهُ ، بَل لَو أرادَ اللّه ُ أن يَبعَثَ إلَينا نَبِيّا لَكان إنَّما يَبعَثُ إلَينا مَلَكا لا بَشرا مِثلَنا . ما أنتَ يا مُحَمَّدُ إلّا رَجُلٌ مَسحورا ولَستَ بِنَبِيٍّ ؟!
فَقالَ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : هَل بَقِيَ مِن كَلامِكَ شَيءٌ ؟ قالَ : بَلى ، لَو أرادَ اللّه ُ أن يَبعَثَ إلَينا رَسولاً لَبَعَثَ أجَلَّ مَن فيما بَينَنا مالاً ، وأحسَنَهُ حالاً ، فَهَلّا نُزِّلَ هذَا القُرآنُ الَّذي تَزعُمُ أنَّ اللّه َ أنزَلَهُ عَلَيكَ وَابتَعَثَكَ بِهِ رَسولاً ـ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَريَتَينِ عَظيمٍ . إمَّا الوَليدِ بنِ المُغيرَةِ بِمَكَّةَ ، وإمّا عُروَةِ بنِ مَسعودٍ الثَّقَفِيِّ بِالطّائِفِ .
فَقالَ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : هَل بَقِيَ مِن كَلامِكَ شَيءٌ يا عَبدَاللّه ِ ؟ فَقالَ : بَلى ، لَن نُؤمِنَ لَكَ حَتّى تَفجُرَ لَنا مِنَ الأَرضِ يَنبوعا بِمَكَّةَ هذِهِ ، فَإِنّها ذاتُ أحجارٍ وَعِرَةٍ وجِبالٍ ، تَكسَحُ أرضَها وتَحفِرُها ، وتُجري فيهَا العُيونَ ، فَإِنَّنا إلى ذلِكَ مُحتاجونَ ، أو تَكونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخيلٍ وعِنَبٍ ، فَتَأكُلَ مِنها وتُطعِمَنا ، فَتُفَجِّرَ الأَنهارَ خِلالَها خِلالَ تِلكَ النَّخيلِ وَالأعنابِ ـ تَفجيرا أو تُسقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمتَ عَلَينا كِسَفا ، فَإِنَّكَ قُلتَ لَنا : « وَ إِن يَرَوْاْ كِسْفًا مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطًا يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ »۵ فَلَعَلَّنا نَقولُ ذلِكَ .
ثُمَّ قالَ : [ولَن نُؤمِنَ لَكَ] أو تَأتِيَ بِاللّه ِ وَالمَلائِكَةِ قَبيلاً ، تَأتِي بِهِ وبِهِم وهُم لَنا مُقابِلونَ ، أو يَكونَ لَكَ بَيتٌ مِن زُخرُفٍ تُعطينا مِنهُ ، وتُغنينا بِهِ فَلَعَلَّنا نَطغى ، فَإِنَّكَ قُلتَ لَنا : « كَلَا إِنَّ الْاءِنسَـنَ لَيَطْغَى* أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى » . ۶
ثُمَّ قالَ : أو تَرقى فِي السَّماءِ أي تَصعَدَ فِي السَّماءِ ـ ولَن نُؤمِنَ لِرُقِيِّكَ أي لِصُعودِكَ ـ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَينا كِتابا نَقَرأَهُ مِنَ اللّه ِ العَزيزِ الحَكيمِ إلى عَبدِاللّه ِ بنِ أبي اُمَيَّةَ المَخزومِيِّ ومَن مَعَهُ ، بِأَن آمِنوا بِمُحَمَّدِ بنِ عَبدِاللّه ِ بنِ عَبدِالمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ رَسولي ، وصَدِّقوهُ في مَقالِهِ فَإِنَّهُ مِن عِندي .
ثُمَّ لا أدري ـ يا مُحَمَّدُ ! ـ إذا فَعَلتَ هذا كُلَّهُ اُؤمِنُ بِكَ أو لا اُؤمِنُ بِكَ ، بَل لَو رَفَعتَنا إلَى السَّماءِ وفَتَحتَ أبوابَها وأدخَلتَناها لَقُلنا : إنَّما سَكَرَت أبصارُنا وسَحَرتَنا .
فَقالَ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : يا عَبدَاللّه ! أبَقِيَ شَيءٌ مِن كَلامِكَ ؟ قالَ : يا مُحَمَّدُ ! أوَلَيسَ فيما أورَدتُهُ عَلَيكَ كِفايةٌ وبَلاغٌ ؟ ما بَقِيَ شَيءٌ فَقُل ما بَدا لَكَ ، وأفصِح عَن نَفسِكَ إن كان لَكَ حُجَّةٌ وَأتِنا بِما سَألناكَ بِهِ .
فَقالَ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : اللّهُمَّ أنتَ السّامِعُ لِكُلِّ صَوتٍ وَالعالِمُ بِكُلِّ شَيءٍ ، تَعلَمُ ما قالَهُ عِبادُكَ ، فَأَنزَلَ اللّه ُ عَلَيهِ : يا مُحَمَّدُ « وَ قَالُواْ مَالِ هَـذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ» إلى قَولِهِ ـ : «رَجُلاً مَّسْحُورًا »۷ ثُمَّ قالَ اللّه ُ تَعالى : « انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً »۸ ، ثُمَّ قالَ [اللّه ُ] : يا مُحَمَّدُ « تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَ لِكَ جَنَّـتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَـرُ وَ يَجْعَل لَّكَ قُصُورَا »۹ ، وأنزَلَ عَلَيهِ : يا مُحَمَّدُ « فَلَعَلَّكَ تَارِكُم بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَ ضَآئِقُم بِهِ صَدْرُكَ »۱۰ وأنزَلَ اللّه ُ عَلَيهِ : يا مُحَمَّدُ « وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَـهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَـهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ » . ۱۱
فَقالَ لَهُ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : يا عَبدَاللّه ِ ، أمّا ما ذَكَرتَ مِن أنّي آكُلُ الطَّعامَ كَما تَأكُلونَ! وزَعَمتَ أنَّهُ لايَجوزُ لِأَجلِ هذا أن أكونَ للّه ِِ رَسولاً ، فَإِنَّمَا الأَمرُ للّه ِِ تَعالى يَفعَلُ ما يَشاءُ ويَحكُمُ مايُريدُ ، وهُوَ مَحمودٌ ولَيسَ لَكَ ولا لِأَحَدٍ الاِعتِراضُ عَلَيهِ بِلِمَ وكَيفَ . ألا تَرى أنَّ اللّه َ كَيفَ أفقَرَ بَعضا وأغنى بَعضا ، وأعَزَّ بَعضا وأذَلَّ بَعضا ، وأصَحَّ بَعضا وأسقَمَ بَعضا ، وَشرَّفَ بَعضا ووَضَعَ بَعضا ، وكُلُّهُم مِمَّن يَأكُلونَ الطَّعامَ .
ثُمَّ لَيسَ لِلفُقَراءِ أن يَقولوا : لِمَ أفقَرتَنا وأغنَيتَهُم ؟ ولا لِلوُضَعاءِ أن يَقولوا : لِمَ وَضَعتَنا وشَرَّفتَهُم ؟ ولا لِلزَّمنى وَالضُّعَفاءِ أن يَقولوا : لِمَ أزمَنتَنا وأضعَفتَنا وصَحَّحتَهُم ؟ ولا لِلأَذِلّاءِ أن يَقولوا : لِمَ أذلَلتنا وأعزَزتَهُم ؟ ولا لِقِباحِ الصُّوَرِ أن يَقولوا : لِمَ قَبَّحتَنا وجَمَّلتَهُم ؟ بَل إن قالوا ذلِكَ كانوا عَلى رَبِّهِم رادّينَ ، ولَهُ في أحكامِهِ مُنازِعينَ ، وبِهِ كافِرينَ ، ولَكانَ جَوابُهُ لَهُم : [إنّي ]أنَا المَلِكُ الخافِضُ الرّافِعُ ، المُغنِي المُفقِرُ ، المُعِزُّ المُذِلُّ ، المُصَحِّحُ المُسقِمُ ، وأنتُمُ العَبيدُ لَيسَ لَكُم إلَا التَّسليمُ لي والاِنقيادُ لِحُكمي ، فَإِن سَلَّمتُم كُنتُم عِبادا مُؤمِنينَ ، وإن أبَيتُم كُنتُم بي كافِرينَ ، وبِعُقوباتي مِنَ الهالِكينَ .
ثُمَّ أنزَلَ اللّه ُ عَلَيهِ : يامُحَمَّدُ « قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ » يَعني آكُلُ الطَّعامَ « يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَ حِدٌ »۱۲ يَعني قُل لَهُم : أنَا فِي البَشَرِيَّةِ مِثلُكُم ، ولكِن رَبّي خَصَّني بِالنُّبُوَّةِ دونَكُم ، كَما يَخُصُّ بَعضَ البَشَرِ بِالغِنى وَالصِّحَّةِ وَالجَمالِ دونَ بَعضٍ مِنَ البَشَرِ ، فَلا تُنكِروا أن يَخُصَّني أيضا بِالنُّبُوَّةِ [دونَكُم] .
ثُمَّ قالَ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : وأمّا قَولُكَ : «[إنَّ ]هذا مَلِكَ الرّومِ ومَلِكَ الفُرسِ لا يَبعَثانِ رَسولاً إلّا كَثيرَ المالِ ، عَظيمَ الحالِ ، لَهُ قُصورٌ ودورٌ وفَساطيطُ وخِيامٌ وعَبيدٌ وخُدّامٌ ، ورَبُّ العالَمينَ فَوقَ هؤُلاءِ كُلِّهِم فَهُم عَبيدُهُ» . فَإِنَّ اللّه َ لَهُ التَّدبيرُ وَالحُكمُ ، لا يَفعَلُ عَلى ظَنِّكَ وحِسبانِكَ ، ولا بِاقتِراحِكَ ، بَل يَفعَلُ مايَشاءُ ، ويَحكُمُ ما يُريدُ ، وهُوَ مَحمودٌ .
يا عَبدَاللّه ِ ، إنّما بَعَثَ اللّه ُ نَبِيَّهُ لِيُعَلِّمَ النّاسَ دينَهُم ، ويَدعُوَهُم إلى رَبِّهِم ، ويَكُدُّ نَفسَهُ في ذلِكَ آناءَ اللَّيلِ وَالنَّهارِ ، فَلَو كانَ صاحِبَ قُصورٍ يَحتَجِبُ فيها وعَبيدٍ وخَدَمٍ يَستُرونَهُ عَنِ النّاسِ ، ألَيسَ كانَتِ الرِّسالَةُ تَضيعُ وَالاُمورُ تَتَباطَأُ ؟ أوَ ماتَرَى المُلوكَ إذَا احتَجَبوا كَيفَ يَجرِي الفَسادُ وَالقَبائِحُ مِن حَيثُ لايَعلَمونَ بِهِ ولا يَشعُرونَ ؟!
يا عَبدَاللّه ِ ، إنَّما بَعَثَنِي اللّه ُ ولا مالَ لي لِيُعَرِّفَكُم قُدرَتَهُ وقُوَّتَهُ ، وإنَّهُ هُوَ النّاصِرُ لِرَسولِهِ ، لا تَقدِرونَ عَلى قَتلِهِ ولا مَنعِهِ مِن رسالته ، فَهذا أبيَنُ في قُدرَتِهِ وفي عَجزِكُم ، وسَوفَ يُظفِرُنِيَ اللّه ُ بِكُم فَاُوسِعكُم قَتلاً وأسرا ، ثُمَّ يُظفِرُنِيَ اللّه ُ بِبِلادِكُم ويَستَولي عَلَيهَا المُؤمِنونَ مِن دونِكُم ودونِ مَن يُوافِقُكُم عَلى دينِكُم .
ثُمَّ قالَ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : وأمّا قَولُكَ لي : «لَو كُنتَ نَبِيّا لَكانَ مَعَكَ مَلَكٌ يُصَدِّقُكَ ونُشاهِدُهُ ، بَل لَو أرادَ اللّه ُ أن يَبعَثَ إلَينا نَبِيّا لَكانَ إنَّما يَبعَثُ مَلَكا لا بَشَرا مِثلَنا» . فَالمَلَكُ لاتُشاهِدُهُ حَواسُّكُم ، لِأَ نَّهُ مِن جِنسِ هذَا الهَواءِ لا عِيانَ مِنهُ ، ولَو شاهَدتُموهُ بِأَن يُزادَ في قُوى أبصارِكُم ـ لَقُلتُم : لَيسَ هذا مَلَكا بَل هذا بَشَرٌ ، لِأَ نَّهُ إنَّما كانَ يَظهَرُ لَكُم بِصورَةِ البَشَرِ الَّذي [ قَد ]ألِفتُموهُ لِتَفهَموا عَنهُ مَقالَتَهُ وتَعرِفوا خِطابَهُ ومُرادَهُ ، فَكَيفَ كُنتُم تَعلَمونَ صِدقَ المَلَكِ وأنَّ ما يَقولُهُ حَقٌّ ؟ بَل إنَّما بَعَثَ اللّه ُ بَشرَا ، وأظهَرَ عَلى يَدِهِ المُعجِزاتِ الَّتي لَيسَت في طَبائِعِ البَشَرِ الَّذينَ قَد عَلِمتُم ضَمائِرَ قُلوبِهِم فَتَعلَمونَ بِعَجزِكُم عَمّا جاءَ بِهِ أنَّهُ مُعجِزَةٌ ، وأنَّ ذلِكَ شَهادَةٌ مِنَ اللّه ِ تَعالى بِالصِّدقِ لَهُ ، ولَو ظَهَرَ لَكُم مَلَكٌ وظَهَرَ عَلى يَدِهِ ما يَعجُزُ عَنهُ البَشَرُ لَم يَكُن في ذلِكَ ما يَدُلُّكُم عَلى أنَّ ذلِكَ لَيسَ في طَبائِعِ سائِرِ أجناسِهِ مِنَ المَلائِكَةِ حَتّى يَصيرَ ذلِكَ مُعجِزا .
ألا تَرَونَ أنَّ الطُّيورَ الَّتي تَطيرُ لَيسَ ذلِكَ مِنها بِمُعجِزٍ ، لِأَنَّ لَها أجناسا يَقَعُ مِنها مِثلُ طَيَرانِها ، ولَو أنَّ آدَمِيّا طارَ كَطَيَرانِها كانَ ذلِكَ مُعجِزا ، فَإِنَّ اللّه َ عز و جل سَهَّلَ عَلَيكُمُ الأَمرَ ، وجَعَلَهُ بِحَيثُ تَقومُ عَلَيكُم حُجَّتُهُ ، وأنتُم تَقتَرِحونَ عَمَلَ الصَّعبِ الَّذي لا حُجَّةَ فيهِ .
ثُمَّ قالَ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : وأمّا قَولُكَ : «ما أنتَ إلّا رَجُلٌ مَسحورٌ» . فَكَيفَ أكونُ كَذلِكَ وقَد تَعلَمونَ أنّي في صِحَّةِ التَّمييزِ وَالعَقلِ فَوقَكُم ؟ فَهَل جَرَّبتُم عَلَيَ مِنذُ نَشَأتُ إلى أنِ استَكمَلتُ أربَعينَ سَنَةً خَزيَةً ، أو زَلَّةً ، أو كَذبَةً ، أو خِيانَةً ، أو خَطَأً مِنَ القَولِ ، أو سَفَها مِنَ الرَّأيِ؟ أتَظُنّونَ أنَّ رَجُلاً يَعتَصِمُ طولَ هذِهِ المُدَّةِ بِحَولِ نَفسِهِ وقُوَّتِها ، أو بِحَولِ اللّه ِ وقُوَّتِهِ ؟ وذلِكَ ما قالَ اللّه ُ تَعالى : « انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَـلَ فَضَلُّواْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً »۱۳ إلى أن يُثبِتوا عَلَيكَ عَمًى بِحُجَّةٍ أكثَرَ مِن دَعاويهِمُ الباطِلَةِ الَّتي تَبَيَّنَ عَلَيكَ تَحصيلُ بُطلانِها .
ثُمَّ قالَ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : وأمّا قَولُكَ : «لَولا نُزِّلَ هذَا القُرآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَريَتَينِ عَظيمٍ ، الوَليدِ بنِ المُغيرَةِ بِمَكَّةَ أو عُروَة [بنِ مَسعودٍ الثَّقَفِيِّ] بِالطّائِفِ» . فَإِنَّ اللّه َ تَعالى لَيسَ يَستَعظِمُ مالَ الدُّنيا كَما تَستَعظِمُهُ أنتَ ، ولا خَطَرَ لَهُ عِندَهُ كَما لَهُ عِندَكَ ، بَل لَو كانَتِ الدُّنيا عِندَهُ تَعدِلُ جَناحَ بَعوضَةٍ لَما سَقى كافِرا بِهِ مُخالِفا لَهُ شَربَةَ ماءٍ ، ولَيسَ قِسمَةُ رَحمَةِ اللّه ِ إلَيكَ ، بَل اللّه ُ هُوَ القاسِمُ لِلرَّحَماتِ ، وَالفاعِلُ لِما يَشاءُ في عَبيدِهِ وإمائِهِ ، ولَيسَ هُوَ عز و جل مِمَّن يَخافُ أحَدا كَما تَخافُهُ أنتَ لِمالِهِ وحالِهِ ، فَعَرَفتَهُ بِالنُّبُوَّةِ لِذلِكَ ، ولا مِمَّن يَطمَعُ في أحَدٍ في مالِهِ أو في حالِهِ كَما تَطمَعُ [أنتَ] فَتَخُصُّهُ بِالنُّبُوَّةِ لِذلِكَ ، ولا مِمّن يُحِبُّ أحَدا مَحَبَّةَ الهَواءِ كَما تُحِبُّ أنتَ ، فَتُقَدِّمُ مَن لايَستَحِقُّ التَّقديمَ . وإنّما مُعامَلَتُهُ بِالعَدلِ ، فَلا يُؤثِرُ أحَدا لِأَفضَلِ مَراتِبِ الدّينِ وخِلالِهِ ، إلَا الأَفضَلَ في طاعَتِهِ والأَجَدَّ في خِدمَتِهِ ، وكَذلِكَ لا يُؤَخِّرُ في مَراتِبِ الدّينِ وخِلالِهِ إلّا أشَدَّهُم تَباطُؤا عَن طاعَتِهِ .
وإذا كانَ هذا صِفَتَهُ لَم يَنظُر إلى مالٍ ولا إلى حالٍ ، بَل هذَا المالُ وَالحالُ مِن تَفَضُّلِهِ ، ولَيسَ لِأَحدٍ مِن عِبادِهِ عَلَيهِ ضَربَةُ لازِبٍ ۱۴ فَلا يُقالُ لَهُ : إذا تَفَضَّلتَ بِالمالِ عَلى عَبدٍ فَلابُدَّ [مِن ]أن تَتَفَضَّلَ عَلَيهِ بِالنُّبُوَّةِ أيضا ، لِأَ نَّهُ لَيسَ لِأَحَدٍ إكراهُهُ عَلى خِلافِ مُرادِهِ ولا إلزامُهُ تَفَضُّلاً ، لِأَ نَّهُ تَفَضَّلَ قَبلَهُ بِنِعَمِهِ .
ألا تَرى ـ يا عَبدَاللّه ِ ! ـ كَيفَ أغنى واحِدا وقَبَّحَ صورَتَهُ ؟ وكَيفَ حَسَّنَ صورَةَ واحِدٍ وأفقَرَهُ ؟ وكَيفَ شَرَّفَ واحِدا وأفقَرَهُ ؟ وكَيفَ أغنى واحِدا ووَضَعَهُ ؟ ثُمَّ لَيسَ لِهذَا الغَنِيِّ أن يَقولَ : هَلّا اُضيفَ إلى يَساري جَمالُ فُلانٍ ؟ ولا لِلجَميلِ أن يَقولَ : هَلّا اُضيفَ إلى جِمالي مالُ فُلانٍ ؟ ولا لِلشَّريفِ أن يَقولَ : هَلّا اُضيفَ إلى شَرَفي مالُ فُلانٍ ؟ ولا لِلوَضيعِ أن يَقولَ : هَلّا اُضيفَ إلى ضَعَتي شَرَفُ فُلانٍ ؟
ولكِنَّ الحُكمَ للّه ِِ ، يُقَسِّمُ كَيفَ يَشاءُ ويَفعَلُ كَما يَشاءُ ، وهُوَ حَكيمٌ في أفعالِهِ ، مَحمودٌ في أعمالِهِ ، وذلِكَ قَولُهُ تَعالى : « وَ قَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هَـذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ » ـ قالَ اللّه ُ تَعالى : « أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ـ يا مُحَمَّد ـ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَوهِ الدُّنْيَا» فَأَحوَجَنا بَعضا إلى بَعضٍ ، أحوَجَ هذا الرجل إلى مالِ ذلِكَ ، وأحوَجَ ذلِكَ إلى سِلعَةِ هذا أو إلى خِدمَتِهِ . فَتَرى أجَلَّ المُلوكِ وأغنَى الأَغنِياءِ مُحتاجا إلى أفقَرِ الفُقَراءِ في ضَربٍ مِنَ الضُّروبِ : إمّا سِلعَةٍ مَعَهُ لَيسَت مَعَهُ ، وإمّا خِدمَةٍ يَصلَحُ لَها ، لايَتَهَيَّأُ لِذلِكَ المَلِكِ أن يَستَغنِيَ إلّا بِهِ ، وإمّا بابٍ مِنَ العُلومِ وَالحِكَمِ ، هُوَ فَقيرٌ إلى أن يَستَفيدَها مِن هذَا الفَقيرِ ، فَهذَا الفَقيرُ يَحتاجُ إلى مالِ ذلِكَ المَلِكِ الغَنِيِّ ، وذلِكَ المَلِكُ يَحتاجُ إلى عِلمِ هذَا الفَقيرِ ، أو رَأيِهِ ، أو مَعرِفَتِهِ .
ثُمَّ لَيسَ لِلمَلِكِ أن يَقولَ : هَلَا اجتَمَعَ إلى مالي عِلمُ هذَا الفَقيرِ ؟ ولا لِلفَقيرِ أن يَقولَ : هَلَا اجتَمَعَ إلى رَأيي وعِلمي وما أتَصَرَّفُ فيهِ مِن فُنونِ الحِكَمِ مالُ هذَا المَلِكِ الغَنِيِّ ؟
ثُمَّ قالَ اللّه ُ تَعالى : « وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا » ثُمَّ قالَ : يا مُحَمَّدُ قُل لَهُم ـ : « وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ »۱۵ أي ما يَجمَعُهُ هؤُلاءِ مِن أموالِ الدُّنيا .
ثُمَّ قالَ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : وأمّا قَولُكَ : «لَن نُؤمِنَ لَكَ حَتّى تَفجُرَ لَنا مِن الأَرضِ يَنبوعا» إلى آخِرِ ما قُلتَهُ ، فَإِنَّكَ [ قَدِ ]اقتَرَحتَ عَلى مُحَمَّدٍ رَسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله أشياءَ :
مِنها ما لَو جاءَكَ بِهِ لَم يَكُن بُرهانا لِنُبُوَّتِهِ ، ورَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله يَرتَفِعُ عَن أن يَغتَنِمَ جَهلَ الجاهِلينَ ، ويَحتَجَّ عَلَيهِم بِما لاحُجَّةَ فيهِ .
ومِنها ما لَو جاءَكَ بِهِ كانَ مَعَهُ هَلاكُكَ ، وإنَّما يُؤتى بِالحُجَجِ وَالبَراهينِ لِيَلزَمَ عِبادَ اللّه ِ الإِيمانُ بِها لا لِيَهلَكوا بِها ، فَإِنَّمَا اقتَرَحتَ هَلاكَكَ ، ورَبُّ العالَمينَ أرحَمُ بِعِبادِهِ ، وأعلَمُ بِمَصالِحِهِم من أن يُهلِكَهُم كَما يَقتَرِحونَ .
ومِنهَا المُحالُ الَّذي لا يَصِحُّ ولا يَجوزُ كَونُهُ ورَسولُ رَبِّ العالَمينَ يُعَرِّفُكَ ذلِكَ ، ويَقطَعُ مَعاذيرَكَ ، ويُضَيِّقُ عَلَيكَ سَبيلَ مُخالَفَتِهِ ، ويُلجِئُكَ بِحُجَجِ اللّه ِ إلى تَصديقِهِ حَتّى لا يكونَ لَكَ عَنهُ مَحيدٌ ولا مَحيصٌ .
ومِنها ما قَدِ اعتَرَفتَ عَلى نَفسِكَ أنَّكَ فيهِ مُعانِدٌ مُتَمَرِّدٌ ، لاتَقبَلُ حُجَّةً ولا تُصغي إلى بُرهانٍ ، ومَن كانَ كَذلِكَ فَدَواؤُهُ عَذابُ اللّه ِ النّازِلُ مِن سَمائِهِ ، أو في جَحيمِهِ ، أو بِسُيوفِ أولِيائِهِ .
فَأَمّا قَولُكَ يا عَبدَاللّه ِ : «لَن نُؤمِنَ لَكَ حَتّى تَفجُرَ لَنا مِنَ الأَرضِ يَنبوعا بِمَكَّةَ هذِهِ ، فَإِنَّها ذاتُ أحجارٍ وصُخورٍ وجِبالٍ ، تَكسَحُ أرضَها وتَحفِرُها ، وتَجري فيهَا العُيونَ ، فَإِنَّنا إلى ذلِكَ مُحتاجونَ» . فَإِنَّكَ سَأَلتَ هذا وأنتَ جاهِلٌ بِدَلائِلِ اللّه ِ تَعالى .
يا عَبدَاللّه ِ ! أرَأَيتَ لَو فَعَلتُ هذا ، أكُنتُ مِن أجلِ هذا نَبِيّا ؟ قالَ : لا .
قالَ رَسولُ اللّه ِ : أرَأَيتَ الطّائِفَ الَّتي لَكَ فيها بَساتينُ ؟ أما كانَ هُناكَ مَواضِعَ فاسِدَةً صَعبَةً أصلَحتَها وذَلَّلتَها وكَسَحتَها وأجرَيتَ فيها عُيونا اِستَنبَطتَها ؟ قالَ : بَلى . قالَ : وهَل لَكَ في هذا نُظَراءُ ؟
قالَ : بَلى .
قالَ : أفَصِرتَ بِذلِكَ أنتَ وهُم أنبِياءَ ؟
قالَ : لا .
قالَ : فَكَذلِكَ لايَصيرُ هذا حُجَّةً لِمُحَمَّدٍ لَو فَعَلَهُ عَلى نُبُوَّتِهِ ، فَما هُوَ إلّا كَقَولِكَ : لَن نُؤمِنَ لَكَ حَتّى تَقومَ وتَمشِيَ عَلَى الأَرضِ [كَما يَمشِي النّاسُ] ، أو حَتّى تَأكُلَ الطَّعامَ كَما يَأكُلُ النّاسُ .
وأمّا قَولُكَ يا عَبدَاللّه ِ : «أو تَكونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخيلٍ وعِنَبٍ ، فَتَأكُلَ مِنها وتُطعِمَنا ، وتُفَجِّرَ الأَنهارَ خِلالَها تَفجيرا» . أوَ لَيسَ لَكَ ولِأَصحابِكَ جَنّاتٌ مِن نَخيلٍ وعِنَبٍ بِالطّائِفِ تَأكُلونَ وتُطعِمونَ مِنها ، وتُفَجِّرونَ الأَنهارَ خِلالَها تَفجيرا ، أفَصِرتُم أنبِياءَ بِهذا ؟
قالَ : لا .
قالَ : فَما بالُ اقتِراحِكُم عَلى رَسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله أشياءَ لَو كانَت كَما تَقتَرِحونَ لَما دَلَّت عَلى صِدقِهِ ، بَل لَو تَعاطاها لَدَلَّ تَعاطيها عَلى كِذبِهِ ، لِأَ نَّهُ [ حِينَئِذٍ ]يَحتَجُّ بِما لا حُجَّةَ فيهِ ، ويَختَدِعُ الضُّعَفاءَ عَن عُقولِهِم وأديانِهِم ، ورَسولُ رَبِّ العالَمينَ يَجِلُّ ويَرتَفِعُ عَن هذا .
ثُمَّ قالَ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : يا عَبدَاللّه ِ ! وأمّا قَولُكَ : «أو تُسقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمتَ عَلَينا كِسَفا ـ فَإِنَّكَ قُلتَ : وإن يَرَوا كِسْفا مِنَ السَّماءِ ساقِطا يَقولوا سَحابٌ مَركومٌ» . فَإِنَّ في سُقوطِ السَّماءِ عَلَيكُم هَلاكَكُم ومَوتَكُم ، فَإِنَّما تُريدُ بِهذا مِن رَسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله أن يُهلِكَكَ ورَسولُ رَبِّ العالَمينَ أرحَمُ [ بِكَ ] مِن ذلِكَ ، [ و] لا يُهلِكُكَ ، ولكِنَّهُ يُقيمُ عَلَيكَ حُجَجَ اللّه ِ ، ولَيسَ حُجَجُ اللّه ِ لِنَبِيِّهِ وَحدَهُ عَلى حَسَبِ اقتِراحِ عِبادِهِ ، لِأَنَّ العِبادَ جُهّالٌ بِما يَجوزُ مِنَ الصَّلاحِ ، وبِما لايَجوزُ مِنَ الفَسادِ ، وقَد يَختَلِفُ اقتِراحُهُم ويَتَضادُّ حَتّى يَستَحيلَ وُقوعُهُ ، [ إذ لَو كانَتِ اقتِراحاتُهُم واقِعَةً لَجازَ أن تَقتَرِحَ أنتَ أن تُسقَطَ السَّماءُ عَلَيكُم ، ويَقتَرِحَ غَيرُكَ أن لا تُسقَطَ عَلَيكُمُ السَّماءُ ، بَل أن تُرفَعَ الأَرضُ إلَى السَّماءِ ، وتَقَعَ السَّماءُ عَلَيها ، وكانَ ذلِكَ يَتَضادُّ ويَتَنافى ، أو يَستحيلُ وُقوعُهُ] ، واللّه ُ عز و جل لايَجري تَدبيرُهُ عَلى ما يَلزَمُ بِهِ المُحالُ .
ثُمَّ قالَ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : وهَل رَأَيتَ يا عَبدَاللّه ِ طَبيبا كانَ دَواؤُهُ لِلمَرضى عَلى حَسَبِ اقتِراحاتِهِم ؟ وإنَّما يَفعَلُ بِهِ ما يَعلَمُ صَلاحَهُ فيهِ ، أحَبَّهُ العَليلُ أو كَرِهَهُ ، فَأَنتُمُ المَرضى وَاللّه ُ طَبيبُكُم ، فَإِن أنقَدتُم ۱۶ لِدَوائِهِ شَفاكُم ، وإن تَمَرَّدتُم عَلَيهِ أسقَمَكُم .
وبَعدُ ، فَمَتى رَأَيتَ يا عَبدَاللّه ِ مُدَّعي حَقٍّ [ مِن ] قِبَلِ رَجُلٍ أوجَبَ عَلَيهِ حاكِمٌ مِن حُكّامِهِم فيما مَضى ـ بَيِّنَةً عَلى دَعواهُ عَلى حَسَبِ اقتِراحِ المُدَّعى عَلَيهِ ؟ إذا ما كان يَثبُتُ لِأَحَدٍ عَلى أحَدٍ دَعوًى ولا حَقٌّ ، ولا كانَ بَينَ ظالِمٍ ومَظلومٍ ولا بَينَ صادِقٍ وكاذِبٍ فَرقٌ .
ثُمَّ قالَ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : يا عَبدَاللّه ِ وأمّا قَولُكَ : «أو تَأتِيَ بِاللّه ِ وَالمَلائِكَةِ قَبيلاً يُقابِلونَنَا ونُعايِنُهُم» . فَإِنّ هذا مِنَ المُحالِ الَّذي لاخِفاءَ بِهِ ، لِأَنَّ رَبَّنا عز و جل لَيسَ كَالمَخلوقينَ يَجيءُ ويَذهَبُ ، وَيَتَحرَّكُ ويُقابِلُ شَيئا حَتّى يُؤتى بِهِ ، فَقَد سَأَلتُم بِهذَا المُحالَ ، وإنَّما هذَا الَّذي دَعَوتَ إلَيهِ ، صِفَةُ أصنامِكُمُ الضَّعيفَةِ المَنقوصَةِ الَّتي لا تَسمَعُ ، ولا تُبصِرُ ، ولا تَعلَمُ ، ولا تُغني عَنكُم شَيئا ولا عَن أحَدٍ .
يا عَبدَاللّه ! أوَ لَيسَ لَكَ ضِياعٌ وجِنانٌ بِالطّائِفِ ، وعَقارٌ بِمَكَّةَ وقُوّامٌ عَلَيها ؟
قالَ : بَلى .
قالَ : أفَتُشاهِدُ جَميعَ أحوالِها بِنَفسِكَ ، أو بِسُفَراءَ بَينَكَ وبَينَ مُعامِليكَ ؟
قالَ : بِسُفَراءَ .
قالَ : أرَأَيتَ لَو قالَ مُعامِلوكَ وأكَرَتُكَ وخَدَمُكَ لِسُفَرائِكَ : «لانُصَدِّقُكُم في هذِهِ السِّفارَةِ إلّا أن تَأتونا بِعَبدِاللّه ِ بنِ أبي اُمَيَّةَ لِنُشاهِدَهُ فَنَسمَعَ ما تَقولونَ عَنهُ شِفاها» ، كُنتَ تُسَوِّغُهُم هذا ؟ أوَ كانَ يَجوزُ لَهُم عِندَكَ ذلِكَ ؟
قالَ : لا .
قالَ : فَمَا الَّذي يَجِبَ عَلى سُفرائِكَ ؟ ألَيسَ أن يَأتوهُم عَنكَ بِعَلامَةٍ صَحيحَةٍ تَدُلُّهُم عَلى صِدقِهِم فَيَجِبُ عَلَيهِم أن يُصَدِّقوهُم ؟
قالَ : بَلى .
قالَ : يا عَبدَاللّه ِ ، أرَأَيتَ سَفيرَكَ لَو أنَّهُ لَمّا سَمِعَ مِنهُم هذا عادَ إلَيكَ وقالَ [ لَكَ ] : قُم مَعي فَإِنَّهُم قَدِ اقتَرَحوا عَلَيَّ مَجيئَكَ [ مَعي ] ، ألَيسَ يَكونُ هذا لَكَ مُخالِفا ؟ وتَقولُ لَهُ : إنَّما أنتَ رَسولٌ لا مُشيرٌ ولا آمِرٌ ؟
قالَ : بَلى .
قالَ : فَكَيفَ صِرتَ تَقتَرِحُ عَلى رَسولِ رَبِّ العالَمينَ مالا تُسَوِّغُ لِأَكَرَتِكَ ومُعامِليكَ أن يَقتَرِحوهُ عَلى رَسولِكَ إلَيهِم ؟ وكَيفَ أرَدتَ مِن رَسولِ رَبِّ العالَمينَ أن يَستَذِمَّ إلى رَبِّهِ بِأَن يَأمُرَ عَلَيهِ ويَنهى ، وأنتَ لا تُسَوِّغُ مِثلَ هذا عَلى رَسولِكَ إلى أكَرَتِكَ وقُوّامِكَ ؟ هذِهِ حُجَّةٌ قاطِعَةٌ لِاءِبطالِ جَميعِ ما ذَكَرتَهُ في كُلِّ مَا اقتَرَحتَهُ يا عَبدَاللّه ِ .
وأمّا قَولُكَ يا عَبدَاللّه ِ : «أوَ يَكونَ لَكَ بَيتٌ مِن زُخرُفٍ» وهُوَ الذَّهَبُ ، أما بَلَغَكَ أنَّ لِعَزيزِ مِصرَ بُيوتا مِن زُخرُفٍ ؟
قالَ : بَلى .
قالَ : أفَصارَ بِذلِكَ نَبِيّا ؟
قالَ : لا .
قالَ : فَكَذلِكَ لا يوجِبُ [ ذلِكَ ] لِمُحَمَّدٍ ـ لَو كانَ لَهُ نُبُوَّةً ومُحَمَّدٌ لا يَغتَنِمُ جَهلَكَ بِحُجَجِ اللّه ِ .
وأمّا قولُكَ يا عَبدَاللّه ِ : «أوَ تَرقى فِي السَّماءِ» ، ثُمَّ قُلتَ : «ولَن نُؤمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَينا كِتابا نَقرَؤُهُ» . يا عَبدَاللّه ِ ! الصُّعودُ إلَى السَّماءِ أصعَبُ مِنَ النُّزولِ عَنها ، وإذا اعتَرَفتَ عَلى نَفسِكَ أنَّكَ لا تُؤمِنُ إذا صَعَدتُ ، فَكَذلِكَ حُكمُ النُّزولِ .
ثُمَّ قُلتَ : «حَتّى تُنَزِّلَ عَلَينا كِتابا نَقرَؤُهُ» ، مِن بَعدِ ذلِكَ ، «ثُمَّ لا أدري اُؤمِنُ بِكَ أو لا اُؤمِنُ بِكَ» . فَأَنتَ ـ يا عَبدَاللّه ِ ! ـ مُقِرٌّ بِأَنَّكَ تُعانِدُ حُجَّةَ اللّه ِ عَلَيكَ ، فَلا دَواءَ لَكَ إلّا تَأديبَهُ لَكَ عَلى يَدِ أولِيائِهِ مِنَ البَشَرِ ، أو مَلائِكَتِهِ الزَّبانِيَةِ ، وقَد أنزَلَ اللّه ُ عَلَيَّ حِكمَةً بالِغَةً جامِعَةً لِبُطلانِ كُلِّ مَا اقتَرَحتَهُ .
فَقالَ عز و جل : قُلْ يا مُحَمَّدُ ! ـ « سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلَا بَشَرًا رَّسُولًا »۱۷ ما أبعَدَ رَبّي عَن أن يَفعلَ الأَشياءَ عَلى [ قَدرِ ] ما يَقتَرِحُهُ الجُهّالُ بِما يَجوزُ وبِما لا يَجوزُ ، وهَل كُنتُ إلّا بَشرا رَسولاً ، لا يَلزَمُني إلّا إقامَةُ حُجَّةِ اللّه ِ الَّتي أعطاني ، ولَيسَ لي أن آمُرَ عَلى رَبّي ولا أنهى ولا اُشيرُ ، فَأَكونَ كَالرَّسولِ الَّذي بَعَثَهُ مَلِكٌ إلى قَومٍ مِن مُخالِفيهِ فَرَجَعَ إلَيهِ يَأمُرُهُ أن يَفعَلَ بِهِم مَا اقتَرَحوهُ عَلَيهِ .
فَقالَ أبوجَهلٍ : يا مُحَمَّدُ ! هاهُنا واحِدَةٌ ، أَلَستَ زَعَمتَ أنَّ قَومَ موسى احتَرَقوا بِالصّاعِقَةِ لَمّا سَأَلوهُ أن يُرِيَهُمُ اللّه َ جَهرَةً ؟
قالَ : بَلى .
قالَ : فَلَو كُنتَ نَبيّا لَاحتَرَقنا نَحنُ أيضا ، فَقَد سَأَلنا أشَدَّ مِمّا سَأَلَ قَومُ موسى ، لِأَ نَّهُم كَما زَعَمتَ قالوا : أرِنَا اللّه َ جَهرَةً . ونَحنُ نَقولُ : لَن نُؤمِنَ لَكَ حَتّى تَأتِيَ بِاللّه ِ وَالمَلائِكَةِ قَبيلاً نُعايِنُهُم . ۱۸

1.الفرقان : ۷ و ۸ .

2.الزخرف : ۳۱ .

3.الإسراء : ۹۰ ـ ۹۳ .

4.استفحل أمر العدوّ : إذا قوي واشتدّ (لسان العرب : ج ۱۱ ص ۵۱۷) .

5.الطور : ۴۴ .

6.العلق : ۶ و ۷ .

7.الفرقان : ۷ و ۸ .

8.الإسراء : ۴۸ .

9.الفرقان : ۱۰ .

10.هود : ۱۲ .

11.الأنعام : ۸ و ۹ .

12.الكهف : ۱۱۰ .

13.الفرقان : ۹ .

14.اللازب : الثابت الشديد الثبوت ، ويعبّر باللازب عن الواجب ، فيقال : ضربة لازب (مفردات ألفاظ القرآن : ص ۷۳۹) ، وفي بعض النسخ «ضريبة» بدل «ضربة» .

15.الزخرف : ۳۱ و ۳۲ .

16.في بحار الأنوار «أنفَذتُم» .

17.الإسراء : ۹۳ .

18.الاحتجاج : ج ۱ ص ۴۷ ح ۲۲ ، بحار الأنوار : ج ۹ ص ۲۶۹ ح ۲ .

  • نام منبع :
    حكم النّبيّ الأعظم ج2
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دار الحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1429 ق/1387 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 225891
الصفحه من 686
طباعه  ارسل الي