15
حكم النّبي الأعظم ج1

الْمُشْرِكُونَ» . 1
كلّ ذلك لم يكن ليخفى على الشخصيات الواعية في التاريخ ، اُولئك الذين كانوا يعرفون مسار الحقائق ويدركون كيفية نفوذ الفكر والكلام ، سواء في ذلك الذين كانوا يدركون هذه الحقيقة ولكنّهم لا يحتملونها فكانوا يتّخذون موقف العداء والمواجهة ، والذين كانوا يدركون هذه الحقيقة ويحتملونها ويذعنون إليها خاضعين ويحنون رؤوسهم أمام عظمتها . والآن لنتأمّل نموذجا من كلّ واحد من هذين الاتّجاهين :
روي أنّ الوليد بن المغيرة ـ وكان من ألدّ أعداء النبيّ صلى الله عليه و آله ـ قال بعد سماع آيات من القرآن :
واللّه قد سمعت من محمّدٍ آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ ، وإنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمغدق ، وإنّه ليعلو ولا يُعلى عليه . 2
وقال أنيس بن جنادة ، الذي كان من أبلغ شعراء العصر الجاهلي ومن جملة نقّاد محافل الشعر في ذلك العصر ، بعد التصريح بأنّه وضع الكلام الذي جاء به رسول اللّه صلى الله عليه و آله على ميزان النقد مع أبلغ الأشعار والأقوال :
فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنّه شعر ، واللّه إنّهُ لصادق وإنّهم لكاذبون . 3
وهكذا فقد أذعن أصحاب القلوب الطاهرة أمام الحقّ ، وتحلّقوا كالفراشات حول شمعة وجود النبيّ صلى الله عليه و آله ، واستماتوا في الدفاع عنه . وأمّا أصحاب القلوب المريضة والنفوس المظلمة فقد اصطفّوا في ذلك العصر وما بعده وعلى مرّ التاريخ معلنين الحرب على تعاليمه السامية ، وسعوا بأساليب مختلفة من أجل النيل من شخصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله وتحريف وقلب صورته الجميلة ، ولم يألوا جهدا منذ أقدم العصور حتّى القرون الأخيرة ، حيث ظهرت واتّسعت دراسات المستشرقين وبحوثهم في

1.التوبة : ۳۳ .

2.مجمع البيان : ج ۵ ص ۳۸۷ .

3.الإصابة : ج ۳ ص ۳۳۹ ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى : ج ۱ ص ۳۷۱ .


حكم النّبي الأعظم ج1
14

والمعتقدات العميقة الصلبة ، 1 كي يؤسّس مجتمعا قرآنيا مفعما بالقيم الإلهية ـ الإنسانية ، ومليئا بالمكارم الأخلاقية ، ويقود الإنسان نحو الهدف الأسمى والمقصد الأعلى . وقد كان نبينا الأعظم محمّد صلى الله عليه و آله نفسه مظهر هذه الحقائق السماوية ، ومجسّدا للتعاليم القرآنية والقيم الإلهية الأخلاقية . 2
لقد كان رسول اللّه ، أفضل الوجوه الإنسانية وأكملها وأقربها إلى القلوب . والتأمّل في سيرته والنظر في شخصيته والتدبّر في خُلقه وخصاله ، يوقع الإنسان في الدهشة والحيرة .
وهو صلى الله عليه و آله يمثّل أعلى قمّة في رحاب التاريخ ، وكلّ من اجتاز معبر التاريخ لا يملك إلّا أن يصوّب أنظاره إليه ، إلّا إذا كان قد أغمض عينيه دون أجمل مظاهر الوجود ، كالذين عميت قلوبهم وولّوا هاربين من الحقيقة .
وبعبارة اُخرى، فإنّ رسول اللّه كالشمس في رابعة النهار ، فهل من الممكن أن يمتلك الإنسان عينا ثمّ لا يراها؟ إلّا إذا كان كالخفاش يتهرّب من شعاع الشمس ولا يحتمل رؤية الحقيقة . فهل رأت مسيرة التاريخ الطويلة ومسرح الوجود وجها بهذه الإشراقة؟ فلنستمع إلى الإمام عليّ عليه السلام الذي هو أوحد دون شكّ في تجسيد شخصيّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وصورته :
مَن رَآه بُدَيهَةً هابَهُ ، ومَن خالَطَهُ مَعرِفَةً أحَبَّهُ ، يَقولُ ناعِتُهُ : لَم أرَ قَبلَهُ ولا بَعدَهُ مِثلَهُ . 3
وهكذا ، فمن الطبيعي أن تكتسب هذه الشخصية المشرقة البعد العالمي ، وأن تضمر جميع شخصيات العالم تحت ظلّ نوره ، وأن يطأطئ جميع الأبطال والعظماء الذين يمثّلون القمم الشاهقة في تاريخ البشريّة ، رؤوسهم أمام عظمته وسموّه ، وتتمهّد أرضية تحقّق الوعد الإلهي في عولمة هذه الشريعة ، وسيادة تعاليم الدين الذي جاء به هذا الرجل العظيم الذي لا نظير له في التاريخ ، حيث قال تعالى :
«هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ

1.راجع : نهج البلاغة : الخطبة ۱ و ۲ و ۹۴ و ۱۳۳ و ۱۵۸ .

2.راجع : مسند ابن حنبل : ج ۶ ص ۹۱ ، الطبقات الكبرى : ج ۱ ص ۳۶۴ ، تنبيه الخواطر : ج ۱ ص ۸۹ .

3.الغارات : ج ۱ ص ۱۶۷ ، بحارالأنوار : ج ۱۶ ص ۱۹۴ ح ۳۳ .

  • نام منبع :
    حكم النّبي الأعظم ج1
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دار الحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1429 ق / 1387 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 233460
الصفحه من 690
طباعه  ارسل الي