27
مكاتيب الأئمّة ج6

وَأَمَّا التَّفوِيضُ الَّذِي أَبطَلَهُ الصَّادِقُ عليه السلام وَأَخطَأ مَن دَانَ بِهِ وَتَقَلَّدَهُ ، فَهُوَ قَولُ القَائِلِ : إِنَّ اللّهَ جَلَّ ذِكرُهُ فَوَّضَ إِلَى العِبادِ اختِيارَ أَمرِهِ وَنَهيِهِ وَأَهمَلَهُم ، وَفِي هذَا كَلامٌ دَقِيقٌ لِمَن يَذهَبُ إلَى تَحرِيرِه وَدِقَّتِهِ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَتِ الأَئِمَّةُ المُهتَدِيَةُ مِن عِترَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه و آله ، فَإِنَّهُم قَالُوا : لَو فَوَّضَ إِلَيهِم عَلَى جَهَةِ الإِهمَالِ لَكَانَ لازِماً لَهُ رِضاً مَا اختَارُوهُ وَاستَوجَبُوا مِنهُ الثَّوَابَ وَلَم يَكُن عَلَيهِم فِيمَا جَنَوهُ العِقَابُ إِذَا كَانَ الإهمَالُ وَاقِعاً .
وَتَنصَرِفُ هَذِهِ المَقالَةُ عَلَى مَعنَييَنِ : إِمَّا أَن يَكُونَ العِبَادُ تَظَاهَروُا عَلَيهِ فَأَلزَمُوهُ قَبُولَ اختِيَارِهِم بِآرَائِهِم ضَروُرَةً كَرِهَ ذَلِكَ أم أَحَبَّ فَقَد لَزِمَهُ الوَهنُ ، أَو يَكُونَ جَلَّ وَعَزَّ عَجَزَ عَن تَعَبُّدِهِم بِالأَمرِ وَالنَّهي عَلَى إِرَادَتِهِ كَرِهُوا أَو أَحَبُّوا ، فَفَوَّضَ أَمرَهُ وَنَهيَهُ إلَيهِم وَأَجرَاهُمَا عَلَى مَحَبَّتِهِم ، إِذ عَجَزَ عَن تَعَبُّدِهِم بِإِرادَتِهِ ، فَجَعَلَ الاختِيارَ إِلَيهِم فِي الكُفرِ وَالإِيمَانِ .
وَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ مَلَكَ عَبدَاً ابتَاعَهُ لِيَخدِمَهُ وَيَعرِفَ لَهُ فَضلَ وِلايَتِهِ وَيَقِفَ عِندَ أَمرِهِ وَنَهيِهِ ، وَادَّعَى مالِكُ العَبدِ أَنَّهُ قَاهِرٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، فَأَمَرَ عَبدَهُ وَنَهَاهُ ، وَوَعَدَهُ عَلَى اتِّباعِ أَمرِهِ عَظِيمَ الثَّوَابِ ، وَأَوعَدَهُ عَلَى مَعصِيَتِهِ أَليمَ العِقَابِ ، فَخَالَفَ العَبدُ إِرَادَةَ مَالِكِهِ ، وَلَم يَقِف عِندَ أَمرِهِ وَنَهيِهِ ، فَأيُّ أَمرٍ أمَرَهُ أَو أيُّ نَهيٍّ نَهَاهُ عَنهُ لَم يَأتِهِ عَلَى إِرَادَةِ المَولَى ، بَل كَانَ العَبدُ يَتَّبِعُ إِرَادَةَ نَفسِهِ وَاتِّبَاعَ هَواهُ ، وَلا يُطِيقَ المَولَى أَن يَرُدَّهُ إِلَى اتِّبَاعِ أَمرِهِ وَنَهيِهِ وَالوُقُوفِ عَلَى إِرَادَتِهِ ، فَفَوَّضَ اختِيارَ أَمرِهِ وَنَهيِهِ إِلَيهِ ، وَرَضِيَ مِنهُ بِكُلِّ مَا فَعلَهُ عَلَى إِرَادَةِ العَبدِ لا عَلَى إِرَادَةِ المَالِكِ ، وَبَعَثَهُ فِي بَعضِ حَوَائِجِهِ ، وَسَمَّى لَهُ الحَاجَةَ ، فَخَالَفَ عَلَى مَولاهُ ، وَقَصَدَ لِاءرادَةِ نَفسِهِ وَاتَّبَعَ هَواهُ ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَولاهُ نَظَرَ إلَى ما أَتَاهُ بِهِ ، فَإِذَا هُوَ خِلافُ مَا أَمَرَهُ بِهِ ، فَقَالَ لَهُ : لِمَ أَتَيتَنِي بِخِلافِ ما أمَرتُكَ ؟ فَقَالَ العَبدُ : اتَّكَلتُ عَلَى تَفوِيضِكَ الأَمرَ إِلَيَّ ، فَاتَّبَعتُ هَوَايَ وَإِرَادَتي ؛ لِأَنَّ المُفَوَّضَ إِلَيهِ غَيرُ مَحَظُورٍ عَلَيهِ ، فَاستَحَالَ التَّفوِيضُ .
أَوَ لَيسَ يَجِبُ عَلَى هَذَا السَّبَبِ إِمَّا أَن يَكُونَ المَالِكُ لِلعَبدِ قَادِرَاً ، يَأمرُ عَبدَهُ بِاتِّبَاعِ أَمرِهِ وَنَهيِهِ عَلَى إِرَادَتِهِ لا عَلَى إِرادَةِ العَبدِ ، وَيُمَلِّكَهُ مِنَ الطَّاقَةِ بِقَدرِ مَا يَأمُرُهُ بِهِ


مكاتيب الأئمّة ج6
26

عُلُوَّاً كَبِيرَاً ؛ فَمَن دَانَ بِالجَبرِ أَو بِمَا يَدعُو إِلَى الجَبرِ فَقَد ظَلَّمَ اللّهَ وَنَسَبَهُ إِلَى الجَورِ وَالعُدوَانِ ، إِذ أَوجَبَ عَلَى مَن أَجبَرَهُ العُقُوبَةَ .
وَمَن زَعَمَ أَنَّ اللّهَ أَجبَرَ العِبَادَ ، فَقَد أَوجَبَ عَلَى قِياسِ قَولِهِ إِنَّ اللّهَ يَدفَعُ عَنهُمُ العُقُوبَةَ ، وَمَن زَعَمَ أَنَّ اللّهَ يَدفَعُ عَن أَهلِ المَعَاصِي العَذَابَ ، فَقَد كَذَّبَ اللّهَ فِي وَعِيدِهِ حَيثُ يَقُولُ : « بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحَـطَتْ بِهِ خَطِيـئتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحَـبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَــلِدُونَ »۱
، وَقَولَهُ : « إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَ لَ الْيَتَـمَى ظُـلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًاوَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا )۲ ، وَقَولَهُ : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِـئايَـتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَـهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً »۳ ، مَعَ آيٍ كَثيرةٍ فِي هَذَا الفَنِّ ، مِمَّن كَذَّبَ وَعيدَ اللّهِ وَيَلزَمُهُ في تَكذِيبِهِ آيَةً مِن كِتَابِ اللّهِ الكُفرُ ، وَهُوَ مِمَّن قَالَ اللّهُ : «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَـبِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَ لِكَ مِنكُمْ إِلَا خِزْىٌ فِى الْحَيَوةِ لدُّنْيَا وَ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَ مَا اللَّهُ بِغَـفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ »۴ .
بَل نَقُولُ : « إِنَّ اللّهَ جَلَّ وَعَزَّ جَازَى العِبَادَ عَلَى أَعمَالِهِم وَيُعَاقِبُهُم عَلَى أَفعَالِهِم بِالاِستِطَاعَةِ الَّتِي مَلَّكَهُم إِيَّاهَا ، فَأَمَرَهُم وَنَهَاهُم بِذَلِكَ ، وَنَطَقَ كِتَابُهُ : « مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْـلَمُونَ »۵ ، وَقالَ جَلَّ ذِكرُهُ : « يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ »۶ ، وَقالَ : « الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُـلْمَ الْيَوْمَ»۷ ، فَهَذِهِ آيَاتٌ مُحكَمَاتٌ تَنفِي الجَبرَ وَمَن دَانَ بِهِ ، وَمِثلُها فِي القُرآنِ كَثِيرٌ ، اختَصَرنَا ذَلِكَ لِئَلَا يَطُولَ الكِتَابُ ، وَبِاللّهِ التَّوفِيقُ .

1.البقرة :۸۱ .

2.النساء :۱۰ .

3.النساء :۵۶ .

4.البقرة :۸۵ .

5.الأنعام : ۱۶۰ .

6.آل عمران : ۳۰ .

7.غافر :۱۷ .

  • نام منبع :
    مكاتيب الأئمّة ج6
    المساعدون :
    الفرجي، مجتبی
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دار الحديث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1430 ق / 1387 ش
    الطبعة :
    الاولى
عدد المشاهدين : 129701
الصفحه من 453
طباعه  ارسل الي