وَأَمَّا التَّفوِيضُ الَّذِي أَبطَلَهُ الصَّادِقُ عليه السلام وَأَخطَأ مَن دَانَ بِهِ وَتَقَلَّدَهُ ، فَهُوَ قَولُ القَائِلِ : إِنَّ اللّهَ جَلَّ ذِكرُهُ فَوَّضَ إِلَى العِبادِ اختِيارَ أَمرِهِ وَنَهيِهِ وَأَهمَلَهُم ، وَفِي هذَا كَلامٌ دَقِيقٌ لِمَن يَذهَبُ إلَى تَحرِيرِه وَدِقَّتِهِ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَتِ الأَئِمَّةُ المُهتَدِيَةُ مِن عِترَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه و آله ، فَإِنَّهُم قَالُوا : لَو فَوَّضَ إِلَيهِم عَلَى جَهَةِ الإِهمَالِ لَكَانَ لازِماً لَهُ رِضاً مَا اختَارُوهُ وَاستَوجَبُوا مِنهُ الثَّوَابَ وَلَم يَكُن عَلَيهِم فِيمَا جَنَوهُ العِقَابُ إِذَا كَانَ الإهمَالُ وَاقِعاً .
وَتَنصَرِفُ هَذِهِ المَقالَةُ عَلَى مَعنَييَنِ : إِمَّا أَن يَكُونَ العِبَادُ تَظَاهَروُا عَلَيهِ فَأَلزَمُوهُ قَبُولَ اختِيَارِهِم بِآرَائِهِم ضَروُرَةً كَرِهَ ذَلِكَ أم أَحَبَّ فَقَد لَزِمَهُ الوَهنُ ، أَو يَكُونَ جَلَّ وَعَزَّ عَجَزَ عَن تَعَبُّدِهِم بِالأَمرِ وَالنَّهي عَلَى إِرَادَتِهِ كَرِهُوا أَو أَحَبُّوا ، فَفَوَّضَ أَمرَهُ وَنَهيَهُ إلَيهِم وَأَجرَاهُمَا عَلَى مَحَبَّتِهِم ، إِذ عَجَزَ عَن تَعَبُّدِهِم بِإِرادَتِهِ ، فَجَعَلَ الاختِيارَ إِلَيهِم فِي الكُفرِ وَالإِيمَانِ .
وَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ مَلَكَ عَبدَاً ابتَاعَهُ لِيَخدِمَهُ وَيَعرِفَ لَهُ فَضلَ وِلايَتِهِ وَيَقِفَ عِندَ أَمرِهِ وَنَهيِهِ ، وَادَّعَى مالِكُ العَبدِ أَنَّهُ قَاهِرٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، فَأَمَرَ عَبدَهُ وَنَهَاهُ ، وَوَعَدَهُ عَلَى اتِّباعِ أَمرِهِ عَظِيمَ الثَّوَابِ ، وَأَوعَدَهُ عَلَى مَعصِيَتِهِ أَليمَ العِقَابِ ، فَخَالَفَ العَبدُ إِرَادَةَ مَالِكِهِ ، وَلَم يَقِف عِندَ أَمرِهِ وَنَهيِهِ ، فَأيُّ أَمرٍ أمَرَهُ أَو أيُّ نَهيٍّ نَهَاهُ عَنهُ لَم يَأتِهِ عَلَى إِرَادَةِ المَولَى ، بَل كَانَ العَبدُ يَتَّبِعُ إِرَادَةَ نَفسِهِ وَاتِّبَاعَ هَواهُ ، وَلا يُطِيقَ المَولَى أَن يَرُدَّهُ إِلَى اتِّبَاعِ أَمرِهِ وَنَهيِهِ وَالوُقُوفِ عَلَى إِرَادَتِهِ ، فَفَوَّضَ اختِيارَ أَمرِهِ وَنَهيِهِ إِلَيهِ ، وَرَضِيَ مِنهُ بِكُلِّ مَا فَعلَهُ عَلَى إِرَادَةِ العَبدِ لا عَلَى إِرَادَةِ المَالِكِ ، وَبَعَثَهُ فِي بَعضِ حَوَائِجِهِ ، وَسَمَّى لَهُ الحَاجَةَ ، فَخَالَفَ عَلَى مَولاهُ ، وَقَصَدَ لِاءرادَةِ نَفسِهِ وَاتَّبَعَ هَواهُ ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَولاهُ نَظَرَ إلَى ما أَتَاهُ بِهِ ، فَإِذَا هُوَ خِلافُ مَا أَمَرَهُ بِهِ ، فَقَالَ لَهُ : لِمَ أَتَيتَنِي بِخِلافِ ما أمَرتُكَ ؟ فَقَالَ العَبدُ : اتَّكَلتُ عَلَى تَفوِيضِكَ الأَمرَ إِلَيَّ ، فَاتَّبَعتُ هَوَايَ وَإِرَادَتي ؛ لِأَنَّ المُفَوَّضَ إِلَيهِ غَيرُ مَحَظُورٍ عَلَيهِ ، فَاستَحَالَ التَّفوِيضُ .
أَوَ لَيسَ يَجِبُ عَلَى هَذَا السَّبَبِ إِمَّا أَن يَكُونَ المَالِكُ لِلعَبدِ قَادِرَاً ، يَأمرُ عَبدَهُ بِاتِّبَاعِ أَمرِهِ وَنَهيِهِ عَلَى إِرَادَتِهِ لا عَلَى إِرادَةِ العَبدِ ، وَيُمَلِّكَهُ مِنَ الطَّاقَةِ بِقَدرِ مَا يَأمُرُهُ بِهِ