29
مكاتيب الأئمّة ج6

عَمَّا يَدِينُ بِهِ أَهلُ التَّفوِيضِ عُلُوَّاً كَبِيرَاً .
لَكِن نَقُولُ : إِنَّ اللّهَ جَلَّ وَعَزَّ خَلَقَ الخَلقَ بِقُدرَتِهِ ، وَمَلَّكَهُم اِستِطَاعَةً تَعَبَّدَهُم بِهَا ، فَأَمَرَهُم وَنَهَاهُم بِمَا أَرَادَ ، فَقَبِلَ مِنهُمُ اتِّباعَ أَمرِهِ ، وَرَضِيَ بِذَلِكَ لَهُم ، وَنَهَاهُم عَن مَعصِيَتِهِ ، وَذَمَّ مَن عَصَاهُ وَعَاقَبَهُ عَلَيهَا ، وَللّهِِ الخِيَرَةُ فِي الأَمرِ وَالنَّهيِ ، يَختارُ مَا يُريدُ وَيَأمُرُ بِهِ ، وَيَنهَى عَمَّا يَكرَهُ وَيُعَاقِبُ عَلَيهِ ، بِالاِستِطَاعَةِ الَّتِي مَلَّكَها عِبادَهُ لِاتِّباعِ أَمرِهِ ، وَ اجتِنابِ مَعَاصِيهِ ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ العَدلِ وَالنَّصَفَةِ وَالحِكمَةِ البَالِغَةِ ؛ بَالَغَ الحُجَّةَ بِالإِعذَارِ وَالإِنذَارِ ، وَإلَيهِ الصَّفوَةُ ، يَصطَفِي مِن عِبَادِهِ مَن يَشَاءُ لِتَبلِيغِ رِسَالَتِهِ وَاحتِجَاجِهِ عَلَى عِبَادِهِ ، اصطَفَى مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله وَبَعَثَهُ بِرِسَالاتِهِ إِلَى خَلقِهِ ، فَقَالَ مَن قَالَ مِن كُفَّارِ قَومِهِ حَسَدَاً وَاستِكبَارَاً : «لَوْلَا نُزِّلَ هَـذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ »۱ ، يَعنِي بِذَلِكَ أُمَيَّةَ بنَ أَبِي الصَّلتِ ، وَأَبَا مَسعُودٍ الثَّقَفِيَّ ۲ ، فَأَبطَلَ اللّهُ اختِيارَهُم ، وَلَم

1.الزخرف :۳۱ .

2.كذا في الاحتجاج ، ولكنّ الظاهر أنّ المراد بالرجل العظيم هو الّذي كان من إحدى القريتين ، كالوليد بن المغيرة من مكّة ، وأبي مسعود الثقفيّ من الطائف ، فليس اُميّة بن أبي الصلت وأبو مسعود الثقفي من القريتين ؛ لأنّهما كانا من أهل الطائف ، فيكون كلاهما مثالاً للرّجل العظيم الّذي كان من إحدى القريتين ، أي : الطائف ، لا من القريتين ، يعنى مكّة والطائف . فعلى أيّ نحوٍ كان ، فالرجلان كانا عظيمي القدر عند قومهما وذوي الأموال الجسيمة فيهما ، فزعموا أنّ من كان كذلك أولى بالنبوّة من غيره . وكان الوليد بن المغيرة عمّ أبي جهل ، كان شيخاً كبيراً مجرّباً من دهاة العرب ، يتحاكمون إليه في الاُمور وينشدونه الأشعار ، فما اختاره من الشعر كان مختاراً ، وكان له عبيد عشرة عند كلّ عبد ألف دينار يتّجر بها وملك القنطار ، أي جلد ثور مملوّ ذهباً . كان الوليد أحد المستهزئين الخمس الّذين كفى اللّه شرّهم ، وهو الّذي جاء قريش عنده فقالوا له : يا عبد شمس ، ما هذا الّذي يقول محمّد ، أسحر أم كهانة أم خطب ؟ فقال : دعوني أسمع كلامه . فدنا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهو جالس في الحجر ، فقال : يا محمّد أنشدني شعرك ؟ فقال : ما هو بشعر ، ولكنّه كلام اللّه الّذي به بعث أنبياءه ورسله ، فقال : اتل ، فقرأ : « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ » . فلمّا سمع الرحمن استهزأ منه وقال : تدعو إلى رجل باليمامة ، يُسمّى الرحمن ؟ قال : لا ، ولكنّي ادعو إلى اللّه وهو الرحمن الرحيم ، ثمّ افتتح حم السجدة ، فلمّا بلغ إلى قوله : «فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـعِقَةً مِّثْلَ صَـعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ» ( فصلت : ۱۳ ) ، اقشعرّ جلده ، وقامت كلّ شعرة في بدنه ، وقام ومشى إلى بيته ، ولم يرجع إلى قريش ، فقيل : صبا عبد شمس إلى دين محمّد ، فاغتمّت قريش ، وغدا عليه أبو جهل فقال : فضحتنا يا عمّ ، قال : يا ابن أخ ما ذاك ، وإنّي على دين قومي ، ولكن سمعت كلاماً صعباً تقشعرّ منه الجلود . قال : أفشعر ، هو ؟ قال : ما هو بشعر . قال : فخُطَب ؟ قال : لا ، إنّ الخُطَب كلام متّصل وهذا كلام منثور لا يشبه بعضه بعضاً ، له طلاوة . قال : فكهانة هو ؟ قال : لا . قال : فما هو ؟ قال : دعني أفكّر فيه . فلمّا كان من الغد ، قالوا : يا عبد شمس ما تقول ؟ قال : قولوا : هو سحر ، فإنّه أخذ بقلوب الناس . فأنزل اللّه تعالى : «ذَرْنِى وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا» ، إلى قوله «عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ» ( المدّثر : ۱۱ و ۳۰ ) . وجاء يوماً إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال : اقرأ عليّ ، فقال : « إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْاءِحْسَـنِ وَ إِيتَآىءِ ذِى الْقُرْبَى وَ يَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَ الْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » ( النحل : ۹۰ ) . فقال : أعد ، فأعاد ، فقال : واللّه له الحلاوة والطلاوة ، وأنّ أعلاه لمثمر ، وأنّ أسفله لمعذق ، وما هذا بقول بشر . وأمّا اُميّة بن أبي الصلت الثقفيّ كان من أهل الطائف ، وكان من أكبر شعراء الجاهليّة ، وأغلب شعره متعلّق بالآخرة ، وكان ينظر في الكتب المتقدّمة ويقرأها ، وحرّم الخمر ، وشكّ في الأوثان ورغب عن عبادتها ، والتمس الدين ، وأخبر أنّ نبيّاً يخرج ، وكان يؤمّل أن يكون ذلك النبيّ ، فلمّا بُعث النبيّ وبلغ خبره كفر به حسداً وقال : كنت أرجو أن أكونه . كان أبوه عبيد اللّه بن ربيعة المُكنّى بأبي الصلت ، واُمّه رقيّة بنت عبد الشمس . مات في الطائف ، وممّا قال في مرض موته : كلُّ عيشٍ وإن تطاول دهراً منتهى أمره إلى أن يزولا ليتني كنتُ قبل ما قد بدا لي في رؤوسِ الجبالِ أرعى الوعولا فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : آمن شعرُه وكفر قلبُه . وأنزل اللّه فيه : « وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءَاتَيْنَـهُ ءَايَـتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَـنُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَْرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّ لِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئايَـتِنَا » ، إلى قوله : « وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْـلِمُونَ » ( الأعراف : ۱۷۵ ـ ۱۷۷ ) . وأبو مسعود هو عروة بن مسعود الثقفي كان من أهل الطائف ، وأحد السادة الأربعة في الإسلام : بشر بن هلال العبديّ ، عدي بن حاتم الطائيّ ، سراقة بن مالك المدلجيّ ، عروة بن مسعود الثقفيّ . كان أبو مسعود عاقلاً لبيباً ، وهو الّذي أرسلته قريش يوم الحديبيّة فعقد معه الصلح وهو كافر ، ثمّ أسلم سنة تسع من الهجرة بعد رجوع النبيّ صلى الله عليه و آله من الطائف . واستأذن النبيّ صلى الله عليه و آله في الرجوع إلى قومه ، فقال : إنّي أخاف أن يقتلوك . فقال : إن وجدوني نائماً ما أيقظوني . فأذن له رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فرجع إلى الطائف ودعا قومه إلى الإسلام ونصح لهم ، فعصوه وأسمعوه الأذى ، حتّى إذا طلع الفجر قام في غرفة من داره فأذّن وتشهّد ، فرماه رجل بسهم فقتله ، ولمّا بلغ النبيّ صلى الله عليه و آله قتله قال : مَثَل عروة مَثَل صاحب يس دعا قومه إلى اللّه فقتلوه . وهو جدّ أعلى لعليّ بن الحسين عليهماالسلام المقتول بكربلاء ، من قبل اُمّه ، كانت اُمّه ليلى بنت أبي مُرّة بن عروة بن مسعود الثقفيّ . وهو الّذي روي عنه تعظيم الصحابة للنبيّ حين رجع من عند النبيّ إلى أصحابه يوم الحديبيّة ، فقال : يا قوم ، لقد وفدت على الملوك ، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، واللّه إن رأيت ملكاً قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمّداً صلى الله عليه و آله ، إذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضّأ كانوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون إليه النظر تعظيماً له .


مكاتيب الأئمّة ج6
28

وَيَنهَاهُ عَنهُ ، فَإِذَا أَمَرَهُ بِأَمرٍ وَنَهاهُ عَن نَهيٍ ، عَرَّفَهُ الثَّوَابَ وَالعِقَابَ عَلَيهِمَا ، وَحذَّرَهُ وَرَغَّبَهُ بِصِفَةِ ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ ؛ لِيَعرِفَ العَبدُ قُدرَةَ مَولاهُ بِمَا مَلَّكَهُ مِنَ الطَّاقَةِ لِأَمرِهِ وَنَهيِهِ ، وَتَرغيبِهِ وَتَرهيبِهِ ، فَيَكُونَ عَدلُهُ وَإِنصَافُهُ شَامِلاً لَهُ ، وَحُجَّتُهُ وَاضِحَةً عَلَيهِ لِلإعذارِ وَ الإِنذَارِ . فَإذَا اتَّبَعَ العَبدُ أَمرَ مَولاهُ جَازَاهُ ، وَإِذَا لَم يَزدَجِر عَن نَهيِهِ عَاقَبَهُ . أَو يَكُونُ عَاجِزَاً غَيرَ قَادِرٍ ، فَفَوَّضَ أَمرَهُ إِلَيهِ أَحسَنَ أَم أَسَاءَ ، أَطَاعَ أَم عَصَى ، عَاجِزٌ عَن عُقُوبَتِهِ وَرَدِّهِ إِلَى اتِّبَاعِ أَمرِهِ .
وَفِي إِثباتِ العَجزِ نَفيُ القُدرَةِ وَالتَّأَلُّهِ ، وَإِبطالُ الأَمرِ وَالنَّهيِ ، وَالثَّوابِ وَالعِقَابِ ، وَمُخالَفَةُ الكِتَابِ إذ يَقُولُ : «وَ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَ إِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ»۱ ، وَقَولُهُ عز و جل : «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ »۲ ، وقَولُهُ : «وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْاءِنسَ إِلَا لِيَعْبُدُونِ * مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَ مَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ »۳ ، وَقَولُهُ : «اعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً»۴ ، وَقَولُهُ : «أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ »۵ .
فَمَن زَعَمَ أَنَّ اللّهَ تَعَالَى فَوَّضَ أَمرَهُ وَنَهيَهُ إِلَى عِبَادِهِ ، فَقَد أَثبَتَ عَلَيهِ العَجزَ ، وَأَوجَبَ عَلَيهِ قَبُولَ كُلِّ ما عَمِلوُا مِن خَيرٍ وَشَرٍّ ، وَأَبطَلَ أَمرَ اللّهِ وَنَهيَهُ ، وَوَعدَهُ وَوَعيدَهُ ، لِعِلَّةِ مَا زَعَمَ أَنَّ اللّهَ فَوَّضَهَا إِلَيهِ ؛ لِأَنَّ المُفَوَّضَ إِلَيهِ يَعمَلُ بِمَشيئَتِهِ ، فَإِن شَاءَ الكُفرَ أَوِ الإِيمَانَ كَانَ غَيرَ مَردُودٍ عَلَيهِ وَلا مَحظُورٍ ، فَمَن دَانَ بِالتَّفوِيضِ عَلَى هَذَا المَعنَى فَقَد أَبطَلَ جَميعَ مَا ذَكَرنَا مِن وَعدِهِ وَوَعيدِهِ ، وَأَمرِهِ وَنَهيِهِ ، وَهُوَ مِن أَهلِ هَذِهِ الآيَةِ : «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَـبِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَ لِكَ مِنكُمْ إِلَا خِزْىٌ فِى الْحَيَوةِ لدُّنْيَا وَ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَ مَا اللَّهُ بِغَـفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ »۶ ، تَعَالَى اللّهُ

1.البقرة :۸۵ .

2.الزمر :۷ .

3.آل عمران :۱۰۲ .

4.الذاريات :۵۶ و ۵۷ .

5.النساء :۳۶ .

6.الأنفال :۲۰ .

  • نام منبع :
    مكاتيب الأئمّة ج6
    المساعدون :
    الفرجي، مجتبی
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دار الحديث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1430 ق / 1387 ش
    الطبعة :
    الاولى
عدد المشاهدين : 129665
الصفحه من 453
طباعه  ارسل الي