وَ أَمَّا مياهُ البَطائِحِ ۱ وَ السِّباخِ ۲ ، فَحارَّةٌ غَليظَةٌ في الصَّيفِ ؛ لِرُكودِها وَ دَوامِ طُلوعِ الشَّمسِ عَلَيها ، وَ قَد تُوَلِّد لِمَن داوَمَ عَلى شُربِها المِرَّةُ الصَّفراءُ ، وَ تَعظُم أَطحِلَتُهُم .
وَ قَد وَصَفتُ لَكَ يا أَميرَ المُؤمِنينَ فيما بَعدُ مِن كِتابيَ هذا ما فيهِ كفايَةٌ لِمَن أَخَذَ بِهِ ، وَ أَنا ذاكِرٌ مِن أَمرِ الجِماعِ ما هوَ صَلاحُ الجَسَدِ وَ قَوامُهُ بِالطَّعامِ وَ الشَّرابِ ، وَ فَسادُهُ بِهِما ، فَإِن أَصلَحتَهُ بِهِما صَلَحَ ، وَ إِن أَفسَدتَهُ بِهِما فَسَدَ .
[في قوام الجسد و فساده ]
۰.وَ اعلَم يا أَميرَ المُؤمِنينَ : أَنَّ قُوى النَّفسِ تابِعَةٌ لِمزاجاتِ الأَبدانِ ، وَ مِزاجاتُ الأَبدانِ تابِعَةٌ لِتَصَرُّفِ الهَواءِ ، فَإِذا بَرَدَ مَرَّةً ، وَ سَخَنَ أُخرى ، تَغَيَّرَت بِسَبَبِهِ الأَبدانُ وَ الصُّوَرُ ، فَإِذا استَوى الهَواءُ ، وَ اعتَدَلَ ، صارَ الجِسمُ مُعتَدِلاً ؛ لِأَنَّ اللّهَ عز و جل بَنى الأَجسامَ عَلى أَربَعِ طَبائِعٍ : عَلى الدَّمِ ۳ ، وَ البَلغَمِ ، ۴ وَ الصَّفراءِ ۵ ، وَ السَّوداءِ ۶ . فَاثنانِ حارَّانِ ، وَ اثنانِ بارِدانِ ، وَ خُولِفَ بَينَهُما ، فَجُعِلَ حارٌّ يابِسٌ ، وَ حارٌّ لَيِّنٌ ، وَ بارِدٌ يابِسٌ ، وَ بارِدٌ لَيِّنٌ . ثُمَّ فُرِّقَ ذلِكَ عَلى أَربَعَةِ أَجزاءٍ مِنَ الجَسَدِ : عَلى الرَّأسِ ، وَ الصَّدرِ ، وَ الشَّراسيفِ ۷ ، وَ أَسفَلِ البَطنِ .
وَ اعلَم يا أَميرَ المُؤمِنينَ : أَنَّ الرَّأسَ ، وَ الأُذنَينِ ، وَ العَينَينِ ، وَ المَنخَرَينِ ، وَ الأَنفَ ، وَ الفَمَ مِنَ الدَّمِ ۸ ، وَ أَنَّ الصَّدرَ مِنَ البَلغَمِ وَ الرِّيحِ ، وَ أَنَّ الشَّراسيفَ مِنَ المِرَّةِ الصَّفراءِ ، وَ أَنَّ
1.البطائح : أي المياه الرّاكدة فيها . و في القاموس المحيط : البطيحة و البطحاء والأبطح : مسيل واسع فيه دقاق الحصا ، والجمع : أباطح و بطاح وبطائح ( راجع القاموس المحيط : ج۱ ص۲۱۶ ) .
2.السّباخ : جمع سبخة ، أي : الأرض ذات الملح و النّز ( القاموس المحيط : ج۱ ص۲۶۱) .
3.الدّم : يشتمل إضافة إلى ما ذكر على القلب والعروق و توابعهما .
4.البلغم : يضمّ الجهاز التّنفّسي بمجاريه و الرّئتين و القصبات الهوائيّة و توابعها .
5.الصّفراء : تشمل الجهاز الهضمي و الكبد و المرارة و الطّحال و البنكرياس و توابعها .
6.السّوداء : تشمل الكلى و المجاري البوليّة و التّناسليّة و توابعها .
7.الشّرسوف ـ كعصفور ـ : غضروف معلّق بكلّ ضلع ، أو مقط الضّلع ، وهو الطّرف المشرف على البطن ( القاموس المحيط : ج۳ ص۱۵۷ ) .
8.كأنّه عليه السلام خصّ الدّم بهذه الأعضاء لأنّه لكثرة العروق و الشّرايين فيها يجتمع الدّم أكثر من غيرها ، و لأنّها محلّ الإحساسات و الإدراكات ، و هي إنّما تحصل بالروح الّذي حامله الدّم . و خصّ البلغم بالصّدر لاجتماع البلاغم فيها من الدّماغ و سائر الأعضاء ، و تكثر الرّيح فيها باستنشاق الهواء . و خصّ الشّراسيف بالصّفراء لقرب الحرارة الّتي هي مجتمع الصّفراء منها ، أو لكون تلك المرّة أدخل في خلقها . و خصّ أسفل البطن بالسّوداء لأنّ الطّحال الّذي هو محلّها فيه .