247
موسوعة الأحاديث الطّبيّة ج1

تَفَكَّر في تَقديرِ هذِهِ القُوَى الأَربَعَةِ الَّتي فِي البَدَنِ ، وأفعالِها وتَقديرِها لِلحاجَةِ إلَيها ، وَالإِربِ فيها ، وما في ذلِكَ مِنَ التَّدبيرِ وَالحِكمَةِ ، ولَولاَ الجاذِبَةُ كَيفَ يَتَحَرَّكُ الإِنسانُ لِطَلَبِ الغِذاءِ الَّتي بِها قِوامُ البَدَنِ؟ ولَولاَ الماسِكَةُ كَيفَ كانَ يَلبَثُ الطَّعامُ فِي الجَوفِ حَتّى تَهضِمَهُ المَعِدَةُ؟ ولَولاَ الهاضِمَةُ كَيفَ كانَ يَنطَبِـخُ حَتّى يَخلُصَ مِنهُ الصَّفوُ الَّذي يَغذُو البَدَنَ وَيسُدُّ خِلَلَهُ؟ ولَولاَ الدّافِعَةُ كَيفَ كانَ الثُّفلُ الَّذي تُخَلِّفُهُ الهاضِمَةُ يَندَفِعُ ويَخرُجُ أوَّلاً فَأَوَّلاً؟
أفَلا تَرى كَيفَ وَكَّلَ اللّهُ سُبحانَهُ ـ بِلَطيفِ صُنعِهِ وحُسنِ تَقديرِهِ ـ هذِهِ القُوى بِالبَدَنِ وَالقيامِ بِما فيهِ صَلاحُهُ؟ وسَاُمَثِّلُ لَكَ في ذلِكَ مِثالاً : إنَّ البَدَنَ بِمَنزِلَةِ دارِ المَلِكِ ، ولَهُ فيها حَشَمٌ وصَبيَةٌ وقُوّامٌ مُوَكَّلونَ بِالدّارِ ، فَواحِدٌ لاِءِقضاءِ حَوائِجِ الحَشَمِ وإيرادِها عَلَيهِم ، وآخَرُ لِقَبضِ ما يَرِدُ وخَزنِهِ إلى أن يُعالَجَ ويُهَيَّأَ ، وآخَرُ لِعِلاجِ ذلِكَ وتَهيِئَتِهِ وتَفريقِهِ ، وآخَرُ لِتَنظيفِ ما فِي الدّارِ مِنَ الأَقذارِ وإخراجِهِ مِنها ، فَالمَلِكُ في هذا هُوَ الخَلاّقُ الحَكيمُ مَلِكُ العالَمينَ ، وَالدّارُ هِيَ البَدَنُ ، وَالحَشَمُ هِيَ الأَعضاءُ ، وَالقُوّامُ هِيَ هذِهِ القُوَى الأَربَعُ .
ولَعَلَّكَ تَرى ذِكرَنا هذِهِ القُوَى الأَربَعَ وأفعالَها بَعدَ الَّذي وَصَفتُ فَضلاً وتَزداداً ، ولَيسَ ماذَكَرتُهُ مِن هذِهِ القُوى عَلَى الجِهَةِ الَّتي ذُكِرَت في كُتُبِ الأَطِبّاءِ ولا قَولُنا فيهِ كَقَولِهِم ؛ لِأَ نَّهُم ذَكروها عَلى ما يُحتاجُ إلَيهِ في صَناعَةِ الطِّبِّ وتَصحيحِ الأَبدانِ ، وذَكَرناها عَلى ما يُحتاجُ في صَلاحِ الدّينِ وشِفاءِ النُّفوسِ مِنَ الغَيِّ ، كَالَّذي أوضَحتُهُ بِالوَصفِ الشّافي ، وَالمَثَلِ المَضروبِ مِنَ التَّدبيرِ وَالحِكمَةِ فيها . . .
فَكِّر ـ يا مُفَضَّلُ ـ في طُلوعِ الشَّمسِ وغُروبِها لاِءِقامَةِ دَولَتَيِ النَّهارِ وَاللَّيلِ . . . فَلَولا غُروبُها لَم يَكُنِ لِلنّاسِ هَدءٌ ولا قَرارٌ مَعَ عِظَمِ حاجَتِهِم إلَى الهَدءِ وَالرّاحَةِ ، لِسُكونِ أبدانِهِم ، وجُمومِ حَواسِّهِم ، وانبِعاثِ القُوَّةِ الهاضِمَةِ


موسوعة الأحاديث الطّبيّة ج1
246

وتَعمَلَ ما هُوَ ألطَفُ مِن عَمَلِ المَعِدَةِ ، إلاَّ اللّهَ القادِرَ؟ أتَرَى الإِهمالَ يَأتي بِشَيءٍ مِن ذلِكَ؟ كَلاّ ، بَل هُوَ تَدبيرٌ مِن مُدَبِّرٍ حَكيمٍ قادِرٍ ، عَليمٍ بِالأَشياءِ قَبلَ خَلقِهِ إيّاها ، لايُعجِزُهُ شَيءٌ وهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ . . .
جَعَلَ اللّهُ سُبحانَهُ المَنفَذَ المُهَيَّأَ لِلخَلاءِ مِنَ الإِنسانِ في أستَرِ مَوضِعٍ مِنهُ ، فَلَم يَجعَلهُ بارِزا مِن خَلفِهِ ، ولا ناشِرا مِن بَينِ يَدَيهِ ، بَل هُوَ مُغَيَّبٌ في مَوضِعٍ غامِضٍ مِنَ البَدَنِ ، مَستورٌ مَحجوبٌ ، يَلتَقي عَلَيهِ الفَخِذانِ ، وتَحجُبُهُ الأَليَـتانِ بِما عَلَيهِما مِنَ اللَّحمِ فَيُوارِيانِهِ ، فَإِذَا احتاجَ الإِنسانُ إلَى الخَلاءِ وجَلَسَ تِلكَ الجِلسَةَ ألفى ذلِكَ المَنفَذَ مِنهُ مُنصَبّا مُهَيَّئا لاِنحِدارِ الثُّفلِ ، فَتَبارَكَ اللّهُ مَن تظاهَرَت آلاؤُهُ ولا تُحصى نَعماؤُهُ ! . . .
تَأَمَّلِ الرِّيقَ وما فيهِ مِنَ المَنفَعَةِ ؛ فَإِنَّهُ جُعِلَ يَجري جَرَيانا دائِما إلَى الفَمِ ، لِيَبُلَّ الحَلقَ واللَّهَواتِ ۱ فَلا يَجِفَّ ؛ فَإِنَّ هذِهِ المَواضِعَ لَو جُعِلَت كَذلِكَ كانَ فيهِ هَلاكُ الإِنسانِ ، ثُمَّ كانَ لا يَستَطيعُ أن يُسيغَ طَعاما إذا لَم يَكُن فِي الفَمِ بَلَّةٌ تُنفِذُهُ ، تَشهَدُ بِذلِكَ المُشاهَدَةُ .
وَاعلَم أنَّ الرُّطوبَةَ مَطِيَّةُ الغِذاءِ . وقَد تَجري مِن هذا البَلَّةِ إلى مَوضِعٍ آخَرَ مِنَ المُرَّةِ ، فَيَكونُ في ذلِكَ صَلاحٌ تامٌّ لِلإِنسانِ ، ولَو يَبِسَتِ المُرَّةُ لَهَلَكَ الإِنسانُ . . .
اِعلَم أنَّ فِي الإِنسانِ قُوىً أربَعا : قُوَّةً جاذِبَةً تَقبَلُ الغِذاءَ وتورِدُهُ عَلَى المَعِدَةِ ، وقُوَّةً مُمسِكَةً تَحبِسُ الطَّعامَ حَتّى تَفعَلَ فيهِ الطَّبيعَةُ فِعلَها ، وقُوَّةً هاضِمَةً ؛ وهِيَ الَّتي تَطبُخُهُ وتَستَخرِجُ صَفوَهُ وتَبُثُّهُ فِي البَدَنِ ، وقُوَّةً دافِعَةً تَدفَعُهُ وتَحدِرُ الثُّفلَ الفاضِلَ بَعدَ أخذِ الهاضِمَةِ حاجَتَها .

1.اللَّهَوات : جمع لهاة؛ وهي اللّحَمَات في سقف أقصَى الفم (النهاية ، ج۴ ، ص۲۸۴).

عدد المشاهدين : 210597
الصفحه من 421
طباعه  ارسل الي