211
الرواشح السماوية

قال الكرماني في شرح صحيح البخاري :
قال النووي : هو بهمزة الاستفهام الإنكاري ، أي أنْكِروا على من قال : لاتكتبوه ، أي لاتجعلوا [ أمره ]كأمرِ مَنْ هذى في كلامه . وإن صحّ بدون الهمزة فهو أنّه لمّا أصابه الحيرة والدهشة لعِظَم ما شاهده من هذه الحالة الدالّة على وفاته وعظم المصيبة ، أجرى الهجر مجرى شدّة الوجع .
أقول : هو مجاز ؛ لأنّ الهذيان الذي للمريض مستلزم لشدّة الوجع فأطلق الملزوم وأراد اللازم ، أو هو من الهجر ضدّ الوصل ، أي هجر من الدنيا . وأطلق بلفظ الماضي ؛ لما رأوا فيه من علامات الهجرة من دار الفناء . وفي بعضها أهْجر من باب الإفعال . ۱ انتهى كلامه .
قلت : ممّا لايخفى على المتدرّب في الفنون العربيّة ، والعلوم اللسانيّة أنّ ما بمعنى «الهجرة» من مكان إلى آخر إنّما هو «هاجَرَ» على وزن فاعَلَ من المفاعلة ، لا «هجر» على وزن فعل ، أو «أهجر» على وزن أفعل ، فإنّهما من الهُجْر بمعنى الهذيان ، والإهجارِ بمعنى الفحش والتخليط ، كما أنّ الفِعل من ضدّ الحَضَر من بلد مثلاً إلى آخَرَ : سافر يسافر ، لا سفر يسفر ، أو أسفر ـ يُسفر ، فإنّهما من السفارة بمعنى الرسالة والكتابة ، والإسفارِ بمعنى الإضاءة والإشراق .
وأمّا «الهَجْر» ضدّ الوصل ، فالصحيح فيه : هجر فلانٌ فلانا يهجره هجرا ، لا هجر فلان من بلد كذا أو من مقام كذا ، وكذلك «سفر» فهو سافِرٌ ، فالصحيح فيه أنّه من السَفْر ـ بالتسكين ـ بمعنى الخروج إلى السفَر لا بمعنى السفَر والمسافرة من بلد إلى بلد .
فتوجيه الكرماني تصحيف غلط معنوي . وإنّما كان يتصحّح له وجه لو كان قال عمر : ما شأنه؟ أهَجَرَنا؟ على أنّ فيه أيضا من البشاعة ما لايتكلّفه ذو ذوق صحيح .
وأمّا تأويل النووي ففيه تصحيفان غلطان : لفظي ومعنوي ، وكيف يصحّ صوغ

1.صحيح البخاري بشرح الكرماني ۱۶ : ۲۳۵ ، كتاب بدء الخلق .


الرواشح السماوية
210

فأمّا المصحّف المعقول المعنوي فهو ما لايكون في اللفظ تصحيف أصلاً لا من تلقاء السمع ولامن تلقاء البصر ؛ بل إنّما يكون مصحّفا من جهة معناه ، ومحرّفا عن سبيل مغزاه لاغير .
كحديثه صلى الله عليه و آله المرويّ لدى العامّة والخاصّة من طرق عديدة وثيقة : «عليٌّ منّي مثل رأسي من بدني» ۱ أي نازل منّي منزلة الرأس من البدن ، ونسبته إليّ نسبة الرأس إلى البدن كما في حديث المنزلة :«أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» . ۲
قال الكرماني في شرح صحيح البخاري تسمّى هذه ب «منِ» الاتّصاليّةِ . ۳ وبعضهم يسمّيها «مِن» المنزلةَ و«من» النسبيّةَ ، وهي بمدخولها غير صالحة للخبريّة ولتمام الكلام بها ، بل تكون أبدا إمّا من تتمّة ما في حيّز الموضوع أو من تتمّة ما في حيّز المحمول .
فبعض المصحّفين المحرّفين من الذين يحرّفون الكلم عن مواضعها صحّفها ب «من» التبعيضيّة أو الابتدائيّة وحرّف المعنى عن سبيله وجعل «منّي» تمامَ الكلام ، أي عليٌّ من جملتي ، كما الرأس من جملة البدن ، أو من قبلي ، أو من جنبتي كما الرأس من جنبة البدن ومن قِبَله .
ومن التصحيفات الفاضحة المعنويّة ما لعلماء العامّة في حديث مرض النبيّ صلى الله عليه و سلم : «ائتوني بدواة وقرطاس أكتبْ لكم كتابا لاتضلّوا بعدي» . وقال عمر : ما شأنه أهْجَر ـ أو ـ هجَر؟ ۴

1.حكاه عن العامّة مناقب آل أبي طالب ۲ : ۲۱۷ وانظر بحار الأنوار ۳۸ : ۳۲۷ .

2.صحيح البخاري ۴ : ۱۶۰۲ ، ح ۴۱۵۴ ، باب غزوة تبوك ؛ كنز العمّال ۵ : ۷۲۴ ، ح ۱۴۲۴۲ .

3.صحيح البخاري بشرح الكرماني ۱۴ : ۲۴۵۵ ، ح ۳۴۷ ، كتاب بدء الخلق . وقال فيه : «أي نازلاً مني منزلة والباء زائدة» .

4.صحيح البخاري ۱ : ۵۴ ، ج ۴ : ۱۶۱۲ ، ح ۴۱۶۸ ، كتاب المغازي .

  • نام منبع :
    الرواشح السماوية
    المساعدون :
    قيصريه ها، غلامحسين؛ الجليلي، نعمة الله؛ محمدي، عباس؛ رضا نقي، غلام
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1422 ق / 1380 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 86292
الصفحه من 360
طباعه  ارسل الي