13
المناهج الروائية عند شريف المرتضي

تمهيـد

بعد وفاة زعيم الطائفة الحقّة الشيخ المفيد قدس سره انتهت الزعامة الفكرية للشيعة الإمامية إلى عميد الطائفة الإمامية الشريف المرتضى قدس سره ( 335 ـ 436 ه. ق ) ، والّذي كان في وقتها يتولّى نقابة الطالبين ۱ وإمارة الحجّ ، وديوان المظالم، ۲ ومنصب قاضي القضاة، ۳ كما وأنّه يتصل من حيث النسب بالإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، ومع هذا كلّه فهو يمتلك من الثقافة والمعارف والعلوم ما تجعله مؤهلاً لأن يحظى بمكانة خاصّة على الصعيدين الشعبي والرسمي، إذ إنّه كان قد حاز على العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه، وكان أكثر أهل زمانه أدبا وفضلاً .
كما أنّه أخذ يجري على تلامذته رزقا كلّ بنسبته، ۴ فقد كان يجري على شيخ الطائفة قدس سرهاثني عشر دينارا شهريا ، بينما كان راتب القاضي ابن البرّاج عبدالعزيز قدس سرهثمانية دنانير شهريا. ۵
وكان للمرتضى مجلس يناظر فيه كلّ المذاهب، ۶ ممّا وفّر له الأجواء الفكريّة
المشبّعة بالإبداع والمهارة في فن الخطابة والحوار ، وطرح الرأي والدفاع عنه.
فالشريف المرتضى رحمه الله كان يعيش أجواء الانفتاح الفكري بين مختلف المذاهب الإسلاميّة، يناظر العلماء ، ويردّ الشبهات، ويدافع عن مذهبه بكلّ ما اُتي من علمٍ ومعرفةٍ ، وقد كانت للشريف المرتضى قدس سرهمكتبة عامرة ، يقول عنها أبو قاسم التنوخي: « حصرنا كتبه فوجدنا ثمانين ألف مجلّد من مصنفاته ومحفوظاته ومقروءاته »، ۷ حتّى قيل: إنّها قد قومت بثلاثين ألف دينار، بعد أن أخذ منها الوزراء والرؤساء شطرا عظيما . ۸
ومعلوم أنّ الشريف المرتضى قدس سره كان شاعرا مجيدا ، له ديوان شعر سطر فيه أروع القصائد .
وإنّ كلّ تلك المؤهلات الّتي اتّصف بها الشريف المرتضى قدس سره والجو الفكري السائد في ذلك العصر ، وتوفّر النادر من الكتب والمخطوطات أثرت تأثيرا مباشرا وكبيرا على شخصية مترجمنا، ومنحته القدرة في أن يبلغ مرحلة النضوج العلمي، وأهلته لأن يكون فيما بعد علما من أعلام التشيع .
وكان لحلقات الدروس والأمالي الّتي كان يميلها السيّد المرتضى قدس سره على جهابذة مفكري الإسلام للمذاهب الإسلاميّة المختلفة أثراً كبيراً في تكوين شخصيته العلمية، والإحاطة بالآراء العلمية عن قرب، ومعرفتها من ألسنة أئمتها وأعلامها المشهورين.
والمتتبع لحياة السيّد المرتضى قدس سره في أيّام دراسته الاُولى ببغداد وفيما بعد ذلك ، يستطيع القول بأنّ عوامل عديدة استطاعت أن تصقل ثقافته، وتمنحه هذه المكانة العلمية الكبيرة والمتميزة الّتي يمكننا إجمالها فيما يلي:
1 . المؤهلات الذاتية الّتي يمتلكها السيّد المرتضى قدس سره من ذكاء وفطنة وسرعة حافظة ، ولعلّ نظرة واحدة في كتابه الأمالي توضح للقارئ ما حظي به من موهبة وعقلية عالية، فهو يروي خطبا ، أو رسائل كاملة ، أو أحاديث مطوّلة على ظهر قلبه ، وأشعارا كثيرة ولغات واشتقاقات دقيقة، الأمر الّذي يؤكّد قوة الحافظة لديه، وتمكنه من الاستيعاب، وقدرته على الإلقاء والتلقّي.
2 . توفّر للسيّد المرتضى قدس سره من الأساتذة ما لم يتوفّر لغيره من الأعلام، فاغترف من علومهم الكثير من المعارف الإسلامية .
3 . توفّرت للسيّد المرتضى قدس سره مكتبات ودور علم زاخرة بجميع المصنفات النفيسة، وفي مختلف الفنون والعلوم والآداب ما أهله لأن يغترف من محتوياتها وكتبها ، وهذا ما اكتسبه ثقافة واسعة .
ومن أهمّ تلك المكتبات مكتبة الوزير البويهي شابور بن أردشير، والّتي كانت تضم أكثر من عشرة آلاف مجلّد، ۹ والمكتبة الاُخرى هي المكتبة الّتي أسّسها هو قدس سره ، والّتي كانت تمنح الطلاب ما يحتاجون إليه من وسائل مادية، والّتي كان فيها ثمانون ألف مجلّد. ۱۰
4 . التقارب بين علماء المذاهب الإسلاميّة المختلفة، وما سبب ذلك من انفتاح فكري بين مختلف الطوائف الإسلاميّة ، يظهر جليا من خلال المناظرات والمناقشات وشيوع الجدل والحوار في المسائل المختلف عليها، وهذا ما يشجع على التعمّق والاستقصاء لإثراء الموضوعات وإشباعها بحثا وتفصيلاً ، وكان للشريف المرتضى أيضا مجلس يناظر عنده في كلّ المذاهب. ۱۱
5 . نشوؤه في بغداد ، هو الّذي هيِئ له أن يكون موفقاً في دراسته ، حيث كانت هذه المدينة في وقتها ملتقى لرجال الفكر والعلم والأدب ، وعاصمة للدولة ، ومقرّا للخلافة ، ومركزا للحضارة الإسلاميّة العظيمة ، ۱۲ وكان التنافس فيها بين الدارسين على أشده ؛ لذلك نبغ فيها الكثيرون من الفقهاء، بالإضافة إلى ذلك فقد كانت التسهيلات للطلبة الوافدين إلى بغداد مبذولة ، حيث يجد الطلاب المقام والمأوى.
وعلى كلّ حال فالإفاضة في ترجمة السيّد الشريف المرتضى قدس سره أمر تقتضيه بديهة التعريف به، وتمليه طبيعة البحث للوقوف على جوانب هامّة من عناصر شخصيته الفذّ، تلك الشخصية الملمة، الجامعة لخصال الخير، ومزايا العلم والأدب والفضل والفقه والاُصول والكلام. فالشريف المرتضى قدس سرهعالم واسع المعرفة دقيق النظر، واسع المعرفة بطرق الاستدلال ومداخلات الكلام ، غزير الاطّلاع ، ملم بفنون جَمّة من الثقافة الإسلاميّة والشيعية بالخصوص . والمعرفة الإنسانية في عصره بلغت فيه الحضارة الإسلاميّة بشتّى فروعها وأفانينها مبلغا عظيما من الرقي والازدهار في العلوم والفنون والآداب والكلام والفقه والاُصول والفلسفة والشعر، حتّى تميز القرن الرابع الهجري بطابع خاص، صنفت في خصائصه الكتب الكثيرة، وأفردت فيه المؤلّفات الضخمة ، فهو فقيه مسلم بين فقهاء الإمامية ، وأحد أعمدتها في الفتيا والاستدلال ، ومتكلّم محافظ على اُصول المذهب الاثني عشري ، وأديب وشاعر مفلق.
والشريف المرتضى قدس سره عاش في تلك الحقبة من ذلك الزمن الزاهر، والزاخر بالعلوم والمعارف والآداب.
كان رحمه الله فقيه الإمامية ومتكلّمها وأديبها ومرجعها في ذلك العصر بعد وفاة اُستاذه الجليل الفقيه المتكلّم محمّد بن محمّد بن النعمان، المعروف بابن المعلم، والمشهور
بالشيخ المفيد قدس سره ، وهو المبرز بين تلامذته حتّى على الشيخ الطوسي قدس سرهوأشباهه . ولنا من كتابه الشافي في الإمامة أبلغ حجّة على تعمّقه في علم الكلام، وأوضح دلالة على براعته في فن الحِجاج والمناظرة في كلّ المذاهب ، كما قال ذلك ابن الجوزي في المنتظم. ۱۳
أمّا في الفقه والاُصول، ففي كتبه الانتصار ومسائل الخلاف والناصريات ، ورسائله الوافرة ، ومسائله الجمّة وكتبه النادرة ، خير مثال على فقهه الواسع وتعمّقه الدقيق وتتبعه الشامل.
وأمّا في الأدب واللغة والتفسير والتاريخ والتراجم، فكتابه الأمالي المسمّى : غرر الفوائد ودرر القلائد ، أسطع برهان على سعة معرفته في هاتيك الفنون.
وليست بنا حاجة إلى التدليل على شدّة عارضته في الشعر ، وتفننه في أغراضه ، وتفهمه لمعانيه ومقاصده، بعد سِبر ديوانه الّذي يضم بين دفتيه قرابة أربعة عشر ألف بيت من الشعر، فضلاً عمّا جمعه ونظمه في أبواب خاصّة، وأغراض مفردة ، مثل مجموعته في الشيب والشباب المسمّاة « الشهاب » ، وما جمعه ونظمه في « طيف الخيال » و « صفة البرق » ، إلى غير ذلك .
فالإسهاب في ترجمته محلها غير هذه المقدّمة ، ولا تتسم به ظروف هذا العصر من ميسم السرعة وطابع الاختصار، فالّذي سنتعرض لذكره يكون مفتاحا لمصاريع واسعة، أو رمزا إلى مباحث مترامية الأطراف تطلّ على آفاق رحبة من مزايا هذا العالِم المتكلّم، والفقيه الأوحد، والفيلسوف الإسلامي البارع، والأديب الألمعي، والشاعر المفلق ، وأخيرا المفسّر الإلهي والمحدّث العقلي ، والمتتبع مجال آخر، وكم ترك الأوّل للآخر !

1.المنتظم : ج ۸ ص ۱۲۰ ، تاريخ بغداد : ج ۱۱ ص ۴۰۲ .

2.مستدرك الوسائل : ج ۳ ص ۵۱۶ ، عمدة الطالب : ص ۱۹۴.

3.مستدرك الوسائل : ج ۳ ص ۱۶.

4.لؤلؤة البحرين : ص ۲۵۹.

5.روضات الجنات (رحلي) : ص ۳۸۳ ، لؤلؤة البحرين : ص ۳۱۷ .

6.البداية والنهاية : ج ۱۲ ص ۵۳.

7.مقدّمة أمالي الطوسي للسيّد بحر العلوم : ج ۱ ص ۹.

8.دمية القصر : ص ۷۵ .

9.خطط الشام لمحمّد كرد علي : ج ۶ ص ۱۸۵.

10.عمدة الطالب : ص ۱۹۵ .

11.المصدر السابق : ص ۵۳ .

12.محاضرات في الشعر الفارسي لعلي أكبر الفيّاض : ص ۹۷ .

13.المنتظم : ج ۸ ص ۱۲۰.


المناهج الروائية عند شريف المرتضي
12
  • نام منبع :
    المناهج الروائية عند شريف المرتضي
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1427 ق / 1385 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 76330
الصفحه من 358
طباعه  ارسل الي