167
المناهج الروائية عند شريف المرتضي

تمهيـد

ركّز الشريف المرتضى قدس سره على منحيين في منظومته الكلامية:
المنحى الأوّل: منازلاته مع القاضي عبدالجبّار المعتزلي ، المنظّر الكبير للفكر الاعتزالي ، وبالخصوص في كتابه المغني في أبواب التوحيد والإمامة وبالأخصّ ما يتعلّق منه بالإمامة ( المجلد العشرون بقسميه الأوّل والثاني ) .
المنحى الثاني : منهج المنطق التنزيهي المطابق للاُصول العقلية عند الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، وبالخصوص في كتابه القيّم تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام .
وهناك الكثير من التفاتاته العقلية في الاُصول الاعتقادية مبثوثة في رسائله وذخيرته وأماليه ، وهي مجموعة كبيرة من الاُسس والمناهج الاعتقادية . والكلّ ـ مع المنحيين السابقين ـ مجموعة عقائدية متكاملة في باب الاُصول الاعتقادية الشيعية .
ونحن في هذا العرض سوف نتوخى الاُسس الروائية في المنهجية الاعتقادية للشريف المرتضى قدس سره ونذكر تعريفا مختصرا لكلّ من الشافي والمغني وتنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام والذخيرة ؛ لنحيط بالأجواء العلمية لكلّ كتاب.
ثمّ نعرّج على أصل الاعتقادات وننقّح المطالب بصورة كلّية ؛ لنخرج باُصول كلّية تشخّص لنا المنهج العقائدي والروائي ، ومقدار معطيات اُصول العقائد الشيعية ، ومدى استجوابها ـ في فكر الشريف المرتضى قدس سره طبعا ـ للإشكالات المذهبية
والرؤي العقلية والروائية.
فنقول ـ وباللّه التوفيق ـ : يعتبر كتاب الذخيرة في علم الكلام من الكتب المهمّة في علم الكلام والشيعي منه بالخصوص ، وقبله قد كتب الشريف المرتضى قدس سرهالملخّص ـ الّذي لازال مخطوطا ـ ولكن هناك بعض الفوارق بين الكتابين ، فإنّ كتاب الذخيرة شديد الاختصار في أوائله تعويلاً على ماجاء في الملخّص ، وفيه بسط في أواخره سدّا للفراغ الموجود بسبب عدم إتمام الكتاب الأوّل. مع امتياز الثاني بشموله على جلّ الأبواب الكلامية من التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد ، وما يتّصل بها من سائر المسائل المبحوث عنها في الكتب المعنية بعلم الكلام.
يقول الشريف المرتضى قدس سره في آخر كتاب الذخيرة: «وبين أوائل هذا الكتاب وأواخره تفاوت ظاهر ، فإنّ أوّله على غاية الاختصار، والبسط والشرح معتمدان في أواخره . والعذر في ذلك : أنّا بدأنا بإملائه والنية فيه الاختصار الشديد تعويلاً على أنّ الاستيفاء والاستقصاء يكونان في كتاب الملخّص ، فلمّا وقف تمام إملاء الملخّصـ لعوائق الزمان الّتي لا تملك ـ تغيّرت النية في كتابنا هذا ، وزدنا في بسطه وشرحه، وإذا جمع بين ماخرج من كتاب الملخّص وجعل ما انتهى إليه كأنّه لهذا الكتاب وجه بذلك الكلام في جميع أبواب الاُصول مستوفي مستقصى». ۱
في صدر الكتاب قد ذكر اسم الذخيرة هكذا : كتاب ذخيرة العالم وبصيرة المعلم ، وهو من تتمة كتاب الملخّص في أصول الدين » .
ويحتوي كتاب الذخيرة على أسمى المناهج الروائية ـ كما يأتي البحث عنها في ذلك مفصّلاً ـ من قبيل ضروب الأخبار ومنهج الخبر المتواتر ، والقياس المنطقي في الأدلّة الاعتقادية ، والاتّفاق على أصل الخبر ، والاختلاف في التأويل.
أمّا بالنسبة إلى رسائله فقد خرجت مجاميع أربعة منها وقد احتوت على أغنى
المباحث المنهجية في العلوم العقائدية . وسوف يأتي من خلال البحث تفصيل هذه المناهج كالعمل بالظواهر إلاّ لضرورة ، والعدول عن الظاهر ؛ لأنّه يلزم منه المحال ، وكذلك العمل بالظواهر ، وترك التأويل ، والمسائل العلمية ، ومنطق الأخبار وغيرها من المباحث المنهجية.
والمهمّ هنا هو التنبيه على أنّ الشريف المرتضى قدس سره لم يخالف اُسسه المنهجية المتعارفة في جميع كتبه ورسائله إلاّ في طريقة البحث والعرض. وقد انفرد بمناهج لا نشاهدها في الفصول والفروع السابقة واللاحقة.
نعم ، هناك تهافت مصداقي في بعض المباحث الّتي يطرحها الشريف المرتضى قدس سره ، وقد نقدنا بعض مناهجه المعرفية الاعتقادية في هذا الفصل ؛ لأهميتها وتأثيراتها على الرأي العام . نعم في الاُصول الثابتة لم يعدل الشريف المرتضى قدس سرهعن شيء من مباينه ، وخصوصا الاُصول العقلية الثابتة عنده ، ولكن في تطبيق المصاديق يقع في بعض الإشكالات ـ كما يأتي ذلك ـ.
وهذا التهافت نشهده في أماليه غرر الفوائد ودر القلائد ، ولكن الرصانة والتحقيق الدقيق نلمسها في كتاب الذخيرة وبعض مباحث رسائله ، ويمكن القول أنّ الأماليكان مجلسها عامّا يحضره جمع كثير من مختلف المذاهب الاسلامية ؛ ولذلك راعى فيه الجمع العام بخلاف الذخيرة والرسائل فهي للرعيل الشيعي الإمامي ، فلذلك تختلف مبانيها كما في الأمالي.
أمّا بالنسبة إلى كتاب تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، فهو من الكتب النادرة في التراث الإمامي ، فقد أوّلَ في هذا الكتاب الآيات والأحاديث الدالّة على وقوع كبيرة أو صغيرة من الأنبياء والأئمّة عليهم السلام بتأويلات حسنة ، وبتعبير الشريف المرتضى قدس سره : «عن الذنوب والقبائح كلّها» ، والردّ على من خالف في ذلك على اختلافهم وضروب مذاهبهم.
وتأمّل السيّد الكنتوري قدس سره في ذلك مدعيا أنّه «ربّما أوّلَ الشريف المرتضى قدس سرهبعض الآيات على مذهب غير الإمامية القائلين بعصمة الأنبياء عليهم السلام بعد البلوغ ، أو بعد النبوّة لاقبلها . . . .
واستشهد لذلك : «كما وقع لاُخوة نبي اللّه يوسف عليهم السلام حيث ذكر بعد ذكر ماهو الموافق لمذهبنا أنّه قد قيل: إنّ تلك الأفعال صدرت عنهم في الصغر ، فإن ثبت ذلك يسقط المسألة ، وإنّما أراد سقوط المسألة عند القائلين بعصمة الأنبياء عليهم السلام بعد البلوغ لا قبله» ۲ . ۳
هذه المفارقة العقائدية من الشريف المرتضى قدس سره ليست المفردة الوحيدة في حياته ، فقد نرى الكثير ما هو خلاف مباني الإمامية في جميع مناحيه الفكرية ، وسوف نسلط الضوء عليها إن شاء اللّه في هذا الفصل ، ولنرى مقدار معطيات هذه البحوث في الوسط الشيعي ، ومقدار تفاعل الأطراف معه.
أمّا بالنسبة إلى كتاب المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبدالجبّار ۴ المنظّر الكبير للفكر المعتزلي ، وهو من الزعماء الّذين بلغوا النهاية في جمع الشبه ـ على حدّ تعبير الشريف المرتضى قدس سرهفي مقدّمة كتابه الشافي ـ ورصدها في صالح مذهبه وطعن الطائفة الإمامية.
وكتابه المغني يعدّ من الموسوعات الضخمة والمطوّلة العلمية خصوصا باب الإمامة منه ، فقد أورد فيه قوي ما اعتمده شيوخه مع زيادات يسيرة سبق إليها ،
وتهذيب مواضع تفرّد بها. ۵
من هنا أحسّ بالأهمية البالغة في ذلك العصر لمواجهة هذه الموجة العارمة والمنتشرة في آفاق ربوع الأصقاع الإسلامية ، حتّى نجد أنّ كتاب المغني بإضافة ردّ الشريف المرتضى قدس سره يلخّصه شيخ الطائفة الطوسي قدس سره مرّة اُخرى في تلخيص الشافيبسبك جديد وطرز حديث.
ولا نغالي إذا قلنا : إنّ ردّ الشريف المرتضى قدس سره أفضل أنواع الردّ والمناظرة ، ولولا هذا الردّ من الشريف المرتضى قدس سره لما أمكن ركب هذه الصعبة ؛ فإنّه اعتمد على أقوى الشبه الاعتقادية ـ كما هو دأب المعتزلة في تدقيقاتهم العقلية ـ ، ولكن القوة الفكرية العقائدية للشريف المرتضى قدس سره استطاعت أن تواجه هذه العاصفة.
فتصدى الشريف المرتضى قدس سره لردّ هذا الكتاب بكلّ مناحيه وإشكالاته العقائدية وسجالاته العقلية بكتاب جامع لاُصول الإمامة وفروعها ، ومحيطا بالطرق الاستدلالية والنكت المحررة بما لا يوجد في شيء من الكتب المصنّفة على حدّ تعبير الشريف المرتضى قدس سره ؛ ولذلك قد قال فقيد العلم والأدب الشيخ محمّد جواد مغنية رحمه الله: فتصدى لنقضه الشريف المرتضى في كتاب ضخم أسماه: الشافي ، وقد جاء فريدا في بابه ، وبصورة صادقة لمعارف المرتضى ومقدرته ، أو لمعارف علماء الإمامية وعلومهم في زمنه ـ على الأصحّ ـ [ وقد ] عالج المرتضى مسألة الإمامة من جميع جهاتها كمبدأ ديني واجتماعي وسياسي ، وأثبت بدليل العقل والنقل الصحيح أنّها ضرورة دينية واجتماعية ، وأنّ عليا هو الخليفة الحقّ.... ۶
وقد قسّم القاضي عبدالجبّار اعتراضاته إلى قرآنية وحديثية ، ونحن تعرّضنا إلى القسم الثاني لأجل إخراج المنهجية الحديثية بينه وبين الشريف المرتضى قدس سره ؛ لنرى
مقدار المستنقع الّذي وقع فيه القاضي عبدالجبّار، مراعين شمول البحث للجهات العقائدية، ومقتصرين على محاور الرواية باختصار.
فإنّ الشاخص البارز في حياة الشريف المرتضى قدس سره ـ كما قلنا : ـ هو إطاحته بعميد المعتزلة القاضي عبدالجبّار ، وما تضمّنه كتابه المغني ـ قسم الإمامة ـ وبالأحرى أنّ دعامة إشكالات المعتزلة قد انهارت بانهيار القاضي ، فلم تقم لهم قائمة بعد الشريف المرتضى قدس سرهإلاّ بمقتطفات لابن أبي الحديد. ۷
ونحن في استعراضنا المنهجي لكتاب الشافي سوف نرى سجالاته الروائية في كلّ موضع ، ونأخذ كلّ قضية تضمّنت الحديث عن رواية من الروايات ؛ لنرى كيفية منهجه في الاستفادة من الروايات.
ولابدَّ أن نؤكّد مرّة اُخرى على أن تعاملنا هو في تفسير الروايات الواردة عن النبيّ صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام فقط ، ولا نذكر كلّ خبر عن غيرهم ، بل كان مقصودنا في هذه الدراسة هي رؤية وجهات هذين العلمين في الروايات والأخبار الاعتقادية ومقدار تفسيراتها ومعطياتها ، ولا نتطرّق إلى الحوادث والأخبار التاريخية وغيرها واختلاف وجهات النظر فيها ، وكيف يتم الاستدلال بها أو ردّها .
نعم ، لم يراع الشريف المرتضى قدس سره كباقي المحقّقين التفريق بين الخبر والرواية ، ولكن اقتصرنا هنا على الرواية الواردة عن المعصوم عليه السلام دون الخبر الّذي يشمل غير الإمام المعصوم عليه السلام .

1.الذخيرة في علم الكلام : ص ۶۰۷.

2.كشف الحجب والأستار : ۱۴، رقم ۷۱۴.

3.لا بأس هنا بتحرير موضوع النزاع في هذه الفقرة الّتي أشار إليها السيّد الكنتوري قدس سره رفعا للتهافت الّذي سوف يرتكز في ذهن القارئ ، ولنرى مقدار صحّة هذه الدعوى من السيّد الكنتوري قدس سره ، فنقول: اختلف في نزاهة الأنبياء عليهم السلام عن الذنوب ، فذهبت الإمامية : إلى أنّه لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام شيء من المعاصي والذنوب كبيرا كان أو صغيرا ، لا قبل النبوّة ولا بعدها . ومنعت المعتزلة من وقوع الكبائر والصغائر المستخفية من الأنبياء عليهم السلام قبل النبوّة وفي حالها ، وجوّزت في الحالين وقوع ما لا يستخف من الصغائر. يقول الشريف المرتضى قدس سره توفيقا بين الرأيين: واعلم أنّ الخلاف بيننا وبين المعتزلة في تجويزهم الصغائر على الأنبياء ـ صلوات اللّه عليهم ـ يكاد يسقط عند التحقيق ؛ لأنّهم إنّما يجوّزون من الذنوب ما لا يستقرّ له استحقاق عقاب، وإنّما يكون حظّه تنقيص الثواب على اختلافهم أيضا في ذلك ؛ لأنّ أبا عليّ الجبّائي يقول: إنّ الصغيرة يسقط عقابها من غير موازنة، فكأنّهم معترفون بأنّه لايقع منهم ما يستحقّون به الذمّ والعقاب. وهذه موافقة للشيعة في المعنى ؛ لأنّ الشيعة إنّما تنفي عن الأنبياء عليهم السلام جميع المعاصي من حيث كان كلّ شيء منها يستحقّ به فاعله الذمّ والعقاب ؛ لأنّ الإحباط باطل عندهم، وإذا بطل الإحباط فلا معصية إلاّ ويستحقّ فاعلها الذمّ والعقاب، وإذا كان استحقاق الذمّ والعقاب منفيّا عن الأنبياء عليهم السلام وجب أن تنتفي عنهم سائر الذنوب، ويصير الخلاف بين الشيعة والمعتزلة متعلّقا بالإحباط، فإذا بطل الإحباط فلابدّ من الاتّفاق على أنّ شيئا من المعاصي لايقع من الأنبياء عليهم السلام من حيث يلزمهم استحقاق الذمّ والعقاب، لكنّه يجوز أن نتكلّم في هذه المسألة على سبيل التقدير، ونفرض أنّ الأمر في الصغائر والكبائر على ما تقوله المعتزلة، ومتى فرضنا ذلك لم نجوّز أيضا عليهم الصغائر ؛ لما سنذكره ونبيّنه إن شاء اللّه تعالى ( تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص ۳۴، ۳۵ ) . إذا لا خلاف مع الشريف المرتضى قدس سره في هذه المسألة العقائدية .

4.القاضي عبدالجبار بن أحمدبن عبدالجبّار الهمداني، كان في أول أمره أشعري الاُصول شافعي الفروع. ثمّ تأثّر بمن حضر عندهم من علماء المعتزلة فتحوّل إلى الاعتزال. ومن جملة من أخذ عنهم إسحاق بن عيّاش المعتزلي المتوفى (۳۳۶ ه) وكان ابن عيّاش هذا من معتزلة البصرة من تلاميذ أبي هاشم الجبائي المتوفى (۳۲۱ ه). ثمّ انتقل القاضي المعتزلي إلى بغداد وحضر مجلس أبي عبداللّه الحسين بن علي البصري المتوفى (۴۴۶ ه) مدّة من الزمن ، فكان من أبرز تلامذته حتّى لمع نجمه وطار صيته ، فاستدعاه الصاحب أبوالقاسم إسماعيل بن عباد وزير فخرالدولة البويهي إلى الرأي ، وكان الصاحب واحد زمانه علما وفضلاً وتدبيرا وجودة رأي. فنال القاضي عبدالجبار الحظوة عند الصاحب رحمه الله والمنزلة لديه. ولم يمنع الصاحب مابينهما من الخلاف في المذهب أن يوليه القضاء ويلقّبه بقاضي القضاة ؛ لذلك نرى القاضي عبدالجبّار لم يتق الصاحب رحمه الله ، ولم يتحاشاه ، ولم يرع جانبه ، فأملى آراءه وأقوال مشائخه من المعتزلة في الإمامة بمنتهى الحرية ، وحاول في كتاب الإمامة من المغني أن يفند أقوال الإمامية وعقيدتهم بكلّ ما أوتي من حول وقوة ويشن عليهم حربا شعواء لاهوادة فيها. (انظر : مقدمة الشافي في الإمامة : ج ۱ ص ۸ ـ ۹، ۱۱) .

5.انظر : مقدمة كتاب الشافي في الإمامة : ج ۱ ص ۳۳.

6.انظر مقدّمة الشافي في الإمامة : ج ۱ ص ۱۹.

7.لابدَّ أنّ يعلم أنّ أبا الحسن البصري قد كتب ردّا على الشافي ، وهناك ردود مطوّلة مهمّة للشارح ابن أبي الحديد المعتزلي في كتابه شرح نهج البلاغة علما أنّ هناك ردّا على جميع إشكالات شرح نهج البلاغة للمحدّث الجليل الشيخ البحراني باسم: سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد ، وهو كبير مخطوط.


المناهج الروائية عند شريف المرتضي
166
  • نام منبع :
    المناهج الروائية عند شريف المرتضي
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1427 ق / 1385 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 76341
الصفحه من 358
طباعه  ارسل الي