177
المناهج الروائية عند شريف المرتضي

المناهج الروائية عند شريف المرتضي
176

التوحيد والعدل الكلامي

التوحيد والعدل أصلان من الاُصول الإسلامية ، ومن ركائز العقيدة الإسلامية ، وقد خاض فيهما كلّ فريق بالتأليف والتصنيف ، ومن بين هؤلاء يأتي دور المتكلّمين الّذين كان لهم القسط الأكبر من المعارف الإسلامية الكلامية ، وقد كتب جمعٌ غفيرٌ قبل الشريف المرتضى قدس سره وبعده ، وأطالوا في التصنيف والتأليف في خصوصهما ، وقد كتب الشريف المرتضى قدس سره كتبا كثيرةً في هذا المجال كالملخّص والذخيرة وشرح جمل العلم والعمل والشافي ، وبثّ الكثير من بحوثه الكلامية في أماليه ورسائلة، بل لا نغالي القول بأنّ الشاخص الأكبر في بحوثه هو المسائل الكلامية.
وقد أتى الشريف المرتضى قدس سره بمسألة نافعة في المقام ، وهي : «اعلم أنّ اُصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين ـ صلوات اللّه عليه ـ وخطبه ؛ فإنّها تتضمّن من ذلك ما لا زيادة عليه ، ولا غاية وراءه.
ومن تأمّل المأثور في ذلك من كلامه علم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعد في تصنيفه وجمعه إنّما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الاُصول ، وروي عن
الأئمّة من أبنائه عليهم السلام من ذلك ما يكاد لا يحاط به كثرة ، ومن أحبّ الوقوف عليه وطلبه من مظانه أصاب منه الكثير العزيز ، الّذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة ونتاج للعقول العقيمة » . ۱
ولا يكتفي الشريف المرتضى قدس سره بهذا القدر من القاعدة الكلّية حتّى يأتي بأقوال مجموعة من المتكلّمين ، والّذين انتشرت آرائهم في عالم الإسلام ؛ ليؤكّد صحّة وسقم أقوالهم ، منهم :
الأوّل : الحسن بن أبي الحسن البصري.
يقول الشريف المرتضى قدس سره في حقّه: وأحد من تظاهر من المتقدّمين بالقول بالعدل . . . فمن تصريحه بالعدل مارواه علي بن الجعد . . . وكان الحسن بارع الفصاحة ، بليغ المواعظ ، كثير العلم ، وجميع كلامه في الوعظ وذمّ الدنيا ، أو جلّه مأخوذ لفظا ومعنى ، أو معنى دون لفظ من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فهو القدوة والغاية. ۲
ثمّ ينقل عدّة أخبار في ذلك ويقول قدس سره : «وهذا الباب إن ولجناه اغترفنا من ثبج ۳ بحر زاخر ، أو شؤبوب ۴ غمام ماطر ، وكلّ قول في هذا الباب لقائل إذا اضيف إليه، أو قُويِسَ به كان كإضافة القطرة إلى الغمرة ، أو الحصاة إلى الحرة، وإنّما أشرنا إليه إشارة وأومأنا إليه إيماء ، ثمّ نعود إلى ما كنّا فيه». ۵
الثاني: يقف الشريف المرتضى قدس سره وقفة المتأمّل من الشيخ الكليني رحمه الله وكتابه الكافي ، وخصوصا أبواب التوحيد منه، يقول الشريف المرتضى قدس سره في ضمن أحد
تفاسيره التوحيدية والّتي تقدّمت في تقييم طريقة العمل في الأخبار العقائدية: «وهذا الخبر المذكور ... وإن رواه الكليني رحمه الله في كتاب التوحيد فكم روى هذا الرجل وغيره من أصحابنا ـ رحمهم اللّه تعالى ـ في كتبهم ما له ظواهر مستحيلة أو باطلة». ۶
الثالث: قد نقل الشريف المرتضى قدس سره عدّة تفاسير خبرية وروائية عن ابن قتيبة في عدّة مباحث عقائدية ، وأنّه ـ كما يقول الشريف المرتضى قدس سره ـ قد خلط وأتى بما ليس لمرضي ـ وقد هاجمه الشريف المرتضى قدس سرهمهاجمة شديدة، وأوضح مطبّات بحثه وفكره، حتّى أنّه يقول في بعض استظهارات ابن قتيبة في إحدى الأخبار: «ليس الّذي طعن به ابن قتيبة على تأويل الخبر بشيء». ۷
فتحتم علينا أن نذكر بعض نماذج مطبّاته ؛ لنعرف منهجية الشريف المرتضى قدس سرهفي نقاشه مع بعض مفسري العقائد الإسلامية:
المطبّة الاُولى: في الإشكال الواقع في الخبر الّذي روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله ، حينما قال: «لعن اللّه السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده» .
يقول الشريف المرتضى قدس سره: «فأوّل ما نقوله: إنّ الخبر مطعون عند أصحاب الحديث على سنده، وقد حكى ابن قتيبة في تأويله وجها عن يحيى بن أكثم، طعن عليه، وضعّفه، وذكر عن نفسه وجها آخر، نحن نذكرهما، وما فيهما، ونتبعهما بما نختاره.
قال ابن قتيبة: كنت حضرت يوما مجلس يحيى بن أكثم بمكّة، فرأيته يذهب الى أنّ البيضة في هذا الحديث بيضة الحديد الّتي تغفر الرأس في الحرب، وأنّ الحبل من حبال السفن، قال: وكلّ واحد من هذين يبلغ ثمنه دنانير كثيرة، قال: ورأيته يعجب بهذا التأويل، ويبدي فيه ويعيد، ويرى أنّه قطع به حجّة الخصم.
قال ابن قتيبة: وهذا إنّما يجوز على من لا معرفة له باللغة ومخارج الكلم ، وليس هذا موضع تكثيرٍ لما يأخذه السارق فيصرفه إلى بيضةٍ تساوي دنانير، وحبلٍ لا يقدر السارق على حمله، ولا من عادة العرب والعجم أن يقولوا: قبح اللّه فلانا ! عرّض نفسه للضرر في عقد جوهر، وتعرّض لعقوبة الغلول في جراب مسك، وإنّما العادة في مثل هذا أن يقال: لعنه اللّه ، تعرّض للقطع في حبل رثٍّ، أو إداوة خلق، أو كبّة شعر؛ وكلّ ما كان من ذلك أحقر كان أبلغ.
قال: والوجه في الحديث أنّ اللّه تعالى لمّا أنزل على رسوله صلى الله عليه و آله : «وَالسَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءَم بِمَا كَسَبَا»۸ ، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « لعن اللّه السارق يسرق البيضة فتقطع يده » ، على ظاهر ما أنزل عليه في ذلك الوقت، ثمّ أعلمه اللّه تعالى بعد أنّ القطع لا يكون إلاّ في ربع دينار فمافوقه، ولم يكن عليه السلام يعلَم من حكم اللّه تعالى إلاّ ما علّمه اللّه تعالى، وما كان اللّه يعرّفه ذلك جملة جملة، بل بيّن شيئا بعد شيء.
قال الشريف المرتضى قدس سره: ووجدت أبا بكر الأنباري يقول: ليس الّذي طعن به ابن قتيبة على تأويل الخبر بشيء، قال: لأنّ البيضة من السلاح ليست علما في كثرة الثمن ونهاية علوّ القيمة، فتجري مجرى العقد من الجوهر، والجراب من المسك؛ اللّذين هما ربّما ساويا الألوف من الدنانير، والبيضة من الحديد ربّما اشتريت بأقلّ ممّا يجب فيه القطع، وإنّما أراد عليه السلام أنه يكتسب قطع يده بما لا غنى له به؛ لأنّ البيضة من السلاح لايستغني بها أحد، والجوهر والمسك في اليسير منهما غنىً.
قال الشريف المرتضى قدس سره: والّذي نقوله: إنّ ما طعن به ابن الأنباريّ على كلام ابن قتيبة متوجّه، وليس في ذكر البيضة والحبل تكثير كما ظنّ، فيشبه العقد والجراب من المسك، غير أنّه يبقى في ذلك أن يقال: أيّ وجهٍ لتخصيص البيضة والحبل
بالذكر، وليس هما النهاية في التقليل ؟! وإن كان كما ذكره ابن الأنباريّ، من أنّ المعنى أنّه يسرق ولا يستغنى به؛ فليس ذكر ذلك بأَولى من غيره، ولابدَّ من ذكر وجه في ذلك.
وأمّا تأويل ابن قتيبة فباطل؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لا يجوز أن يقول ما حكاه عند سماع قوله تعالى: «وَالسَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ» ؛ لأنّ الآية مجملة مفتقرة إلى بيان ، ولا يجوز أن يحملها أو يصرفها إلى بعض محتملاتها دون بعض بلا دلالة، على أنّ أكثر من قال: إنّ الآية غير مجملة، وأنّ ظاهر القول يقتضي العموم يذهب إلى أنّ ما اقتضى تخصيصها بسارق دون سارق لم يتأخّر عن حال الخطاب بها، فكيف يصحّ ما قاله ابن الأنباري أنّ الآية تقدّمت، ثمّ تأخّر تخصيص السارق، ولو كان ذلك كما ظنّ لكان المتأخّر ناسخا للآية.
وعلى تأويله هذا يقتضي أن يكون كلّ الخبر منسوخا، وإذا أمكن تأويل أخباره عليه السلام على ما لايقتضي رفع أحكامها ونسخها كان أولى.
والأشبه أن يكون المراد بهذا الخبر أنّ السارق يسرق الكثير الجليل فتقطع يده، ويسرق الحقير القليل فتقطع يده، فكأنّه تعجيز له، وتضعيف لاختياره، من حيث باع يده بقليل الثمن، كما باعها بكثيره.
وقد حكى أهل اللغة أنّ بيضة القوم وسطهم ، وبيضة الدار وسطها ، وبيضة السنام شحمته ، وبيضة الصيف معظمه ، وبيضة البلد الّذي لا نظير له ، وإن كان قد يستعمل ذلك في المدح والذم على سبيل الأضداد ، وإذا استعمل في الذم فمعناه : أنّ الموصوف بذلك حقير مهين ، كالبيضة الّتي تفسدها النعامة فتتركها ملقاةً لا تلتفت إليها. ۹
المطبّة الثانية: الحديث الّذي رواه أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله : « كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه يهودانه أو ينصرانه » .
قال الشريف المرتضى قدس سره: قلنا: أمّا أبو عبيد القاسم بن سلاّم فإنّه قال في تأويل هذا الخبر: سألت محمّد بن الحسن عن تفسيره فقال: كان هذا في أوّل الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، ويؤمر المسلمون بالجهاد.
قال أبو عبيد: كأنّه يذهب إلى أنّه لو كان يولد على الفطرة، ثمّ مات قبل أن ينصّره أبواه ويهوّداه ما ورّثاه، وكذلك لو ماتا قبله ماورّثهما؛ لأنّه مسلم وهما كافران.
وماكان أيضا يجوز أن يسبى، فلمّا نزلت الفرائض وجرت السنن بخلاف ذلك علم أنّه يولد على دين أبويه.
قال أبو عبيد: وأمّا عبداللّه بن المبارك فإنّه قال: هو بمنزلة الحديث الآخر الّذي يتضمّن أنّه عليه السلام سئل عن أطفال المشركين فقال: «اللّه أعلم بما كانوا عاملين» يذهب إلى أنّهم يولدون على ما يصيرون إليه من إسلام أو كفر، فمن كان في علمه تعالى أنّه يصير مسلما؛ فإنّه يولد على الفطرة، ومن كان في علمه أنّه يموت كافرا ولد على ذلك.
قال أبو عبيد: وممّا يشبه هذا الحديث حديثه الآخر أنّه قال: «يقول اللّه عز و جل : إنّي خلقتُ عبيدي جميعا حُنَفَاه، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وجعلت ما أحللته لهم حراما».
قال أبو عبيد: يريد بذلك البحائر والسُّيّب وغير ذلك ممّا أحلّه اللّه تعالى، فجعلوه حراما.
وأمّا ابن قتيبة فقال ـ وقد حكى ما ذكرناه عن أبي عبيد ـ : لست أرى ما حكاه أبو عبيد عن عبداللّه بن المبارك ومحمّد بن الحسن مقنعا لمن أراد أن يعرف معنى
الحديث؛ لأنّهما لم يزيدا على أن ردّا على ما قال به من أهل القدر. ۱۰
ثمّ قال الشريف المرتضى قدس سره : فأمّا الجواب الّذي ذكره ابن قتيبة فقد بينا فساده فيما تقدّم من الأمالي عند تأويلنا قوله تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنم بَنِىءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ»۱۱ وأفسدنا قول من اعتقد أنّه مسح ظهر آدم، واستخرج منه الذرّية، وأشهدها على نفوسها، وأخذ إقرارها بمعرفته بوجوه من الكلام فلا طائل في اعادة ذلك». ۱۲
ويشير مرّة اُخرى إلى ما رواه في ذيل الآية ، حيث قال قدس سره: «وقد ظنّ بعض من لا بصيرة له ولا فطنة عنده أنّ تأويل هذه الآية أنّ اللّه تعالى استخرج من ظهر آدم عليه السلام جميع ذرّيته، وهم في خلق الذرّ، فقرّرهم بمعرفته، وأشهدهم على أنفسهم.
وهذا التأويل ـ مع أنّ العقل يبطله ويحيله ـ ممّا يشهد ظاهر القرآن بخلافه؛ لأنّ اللّه تعالى قال: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنم بَنِىءَادَمَ» ، ولم يقل: من آدم، وقال: «مِن ظُهُورِهِمْ» ، ولم يقل: من ظهره، وقال: «ذُرِّيَّتَهُمْ» ، ولم يقل: ذرّيته؛ ثمّ أخبر تعالى بأنّه فعل ذلك لئلاّ يقولوا يوم القيامة: إنّهم كانوا عن ذلك غافلين، أو يعتذروا بشرك آبائهم، وأنّهم نشؤوا على دينهم وسنّتهم؛ وهذا يقتضي أنّ الآية لم تتناول ولد آدم عليه السلام لصلبه، وأنّها إنّما تناولت من كان له آباء مشركون، وهذا يدلّ على اختصاصها ببعض ذرّية بني آدم، فهذه شهادة الظّاهر ببطلان تأويلهم، فأمّا شهادة العقول فمن حيث لا تخلو هذه الذرّية الّتي استخرجت من ظهر آدم عليه السلام فخوطبت وقرّرت من أن تكون كاملة العقول، مستوفيةً لشروط التكليف، أو لا تكون كذلك .
فإن كانت بالصفة الاُولى وجبَ أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم وإنشائهم، وإكمال
عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال، وما قرّروا به، واستشهِدوا عليه؛ لأنّ العاقلَ لا ينسَى ماجرى هذا المجرى، وإن بَعُد العهدُ وطال الزمان؛ ولهذا لا يجوزُ أن يتصرَّف أحدُنا في بلدٍ من البلدان وهو عاقل كامل ، فينسَى مع بعد العهد جميع تصرّفِه المتقدّم وسائر أحواله. ۱۳
فالإشكال في هذه المطبّة هي أنّ هذا التأويل مع أنّ العقل يبطله ويحيله ممّا يشهد ظاهر القرآن الكريم بخلافه.

1.أمالي المرتضى ( غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج ۱ ص ۱۴۸ .

2.أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ): ج ۱ ص ۱۵۳.

3.ثبج البحر: وسطه أو معظمه.

4.الشؤبوب: الدفعة من المطر.

5.أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ): ج ۱ ص ۱۵۴.

6.جوابات المسائل الطرابلسيات الثالثة : ص ۴۱۰ ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى).

7.أمالي المرتضى (غرر الفرائد ودرر القلائد ): ج ۲ ص ۶.

8.المائدة: ۳۸.

9.أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج ۲ ص ۵ ـ ۷ .

10.أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج ۲ ص ۸۲.

11.الأعراف : ۱۷۲.

12.المصدر السابق : ص ۸۶.

13.أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج ۱ ص ۲۸.

  • نام منبع :
    المناهج الروائية عند شريف المرتضي
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1427 ق / 1385 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 76312
الصفحه من 358
طباعه  ارسل الي