183
المناهج الروائية عند شريف المرتضي

تأويل ظواهر الأخبار

في هذا الحقل يبرز الشريف المرتضى قدس سره نكتة في غاية الأهمية وهي : أنّ التأويل والتفسير يتطرّق إلى الأخبار ولا يتطرّق إلى إجماع وغيره . كما ذكر ذلك في حقيقة الرجعة عندما سئل عن حقيقتها وبالخصوص يضع اليد على ما قاله شذاذ من الإمامية القائلين : بأنّ الرجعة رجوع دولتهم في أيّام القائم عليه السلام من دون رجوع أجسامهم.
يقول الشريف المرتضى قدس سره في جواب هذا السائل: «اعلم إنّ الّذي تذهب الشيعة الإمامية إليه أنّ اللّه تعالى يعيد عند ظهور إمام الزمان المهدي عليه السلام قوما ممّن كان قد تقدّم موته من شيعته؛ ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته، ومشاهدة دولته، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم، فيلتذوا بما يشاهدون من ظهور الحقّ وعلو كلمة أهله». ۱
وبعد بحث قصير حول إثبات ذلك يعرّج على المسألة المهمّة في بحثنا قائلاً قدس سره: «فأمّا من تأوّلَ الرجعة من أصحابنا على أنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي من دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات ، فإنّ قوما من الشيعة لمّا عجزوا عن نصرة
الرجعة وبيان جوازها وأنّها تنافي التكليف ، وعوّلوا على هذا التأويل للأخبار الواردة بالرجعة». ۲
ثمّ يقول الشريف المرتضى قدس سره: «وهذا منهم غير صحيح ؛ لأنّ الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فيتطرّق التأويلات عليها، فكيف يثبت ماهو مقطوع على صحّته بأخبار الآحاد الّتي لاتوجب العلم؟ !
وإنّما المعقول في إثبات الرجعة على إجماع الإمامية على معناها بأنّ اللّه تعالى يحيي أمواتا عند قيام القائم عليه السلام من أوليائه وأعدائه على ما بيّناه فكيف يطرق التأويل على ما هو معلوم، فالمعنى غير محتمل». ۳
فعلى هذا المبنى: إنّ الشيء الّذي لا يثبت بظواهر الأخبار ، بل يثبت باُمور معلومة قطعية كالإجماع في المقام لا يمكن أن يتطرّق إليها التأويل ، وهذا شيء يتلائم مع الاُسس الكلّية الّتي سار عليها الشريف المرتضى قدس سره وهو اعتماده على المعلوم ، وقد اعتبر الإجماع من المعلوم.
وكذلك يقول الشريف المرتضى قدس سره: «و [ما] كان له ظاهر ينافي المعلوم المقطوع به تأوّلنا ظاهره على ما يطبق الحقّ ويوافقه إن كان ذلك سهلاً ، وإلاّ فالواجب إطراحه وإبطاله». ۴
وما قدّمناه من مقطوع المذكور جاء به الشريف المرتضى قدس سره في الإشكال الواقع في الخبر المنسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام عندما قال: «لقد آخى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بين سلمان وأبي ذرّ، ولو اطّلع أبوذرّ على ما في قلب سلمان لقتله».
وكيف يجوز أن يؤاخي النبيّ عليه السلام بين رجلين يستحلّ أحدهما إذا اطّلع على ما في
قلب الآخر دمه ؟!
وما القول فيمن تأوّل هذا القول وهو «قتله» على أنّ الهاء راجعة على ما في قلبه، وأراد: لقتله علما؟
وهل ذلك تأويل جائز أم لا؟
وما القول أيضا فيمن تأوّله على غير هذا الوجه ، فقال: إنّ معنى قوله: «لقتله » ، أي لكدّ فكره وخاطره كدّا يجهده، وأنّه عبّر بالقتل هاهنا على سبيل المبالغة في تعبيره عن شدة المبالغة والمشقّة، كما يقول القائل: قتلني انتظار فلان، ومتّ إلى أن رأيتك، وإلى أن تخلّصت من الشدة الّتي كنت فيها عدّة دفعات، وهو يريد الإخبار عن شدة الكلفة والمشقّة والمبالغة في وصفها.
الجواب ـ وباللّه التوفيق ـ : إنّ هذا الخبر إذا كان من أخبار الآحاد الّتي لا توجب علما ولا تُثلج صدرا، وكان له ظاهر ينافي المعلوم المقطوع به تأوّلنا ظاهره على ما يطابق الحقّ ويوافقه إن كان ذلك سهلاً، وإلاّ فالواجب إطراحه وإبطاله.
وإذا كان من المعلوم الّذي لا يحيل سلامة سريرة كلّ واحد من سلمان وأبي ذر، ونقاء صدر كلّ واحد منهما لصاحبه، وأنّهما ما كانا من المدغلين في الدّين ولا المنافقين ، فلا يجوز مع هذا المعلوم أن يعتقد أنّ الرسول عليه السلام يشهد بأنّ كلّ واحد منهما لو اطّلع على ما في قلب صاحبه لقتله على سبيل الاستحلال لدمه، ويعلم أنّه كان قال ذاك فله تأويل غير هذا الظاهر الّذي لا يليق بهما.
ومن أجود ما قيل في تأويله: إنّ الهاء في قوله: «لقتله» راجع إلى المطَّلِع لا إلى المطَّلَع عليه؛ كأنّه أراد: أنّه إذا اطّلع على ما في قلبه، وعلم موافقة باطنه لظاهره، وشدة إخلاصه له اشتدّ ضنّه ومحبته له، وتمسّكه بمودّته ونصرته، فقتله ذلك الضنّ والودّ، بمعنى أنّه كاد يقتله، كما يقولون: فلان يهوى غيره، وتشتد محبته له حتّى إنّه قد قتله حبه وأتلف نفسه، وما جرى مجرى هذا من الألفاظ.
وتكون فائدة هذا الخبر حسن الثناء من النبيّ عليه السلام على الرجلين، وأنّه آخى بينهما ، وباطنهما كظاهرهما، وسرّهما في النقاء والصفاء كعلانيتهما، حتّى لو أنّ أحدهما اطّلع على ما في قلب الآخر لأعجب به، وكاد يقتله محبّة له، وضنّا به، وهذا أشبه بمنزلة الرجلين في نفوسهما وعند النبيّ عليه السلام ، وأليق بأن يكون مدحا وتقريضا، وذلك الوجه الآخر يقتضي غاية الذم، ونهاية الوصف بالنفاق، وسوء الدخيلة ؛ لأنّ من يظهر جميلاً ـ ولو اطّلع على باطنه لاستحلّ دمه ـ هو عين المنافق المداهن .
فأمّا تأويل هذه اللفظة وحملها على العلم فغير مرضيّ؛ لأنّ المطّلع على ما في قلب غيره لا يكون إلاّ عالما بما اطّلع عليه.
وأيّ معنىً للفظة «قتله» في هذا الموضع ؟! وهل ذلك إلاّ تكرير، وممّا لا فائدة فيه ؟!
فأمّا حمله على أنّه كدّ خاطره، وقسّم فكره فكاد يقتله فممّا المسألة عنه قائمة.
ولِمَ يكون مثل كلّ واحد من هذين الرجلين متى اطّلع على قلب صاحبه كدّ خاطره وأتعب قلبه، حتّى كاد يقتله، لولا أنّه يطَّلع على سوء ومكر ؟! وهذا هو النفاق الّذي ننزّه الرجلين عنه ، ولا يليق بهما، ولا بالنبيّ عليه السلام أن يصفهما به. ۵
ولا يخفى التمحّل الواقع في كلام الشريف المرتضى قدس سره ، وهذا دأبه في الأخبار الّتي فيها جهة روحية ، فهو يتعامل معها معاملة الظاهر الصرف ، ولا يتبنّى أي بطن للخبر .

1.جوابات المسائل الرازية : ص ۱۲۵ ( رسائل الشريف المرتضى المجموعة الاُولى).

2.المصدر السابق : ص ۲۶.

3.المصدر السابق.

4.أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ): ج ۲ ص ۳۹۶.

5.أمالي المرتضى (غرر الفرائد ودرر القلائد ) : ج ۲ ص ۳۹۶ ـ ۳۹۷.


المناهج الروائية عند شريف المرتضي
182
  • نام منبع :
    المناهج الروائية عند شريف المرتضي
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1427 ق / 1385 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 86013
الصفحه من 358
طباعه  ارسل الي