197
المناهج الروائية عند شريف المرتضي

أساس المنهج الظاهري في الأدلّة القطعية

الأدلّة القطعية والّتي لا شكّ في محتواها إذا دلّت على قضية معرفية يجب ثبوتها وتسالم على قطعها. ولا يحقّ لأحد الرجوع عن الأدلّة القطعية بخبر محتمل
ومظنون ، ولا يسوغ لأحد أن يتأوّل هذه الاُمور.
أمّا الأخبار المحتملة الّتي كانت مضامينها بخلاف هذه الأدلّة القطعية فلابدَّ من حملها على ما يوافق تلك الأدلّة القطعية. وهذا نوع رجوع عن ظواهر الأخبار المحتملة.
وهذه الطريقة الّتي قدّمناها هي الأساس المتبع في جميع الاُمور العلمية، فالادلّة القطعية هي الأساس في المعارف الإسلاميّة ، حتّى أنّ الشريف المرتضى قدس سرهيعدّي ذلك إلى ظواهر آيات القرآن الّتي تتضمّن جبرا أو تشبيهاً ، فلابدَّ من تأويلها وإرجاعها إلى الأدلّة القطعية ، الّتي هي صريحة المضمون وقطعية المعرفة.
ومن هذا القبيل ماورد في مسألة الذرّ وحقيقته ؛ فإنّه وردت أخبار عديدة نقلت من جهة المخالف والموافق في الذرّ وابتداء الخلق ، وقد سئل الشريف المرتضى قدس سرهعن صحّتها؟ وهل لها مخرج من التأويل يطابق الحقّ؟
قبل أن يجب الشريف المرتضى قدس سره عن الجواب يؤسس قاعدة كلّية تدلّ على أنّ الأساس في المنهج الظاهري هو الرجوع إلى الأدلّة القطعية ، يقول قدس سره: «إنّ الأدلّة القاطعة إذا دلّت على أمر وجب إثباته والقطع عليه، وألاّ يرجع عنه بخبر محتمل ، ولا بقول معترض للتأويل ، وتحمل الأخبار الواردة بخلاف ذلك على ما يوافق تلك الأدلّة ويطابقه ، وإن رجعنا بذلك عن ظواهرها . وبصحّة هذه الطريقة نرجع عن ظواهر آيات القرآن الّتي تتضمّن إجباراً أو تشبيهاً». ۱
هذه هي قاعدة كلّية يجعلها الشريف المرتضى قدس سره الأساس في أساس منهجه الظاهري ، ثمّ يضيف قاعدة اُخرى يأخذها من مسلّمات القطعيات الإسلاميّة ، وهي:
«وقد دلّت الأدلّة أنّ اللّه تعالى لا يكلّف إلاّ البالغين الكاملين العقول ، ولا يخاطب
إلاّ من يفهم عند الخطاب». ۲
وبعد أن يذكر هذه القاعدة المسلّمة المعرفية يوضّح قائلاً : وهذه الجملة تدلّ على أنّ من روي أنّه خوطب في الذرّ وأخذت عنه المعارف فأقرّ قوم وأنكر قوم كان عاقلاً كاملاً مكلّفاً ؛ لأنّه لو كان بغير هذه الصفة لم يحسن خطابه ، ولا جاز أن يقرّ ولا أن ينكر.
ولو كان عاقلاً كاملاً لوجب أن يذكر الناس ماجرى في تلك الحال من الخطاب والإقرار والإنكار ؛ لأنّ من المحال أن ينسى جميع الخلق ذلك، حتّى لا يذكروا ولا يذكره بعضهم.
هذا ما جرت العادات به، ولولا صحّة هذا الأصل لجوّز العاقل منّا أن يكون أقام في بلد من البلدان متصرّفاً، وهو كامل عاقل ثمّ نسي ذلك كلّه، مع تطاول العهد، حتّى لا يذكر من أحواله تلك شيئاً.
وإنّما لم نذكر ماجرى منّا وأنّا في حال الطفولية ؛ لفقد كمال العقل في تلك الحال به من تخلل أحوال عدم وموت من تلك الحال وأحوالنا هذه ويجعلونه سبباً في عدم الذكر غير صحيح ؛ لأنّ اعتراض العدم أو الموت بين الأحوال لا يوجب النسيان بجميع ماجرى مع كمال العقل.
ألاترى أنّ اعتراض السُّكر والجنون والأمراض المزيلة للمعلوم بين الأحوال لا يوجب النسيان للعقلاء بما جرى بينهم.
فهذه الأخبار: إمّا أن تكون باطلة مصنوعة، أو يكون تأويلها ـ إن كانت صحيحة ـ ما ذكرناه في مواضع كثيرة من تأويل قوله : « وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنم بَنِىءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ »۳ .
وهو أنّ اللّه تعالى لما خلق الخلق وركّبهم تركيباً وأراهم الآيات والدلائل والعِبر في أنفسهم وفي غيرهم، يدلّ الناظر فيها المتأمّل لها على معرفة اللّه والهيته ووحدانيته ووجوب عبادته وطاعته، جاز أن يجعل تسخيرها له وحصولها على هذه الصفات الدالّة على ما ذكرناه ، اقراراً منها بالوحدانية ، ووجوب العبادة، ويجعل تصييرها على هذه الصفات الدالّة على ما ذكرنا استشهاداً لها على هذه الاُمور.
وللعرب في هذا المعنى من الكلام المنثور والمنظوم مالا يحصى كثرة، ومنه قول الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطنيمهلاً رويداً قد ملأت بطني
ومعنى ذلك: أنّني ملأته حتّى أنّه ممّن يقول : حسبي قد اكتفيت، فجعل ما لو كان قائلاً لنطق، كأنّه قال ونطق به.
وهذا تأويل الآية والأخبار المروية في الذرّ . وفي هذه الجملة كفاية. ۴
ويتعرّض الشريف المرتضى قدس سره : إلى مسألة مهمّة وهي في الأخبار الواردة في عدّة كتب من الاُصول والفروع بمدح أجناسٍ من الطير والبهائم والمأكولات والأرَضين ، وذم أجناس منها ، كمدح الحمام والبلبل والقنبر والحجل والدراج وما شاكل ذلك من فصيحات الطير ، وذم الفواخت والرخم ، وما يحكى من أنّ كلّ جنس من هذه الأجناس المحمودة ينطق بثناء على اللّه تعالى وعلى أوليائه ، ودعاء لهم ، ودعاء على أعدائهم ، وأنّ كلّ جنس من هذه الأجناس المذمومة ينطق بضدّ ذلك من ذم الأولياء عليهم السلام كذم الجرّي وما شاكله من السمك ، وما نطق به الجريّ من أنّه مسخ بجحده الولاية ، وورود الآثار بتحريمه لذلك ، وكذم الدبّ والقرد والفيل وسائر المسوخ المحرّمة ، وكذم البطيخة الّتي كسرها أمير المؤمنين عليه السلام فصادفها مرّة فقال : «من النار إلى النار » ، ورمى بها من يده ، ففار من الموضع الّذي سقطت فيه
دخان ، وكذم الأرضين السبخة ، والقول بأنّها جحدت الولاية أيضا.
وقد جاء في هذا المعنى ما يطول شرحه ؛ وظاهره منافٍ لما تدلّ العقول عليه من كون هذه الأجناس مفارقةً لقبيل ما يجوز تكليف ، ويسوغ أمره ونهيه.
وفي هذه الأخبار الّتي أشرنا إليها أنّ بعض هذه الأجناس يعتقد الحقّ ويدين به ، وبعضها يخالفه ، وهذا كلّه منافٍ لظاهر ما العقلاء عليه.
ومنها ما يشهد أنّ لهذه الأجناس منطقا مفهوما ، وألفاظا تفيد أغراضا ، وأنّها بمنزلة الأعجمي والعربي اللذين لا يفهم أحدهما صاحبه ، وأنّ شاهد ذلك من قول اللّه سبحانه فيما حكاه عن سليمان عليه السلام : « يَـأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْ ءٍ إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ »۵ .
وكلام النملة أيضا ممّا حكاه سبحانه ، وكلام الهدهد واحتجاجه وجوابه وفهمه ؛ فينعم بذكر ما عنده في ذلك مثابا إن شاء اللّه .
يقول الشريف المرتضى قدس سره : اعلم أنّ المعوّلَ فيما يعتقد على ما تدلّ الأدلّة عليه من نفي وإثبات ، فإذا دلّت الأدلّة على أمرٍ من الاُمور وجب أن نبنيَ كلّ وارد من الأخبار إذا كان ظاهره بخلافه عليه ، ونسوقه إليه، ونطابق بينه وبينه، ونجلّي ظاهرا إن كان له، ونشرط إن كان مطلقا، ونخصّه إن كان عاما، ونفصّله إن كان مجملاً؛ ونوفّق بينه وبين الأدلّة من كلّ طريق اقتضى الموافقة وآل إلى المطابقة ، وإذا كنّا نفعل ذلك ولا نحتشمه في ظواهر القرآن المقطوع على صحّته، المعلوم ورودُه ، فكيف نتوقّف عن ذلك في أخبار آحاد لا توجب عِلْما ، ولا تثمر يقينا ؟!
فمتى وردت عليك أخبار فاعرضها على هذه الجملة وابنها عليها، وافعل فيها ما حكمت به الأدلّة، وأوجبته الحجج العقلية، وإن تعذّر فيها بناء وتأويل وتخريج وتنزيل، فليس غير الإطراح لها، وترك التعريج عليها ، ولو اقتصرنا على هذه الجملة
لاكتفينا فيمن يتدبّر ويتفكّر.
وقد يجوز أن يكونَ المراد بذمّ هذه الأجناس من الطير أنّها ناطقة بضدّ الثناء على اللّه وبذم أوليائه، ونقص أصفيائه معناه ذمّ متخذيها ومرتبطيها، وأنّ هؤلاء المغرين بمحبّة هذه الأجناس واتخاذها هم الّذين ينطقون بضدّ الثناء على اللّه تعالى، ويذمّون أولياءه وأحبّاءه، فأضاف النطق إلى هذه الأجناس، وهو لمتخذيها أو مرتبطيها ؛ للتجاوز والتقارب، وعلى سبيل التجوّز والاستعارة، كما أضاف اللّه في القرآن السؤال إلى القرية، وإنّما هو لأهل القرية، وكما قال تعالى: «وَ كَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَ رُسُلِهِى فَحَاسَبْنَـهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَ عَذَّبْنَـهَا عَذَابًا نُّكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَ كَانَ عَـقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا »۶ ؛ وفي هذا كلّه حذوف .
وقد اُضيف في الظاهر الفعل إلى من هو في الحقيقة متعلّق بغيره ، والقول في مدح أجناسٍ من الطير، والوصف لها بأنّها تنطق بالثناء على اللّه تعالى والمدح لأوليائه يجري على هذا المنهاج الّذي نهجناه.
فإن قيل: كيف يستحقّ مرتبط هذه الأجناس مدحاً بارتباطها، ومرتبط بعضٍ آخر ذماً بارتباطه حتّى علقتم المدح والذم بذلك؟
قلنا: ما جعلنا لارتباط هذه الأجناس حظّا في استحقاق مرتبطيها مدحاً ولا ذما، وإنّما قلنا: إنّه غير ممتنع أن تجري عادة المؤمنين الموالين لأولياء اللّه تعالى والمعادين لأعدائه بأن يألفوا ارتباط أجناسٍ من الطير. وكذلك تجري عادة بعض أعداء اللّه تعالى باتخاذ بعض أجناس الطير ، فيكون متخذ بعضها ممدوحاً ، لامن أجل اتخاذه ، لكن لما هو عليه من الاتخاذ الصحيح ، فيضاف المدح إلى هذه الأجناس وهو لمرتبطيها، والنطق بالتسبيح والدعاء الصحيح إليها وهو لمتخذها تجوّزا واتساعا ، وكذلك القول في الذم المقابل للمدح.
فإن قيل: فلمَ نُهي عن اتخاذ بعض هذه الأجناس إذا كان الذم لا يتعلّق باتخاذها، وإنّما يتعلّق ببعض متخذيها لكفرهم وضلالهم؟
قلنا: يجوز أن يكون في اتخاذ هذه البهائم المنهىّ عن اتخاذها وارتباطها مفسدة ، وليس يقبح خلقها في الأصل لهذا الوجه؛ لأنّها خلقت لينتفع بها من سائر وجوه الانتفاع سوى الارتباط والاتخاذ الّذي لا يمنع تعلّق المفسدة به.
ويجوز أيضا أن يكون في اتخاذها هذه الأجناس المنهيّ عنها شؤم وطيرة ، فللعرب في ذلك مذهب معروف.
ويصحّ هذا النهي أيضا على مذهب من نفى الطّيرة على التحقيق؛ لأنّ الطّيرة والتشاؤم ، وإن كان لا تأثير لهما على التحقيق ؛ فإنّ النفوس تستشعر ذلك، ويسبق إليها ما يجب على كلّ حال تجنّبه والتوقّي عنه ، وعلى هذا يحمل معنى قوله عليه السلام : «لا يورد ذو عاهة على مُصِحّ».
فأمّا تحريم السمك الجِرّي وما أشبهه فغيرُ ممتنع لشيء يتعلّق بالمفسدة في تناوله ، كما نقول في سائر المحرمات.
فأمّا القول بأن الجِرّي نطق بأنّه مسخ بجحده الولاية فهو ممّا يُضحك منه ، ويتعجب من قائله، والملتفت إلى مثله.
فأمّا تحريم الدّب والقرد والفيل فكتحريم كلّ محرّم في الشريعة، والوجه في التحريم لا يختلف ، والقول بأنّها ممسوخة إذا تكلّفنا حملناه على أنّها كانت على خَلِق حميدة غير منفور عنها، ثمّ جعلت على هذه الصّورة الشّنيئة على سبيل التنفير عنها، والزيادة في الصّدّ عن الانتفاع بها؛ لأنّ بعض الأحياء لا يجوز أن يكون غيره على الحقيقة. والفرق بين كلّ حيين معلومٌ ضرورة، فكيف يجوز أن يصير حيّ حيّا آخر غيره؟ وإذا اُريد بالمسخ هذا فهو باطل، وإن اُريد غيره نظرنا فيه.
وأمّا البطيخة فقد يجوز أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام لمّا ذاقها ونفر عن طعمها ،
وزادت كراهيته لها قال: «من النار وإلى النار»، أي هذا من طعام أهل النار، وما يليق بعذاب أهل النار، كما يقول أحدنا ذلك فيما يستوبئه ويكرهه.
ويجوز أن يكون فوران الدّخان عند الإلقاء لها كان على سبيل التصديق ؛ لقوله عليه السلام : «من النار إلى النار» وإظهار معجز له.
وأمّا ذم الأرضين السّبخة، والقول بأنّها جحدت الولاية ، فمتى لم يكن محمولاً معناه على ما قدّمناه من جحد أهل هذه الأرض وسكانها الولاية لم يكن معقولاً ؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: «وَ كَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَ رُسُلِهِ» . ۷
وأمّا إضافة اعتقاد الحقّ إلى بعض البهائم ، واعتقاد الباطل والكفر إلى بعض آخر ، فممّا تخالفه العقول والضرورات؛ لأنّ هذه البهائم غير عاقلة ولا كاملة ولا مكلّفة، فكيف تعتقد حقّا أو باطلاً ؟!
وإذا ورد أثر في ظاهره شيء من هذه المحاولات ، إمّا اطّرح أو تؤوّل على المعنى الصحيح ، وقد نهجنا طريق التأويل، وبيّنا كيف التوصل إليه.
فأمّا حكايته تعالى عن سليمان عليه السلام : «يَـأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْ ءٍ إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ »۸ فالمراد به أنّه علّم ما يفْهم به ما ينطق به الطير ، وتتداعى في أصواتها وأغراضها ومقاصدها بما يقع منها من صياحٍ على سبيل المعجزة لسليمان عليه السلام .
فأمّا الحكاية عن النملة بأنّها قالت: «يَـأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَـكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـنُ»۹ ؛ فقد يجوز أن يكون المراد به أنّه ظهر منها دلالة القول على هذا المعنى، وأشْعَرَت باقي النمل، وخوّفهم من الضرر بالمقام، وأنَّ النجاة في الهرب إلى مساكنها؛
فتكون إضافة القول إليها مجازا واستعارة؛ كما قال الشاعر:
وشكا إليّ بعبرة وتحمحم
وكما قال الآخر:
وقالت له العينان سمعا وطاعة
ويجوز أيضاً أن يكون وقع من النملة كلام ذو حروف منظومة ـ كما يتكلّم أحدنا ـ يتضمّن المعاني المذكورة، ويكون ذلك معجزةً لسليمان عليه السلام ؛ لأنّ اللّه تعالى سخّر له الطّير، وأفهمه معاني أصواتها على سبيل المعجزة له. وليس هذا بمنكر؛ فإنّ النطق بمثل هذا الكلام المسموع منّا لا يمتنع وقوعه ممّن ليس بمكلّف ولا كامل العقل؛ ألاّ ترى أنّ المجنون ومن لم يبلغ الكمال من الصبيان قد يتكلّمون بالكلام المتضمّن للأغراض ؛ وإن كان التكليف والكمال عنهم زائلين.
والقول فيما حكي عن الهدهد يجري على الوجهين اللذين ذكرناهما في النملة ، فلا حاجة بنا إلى إعادتهما .
وأمّا حكايته أنّه قال: «لَأُعَذِّبَنَّهُو عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَاْذْبَحَنَّهُو أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَـنٍ مُّبِينٍ »۱۰ ، وكيف يجوز أن يكون ذلك في الهدهد وهو غير مكلّف ولا يستحقّ مثله العذاب.
فالجواب : أنّ العذاب اسم للضّرر الواقع، وإن لم يكن مستحقّا؛ وليس يجري مجرى العقاب الّذي لا يكون إلاّ جزاء على أمر تقدّم . وليس بممتنع أن يكون معنى «لَأُعَذِّبَنَّهُ» أي لأولمنّه، ويكون اللّه تعالى قد أباحه الإيلام له؛ كما أباحه الذبح لضربٍ من المصلحة، كما سخّر له الطير يصرفها في منافعه وأغراضه ؛ وكلّ هذا لا ينكر في نبيّ مرسل تخرق له العادات ؛ وتظهر على يده المعجزات ؛ وإنّما يشتبه على قومٍ يظنون أنّ هذه الحكايات تقتضي كون النملة والهدهد مكلّفين؛ وقد بيّنا أنّ الأمر
بخلاف ذلك. ۱۱
ولا يخفى على القارئ الملاحظات الكثيرة في هذا المقطع وما فيه من الإشكال ، ونشير إلى بعضها:
1 . حمل ذم هذه الأجناس من الطير على ذم متخذيها ومرتبطيها ، وهذا خلاف جمع من المباني الصحيحة الحكمية ؛ فإنّ تسبيح الطير ـ كما ورد في القرآن الكريم ـ محمول على الحقيقة ، ولا مانع عقلي من هذا الاعتقاد ، وإن كانت ظاهرة أنّها عجماء لا تنطق ، لذلك فقد وقع في عدّة إشكالات من القيل والقال.
2 . ويمكن تعقل كون الجِريّ مسخ لجحده الولاية ، ولا استحالة عقلية في ذلك ، فلا غرابة فيه ، وقد دلّت عليه روايات كثيرة بعضها صحيحة السند.
3 . وكذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام في البطيخ: «من النار إلى النار »، فإنّ البطيخ هو أحد الكائنات الحية النباتية وهو يقبل بعض التكليفيات الشرعية أو التكوينية ، فيحمل كلام الإمام عليه السلام على الحقيقة.
ولا نطيل بسرد جميع الإشكالات في هذا المقطع ؛ لأنّها واضحة لا تخفى على القارئ . ولكن بما أنّ الشريف المرتضى قدس سره مسلكه ظاهري فهو يقع في هذه الإشكالات المصداقية كما وقع فيها سابقاً ، ويقع فيها بعد ذلك.

1.جوابات المسائل الرازية : ص ۱۳ ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الاُولى ) .

2.المصدر السابق.

3.الأعراف : ۱۷۲ .

4.جوابات المسائل الرازية : ص ۱۱۳ ـ ۱۱۵ ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى).

5.النمل : ۱۶.

6.الطلاق : ۸ ـ ۹.

7.الطلاق : ۸ .

8.النمل : ۱۶ .

9.النمل : ۱۸ .

10.النمل : ۲۱.

11.أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج ۲ ص ۳۴۹ ـ ۳۵۳.


المناهج الروائية عند شريف المرتضي
196
  • نام منبع :
    المناهج الروائية عند شريف المرتضي
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1427 ق / 1385 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 76339
الصفحه من 358
طباعه  ارسل الي