27
المناهج الروائية عند شريف المرتضي

شغفه بالعلم ، مدرسته العلميّة ، خزانة كتبـه

كان الشريف المرتضى رحمه الله مشغوفا بالعلم ، مصرفا إليه بين دراسة وتدريس ، محبّا لتلاميذه وملازميه ، حتّى أنّه كان يجري عليهم الجرايات الشهرية، وقد مرّ ذكر ذلك .
وقد اتّخذ من داره الواسعة مدرسة عظيمة تضمّ بين جدرانها ثُلة من طلاب الفقه والكلام والتفسير واللغة والشعر والعلوم الاُخرى كعلم الفلك والحساب وغيره ، حتّى سميت أو سمّاها : «دار العلم» ، وأعدّ له مجلسا للمناظرات فيها.
غير إنّ الّذي هو جدير بالملاحظة والاعتبار ، أنّ مجلس الشريف المرتضى قدس سرهأو مدرسته العلمية ـ بتعبير أصح ـ كانت جامعة إنسانية تلمّ شتات كثير من طلاب العلم ومريديه من مختلف المذاهب والنحل، دون تفرقة بين ملّة وملّة ، أو مذهب ومذهب .
وقد مرّت عليك قصة اليهودي الّذي درس عليه علم النجوم ـ أعني الفلك ـ ، كما لم تخف عليك أيضا اتصالاته الوثيقة بأبي إسحاق الصابئ الكاتب المشهور، وللسيّد المرتضى قدس سره في رثائه قصيدة رائعة تعدّ من غرر قصائده ومطلعها:
ما كان يومك يا أبا إسحاقإلاّ وداعي للمنى وفراقي
وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على رحابة صدر المرتضى قدس سره وسعة أفقه
وشريف نظرته الإنسانية ، الّتي تعبر عن قلبه الشفيق الرحيم العطوف على هذه النفوس البشرية المعذبة بويلات العصبية الرعناء ، والطائفية البغضية، والعنعنات الباطلة، المنبعثة من الجهل المطبق، وضيق الاُفق المحدود، فالشريف المرتضى قدس سرهكان له اُسوة حسنة في جدّه الرسول الأعظم وأهل بيته الكرام صلى الله عليه و آله وسلموأصحابه الأجلّة، المرددين قول ربّ الخلق أجمعين: «يَـأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـكُم مِّن ذَكَرٍ وَ أُنثَى وَ جَعَلْنَـكُمْ شُعُوبًا وَ قَبَآلـءِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـلـكُمْ» . ۱
أمّا شغف الشريف المرتضى قدس سره بجمع الكتب وولعه باقتنائها فيكفينا أن نذكر أنّ خزانته ضمّت ثمانين ألف مجلّد من مصنفاته ومحفوظاته ومقروءاته، على ما حصره وأحصاه صديقه أبو القاسم التنوخي. ۲
وقد قوّمت هذه الكتب بثلاثين ألف دينار على ماذكره الثعالبي في كتابه يتيمة الدهر ، هذا بعد أن أهدى الشريف المرتضى قدس سره من هذه الكتب إلى الرؤساء والوزراء شطرا .

1.الحجرات: ۱۳.

2.روضات الجنات : ص ۳۸۳ . والتنوخي: هو أبو القاسم علي بن المحسن القاضي صاحب المرتضى وتلميذه، ولد بالبصرة سنة (۳۶۵ ه) وولي القضاء بالمدائن ، وكان متحفظا في الشهادة محتاطا صدوقا في الحديث توفي سنة (۴۴۷ ه ) ودفن في داره بدرب التل، وقد كتب عنه الخطيب البغدادي وصلى على جنازته .


المناهج الروائية عند شريف المرتضي
26

زهـده

كان الشريف المرتضى قدس سره ميّالاً إلى الزهد في الدنيا راغبا عنها، ذامّا لها ، داعيا إلى الاعتبار فيها، سالكا سبيل أجداده الكرام عليهم السلام ، من جعلها مجازا للآخرة ، ومزادا لدار القرار ؛ لذا نجد ديوانه يفيض بالقصائد في ذمّ الدنيا ، والحث على الزهد فيها ، والاعتبار بتقلّب أحوالها، وفناء نعيمها، ثمّ هو يصف مقابرها، ويرثي مقبوريها، ويدعو كذلك إلى تكميل النفس وتهذيبها، وغرس مواد العزّة فيها بنبذ الحرص، وترك الطمع، والتحلّي بجمال العلم وخصال الخير، فمن ذلك قوله في ذمّ الدنيا ، والحث على الزهد فيها:
أفي كلّ يوم ليمنى استجدهاوأسباب دنيا بالغرور أودها
ونفس تنزى ليتها في جوانحلذي قوة يسطيعها فيردها
تعامه عمدا وهي جد بصيرةكما ضل عن عشواء باللّيل رشدها
إذا قلت يوما تناهى جماحهاتجانف لي عن منهج الحقّ بعدها
وأيضاً:
كالدنيا تصدّ عن الّذييود محبوها فيحسن صدّها
وتسقيهم منها الاجاج مصردافكيف بها لو طاب للقوم عدها
وأيضاً:
وحبّ بني الدنيا الحياة مسيئةبهم ثلمة في النفس أعوز سدها
وأيضاً:
سقى اللّه قلبا لم يبت في ضلوعههواها ولم يطرق نواحيه وجدها
وأيضاً:
تخفف من ازوادها مل ء طوقهفهان عليه عند ذلك فقدها
وهو مع زهده الشديد في الدنيا وتقشفه فيها، كان ذا مقام سياسي في الدولة خطير يفوق مقام أخيه الرضي بكثير، وذلك بفضل ما اُوتي من أصالة الرأي ووفارة العلم والمال، مع عز العشيرة وكثرة الرجال ، وهذا ما نتعرّض له لاحقا عند الحديث عن منزلته الاجتماعية والسياسية .

  • نام منبع :
    المناهج الروائية عند شريف المرتضي
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1427 ق / 1385 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 76314
الصفحه من 358
طباعه  ارسل الي