61
المناهج الروائية عند شريف المرتضي

المناهج الروائية عند شريف المرتضي
60

ثالثا : السنّة من مصادر التشريع الإسلامي

الرواية والحديث في السنّة الشرعية عضدان مهمّان في المنظومة المعرفية بعد القرآن الكريم ؛ لأنّ السنّة الشرعية تكمل القرآن الكريم ، بمعنى أنّها تبين المجمل وتخصص العام وتقيّد المطلق منه ، فهناك الكثير من الأحكام الشرعية وردت في القرآن الكريم ، لكنّها مجملة غير مفصّلة ولولا السنّة الشرعية وشموليتها لجميع أركان الحياة ، لما اتّضحت من القرآن الكريم معالم التشريع الإسلامي ، ولأصبح القرآن الكريم معطّلاً لا يمكن الاستفادة منه ومن معطياته . فالسنّة هي المفصّلة لهذا البعد الإجمالي من الشرع الإلهي.
من هذه الجهة وثقلها اهتمّ بها المحدثون باعتبارها المصدر الثاني من التشريع
الإسلامي بتدوينها وجمعها وتبويبها ، إذ تعتبر السنّة عاملاً أساسيا لفهم وإدراك التشريع الإسلامي بصورة عامّة . ولهذا سعى جهابذة من الأعلام لوضع منهج دقيق وواسع الأطراف لفهم النصّ الدّيني بعيدا عن التحيزات والموضوعات والإسرائيليات الّتي تشوّه صفاء النصّ الدّيني .وكان هذا العلم لم تتضح معالمه في الوقت المتقدّم ، بل هو من انتاجات العصور المتأخّرة الّذي أضاف الصفات المنهجية والعلمية على التوجيه العام للمسيرة المعرفية. ۱
نعم ، واضع اُسسه هو الشريف المرتضى قدس سره في كثير من كتاباته في جميع الحقول الإسلامية ، إذ إنّه يعتبر العقل هو الركيزة الأساسية في المنظومة الإلهية ، بل هو الحاكم والسيف البتّار في رفع الابهامات والإشكالات بين الأدلّة بجميع أطرافها (قرآنا وسنّة ) ؛ لأنّه الدعامة الرئيسة في واقع التشريع الإسلامي ، طبعا اُخذ في آلياته الصراحة والوضوح ، فاذا احتمل الدليل العقلي الاحتمال والمجاز سقطت حجّيته عن الاعتبار .
هذا منهج دقيق في فذلكة الواقع الدّيني وهو آلية وصريحة في صرف كلّ ما ورد بظاهره خلاف ذلك من كتاب وسنّة إلى ما يطابق الأدلّة ويوافقها ، فالمرجع الأوّل والأخير في المعرفة الدّينية هو أدلّة العقول ، وهذا المنهج قد أثّر كثيرا في رسالته ، وأبعاد ثقافته في فهم النصّ الدّيني . نعم ، هو يؤمن بأنّ المعطيات والمشتركات كثيرة بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، بل تعاضد بعضها للبعض الآخر في إنارة الواقع والشريعة ، ولكن كلاهما بمثابة برهان عقلي صريح يجب الأخذ به.
وهذا العلم المنهجي لفهم النصّ الشرعي هو الّذي وضع مفرداته واُسسه وجزئياته استمدادا من الآيات القرآنية وما احتوته السنّة الشريفة ، فهو يعتقد أنّ هناك بالوهلة الاُولى تعارضا واضحا في بعض الأدلّة الشرعية ، ويرجع ذلك إلى
عدم التصوّر الصحيح للمسألة ، وعدم معرفة واضحة لأحد طرفي التضادّ والنزاع ، وهنا لابدَّ على رأيه من الاحتفاظ بظاهر الأدلّة ولا نستسلم لطرحها ، إذا كان لها محمل صحيح ووجه جمع يمكن من خلاله تصحيح الواقع ورفع التناقض.
فهذا المنهج العقلي هو الأساس في فهم النصّ الدّيني ، وهذا استمدّ شرعيته من كونه علما وموجبا لليقين وإرجاع نقد الحديث وعرضه على العقل ، ويكون العقل من الأدلّة القاطعة فإذا دلّ على أمر وجب إثباته والقطع عليه ، وألاّ يرجع عنه بخبر محتمل ، ولا بقول معترض للتأويل ، بل هو صرّح في مواضع متعددة ـ سوف تأتي بعد ذلك ـ أنّ الأخبار يجب أن تبنى على أدلّة العقول ، ولا تقبل في خلاف ما تقتضيه أدلّة العقول ، فما ورد بخلاف ذلك من الأخبار لا يلتفت إليه ويقطع على كذبه إن كان لا يحتمل تأويلاً صحيحا لائقا بأدلّة العقول ، فإن احتمل تأويلاً يطابقها تأوّل ووافق بينه وبينها.
ويتوّج الشريف المرتضى قدس سره هذا المنهج بقوله : «وبصحّة هذه الطريقة يرجع عن ظواهر آيات القرآن الكريم الّتي تتضمّن إجبارا أو تشبيها».
وعن طريق هذا المنهج ينفتح على مناهج اُخرى ، تكون روافد لهذا المنهج الدقيق ، فهو يعتبر الحقيقة مقدّمة على المجاز ، ولذلك يحاول مهما أمكن ألاّ يبتعد عن الحقيقة خصوصا في القرآن الكريم الّذي نزل على الحقيقة دون المجاز.
فالشريف المرتضى قدس سره يؤسّس منهجية أصيلة عقلية تعتمد العلم والمعرفة والدليل ، فهو يصرّح أنّ ما عليه دليل يعضده وحجّة تعمده فهو الحقّ المبين ، ولا يضرّه الخلاف فيه ، وقلّة عدد القائل به ، كما لا ينفع في الأوّل الاتفاق عليه ، وكثرة عدد الذاهب إليه ، وإنّما يسأل الذاهب إلى مذهب عن دلالته على صحّته وحجّته القائدة إليه لا عمّن يوافقه فيه أو يخالفه.
فالأساس في منهجه هو العقلائية ، فلذلك اعتبر أصحاب الحديث هم الّذين لم
يعرفوا الحقّ في الاُصول ولا اعتقدوها بحجّة ولا نظر ، بل هم مقلّدون فيها ، فهم ليسوا بأهل نظر ولا اجتهاد ، ولم يصلوا إلى الحقّ بالحجّة ، وإنّما تعديلهم على التقليد والتسليم والتفويض ، وغير ذلك من الاُسس الّتي اشتقها من منهجيته العقلائية.
حتّى إنكاره لحجّية أخبار الآحاد وأنّها لا توجب علما ولا تقتضي قطعا ناشئ من أساسه العقلي ، فإنّ العقلي لا يعطي الشرعية لخبر الواحد بحيث يجعله علما وطريقا إلى الواقع ، فهو يقول : إنّها لا توجب عملاً كما لا توجب علما ، وإنّما تقتضي الأحكام بما يقتضي العلم ، وأكثر ما توجبه ـ مع السلامة التامّة ـ الظن ، ولا يجوز الرجوع عن الأدلّة الشرعية ممّا يوجب العلم واليقين ، وهكذا يطيح بالقياس على أساس نزاله العقلي ، فإنّه لا يكون طريقا إلى العلم بشيء من الأحكام البتة ، بل صرّح في موضع آخر بأنّ أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها ولا التعبّد بأحكامها من طريق العقول.
نعم ، يعترف بأنّ المذهب الصحيح هو : تجويز ورود العبادة بالعمل بأخبار الآحاد من طريق العقول ، ولكن ذلك ما ورد ولا تعبّدنا به ، فهو لا يعمل بها ؛ لأنّ التعبّد بها مفقود وإن كان جائزا ، وعلى هذا الأساس لا يتأوّل خبرا لا يقطع به ولا يعلم صحّته.
وعن طريق هذه المنهجية العقلائية يعرّج على رافد آخر وهو عدم تخصيص القرآن الكريم بأخبار الآحاد ؛ لأنّها لا توجب الظن ولا يخصّص ولا يرجع عمّا يوجب العلم من ظواهر الكتاب . فالعقل يؤكّد على أنّ تخصيص الظواهر يحتاج إلى قرينة أقوى وأكثر متاخمة للعلم وظواهر القرآن هي حجّة وعلمية فتحتاج إلى أقوى منها . ومن هذا الباب ما يقع في السنّة الشريفة من باب النسخ والإطلاق والتقييد وغيرها كلّها تحتاج إلى جنبة علمية يرجّحها العقل في مورد التعارض . وهذا كلّه
يرجع إلى منهجيته في باب العقل.
وسوف يرى القارئ إعمال المنهجية العقلية في جميع المناهج الروائية وفي جميع الحقول الإسلامية ، وإن تنوّعت أدوار العقل ومناهجه في مختلف البحث الروائي ، لكن الجميع يستمدّ شرعيته من العقل ، فعندما يعتقد الشريف المرتضى قدس سرهأنّه لا يمكن تخصيص ظاهر نفس الخبر، بل يبقى على إطلاقه وعمومه ، وعليه فيقدّم من الأخبار ما هو أظهر وأقوى وأولى وأوضح طريقا، ومرجع هذا إلى أنّ العقل يضفي الحجيّة على الظهور والأقوائية والأولوية . فهذا المنهج يستمدّ روحه من المنهجية العقلية ، وكذلك عند ما يذكر المرجّحات الدلالية في الخبر يذكر ما كان له تأويل معقول ، وقريب منه القرينة القطعية وحالات التعارض والترجيحات كلّها تنتهل من منهل واحد عقلائي .

1.تأمّلات في الحديث عند السنّة والشيعة : ص ۱۴ .

  • نام منبع :
    المناهج الروائية عند شريف المرتضي
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1427 ق / 1385 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 76322
الصفحه من 358
طباعه  ارسل الي