79
المناهج الروائية عند شريف المرتضي

المناهج الروائية عند شريف المرتضي
78

حدود القرآن الكريم والسنّة الشريفة

حدود القرآن الكريم والسنّة الشريفة واحدة ، فإنّ ما دلّ عليه القرآن الكريم تدلّ عليه السنّة الشريفة وكذا العكس. فالحدود بينهما مشتركة والعطاء متبادل ، والأحكام واحدة ، والمنطلق متحد ؛ ولذلك يقول النبيّ صلى الله عليه و آله : « كتاب اللّه وأهل بيتي لا يفترقان » .
وعلى هذا المبنى يؤكّد الشريف المرتضى قدس سره على هذه الحقيقة ، وهي : إنّه لا تعد للقرآن من السنّة الشريفة ؛ فإنّ القرآن دال على وجوب اتباع السنّة وغيرها من أدلّة الشرع ، فمن اعتمد على أدلّة الشرع لا يكون متجاوزاً للقرآن ولا متعدياً .
ولنأتي بمثال تطبيقي على هذه الفكرة ، وهو ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله : «ليس منّا من لم يَتغنَّ بالقرآن» فيذكر الشريف المرتضى قدس سره عدّة وجوه تفسير لهذا الخبر ، وكان رابعها هو :
« أن يكون قوله عليه السلام : «من لم يتغنّ» من غنى الرجل بالمكان إذا طال مقامه به،
ومنه قيل: المغني المغاني ، قال اللّه تعالى: «كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا »۱ أي لم يقيموا بها .
وقال الأسود بن يعفر الأيادي :
ولقد غنوا فيها بأنعم غنيةفي ظلّ ملك ثابت الأوتاد
وقول الأعشى الّذي أنشده أبو عبيد ، وهو :
وكنت امرا زمناً بالعراقعفيف المناخ طويل التّغن
بطول المقام أشبه منه بالاستغناء؛ لأنّ المقام يوصف بالطول ، ولا يوصف الاستغناء بذلك، فكأنّ الأعشى أراد : إنّني كنت ملازماً لوطني ، مقيماً بين أهلي، لا أسافر للانتجاع والطَّلب ، ويجري قوله هذا مجرى قول حسان بن ثابت الأنصاري:
أولاد جفنة حول قبر أبيهمقبر ابن مارية الكريم المُفْضِلِ
أراد بقوله: «حول قبر أبيهم» أنّهم ملوك لا ينتجعون، ولا يفارفون محالّهم وأوطانهم ، فيكون معنى الخبر على هذا الوجه: من لم يُقِمْ على القرآن فلا يتجاوزه إلى غيره، ولا يتعدّاه إلى سواه، ويتخذه مَغْنىً ومنزلاً ومُقاما فليس منّا.
فإن قيل: أليس قد يتعدّى القرآن إلى السنّة والإجماع وسائر أدلّة الشرع؟ فكيف يحظر علينا تعدّيه؟
قلنا: ليس في ذلك تَعَدٍّ للقرآن ؛ لأنّ القرآن دالّ على وجوب اتّباع السنّة وغيرها من أدلّة الشرع، فمن اعتمد بعضها في شيء من الأحكام لا يكون متجاوزا للقرآن، ولا متعديا . فأمّا قوله عليه السلام : « ليس منّا » فقد قيل فيه : إنّه لا يكون على أخلاقنا ، واستشهد ببيت النابغة :
إذا حاولت في أسد فجورافإنّي لست منك ولست منّي
وقيل إنّه أراد : ليس على ديننا . وهذا الوجه لا يليق إلاّ بجوابنا الّذي اخترناه.
وهو بعده بجواب أبي عُبيد أليق؛ لأنّه محال أن يخرج عن دين النبيّ صلى الله عليه و آله وملّته من لم يحسن صوته بالقرآن، ويرجّع فيه، أو من لم يتلذذ بتلاوته ويستحلِيها. ۲
فليس هناك تعدٍّ للقرآن الكريم ، ومن أراد ذلك فقد تجاوز الحقيقة ، ووقع في محاذير يأباها النصّ القرآني الكريم .
إنّ للقرآن الكريم حدودا وكذلك للسنّة حدودا ، وأحد حدود القرآن هي أنّه لابدَّ من حمل القرآن الكريم على الحقيقه دون المجاز ، خصوصا إذا عضدت هذه الحقيقة بالسنّة الشريفة.
وهذا المعنى أكدته الآية «40» من سورة هود عليه السلام قال تعالى : «حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ التَّنُّورُ» .
يقول الشريف المرتضى قدس سره بهذا الصدد : « أمّا التنور فقد ذكر في معناه وجوه:
وثالثها: أن يكون المراد بـ «فَارَ التَّنُّورُ» أي برز النور ، وظهور الضوء ، وتكاثفت حرارة دخول النهار ، وتقضّي اللّيل . وهذا القول يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام .
ورابعها : أن يكون المراد بالتنوّر الّذي يختبز فيه على الحقيقة ، وأنّه تنوّر كان لآدم عليه السلام ... والّذي روي عنه أنّ التنوّر هو تنوّر الخبز الحقيقي ابن عبّاس والحسن ومجاهد وغيرهم.
وخامسها : أن يكون معنى ذلك : اشتدّ غضب اللّه تعالى عليهم، وحلّ وقوع نقمته بهم ، فذكر تعالى التنّور مثلاً لحضور العذاب، كما تقول العرب: قد حمى الوطيس ؛ إذا اشتد الحرب، وعظم الخطب . والوطيس هو التنّور .
وتقول العرب أيضاً: قد فارت قِدْر القوم إذا اشتد حربهم ، قال الشاعر :
تفور علينا قدرهم فنديمهاونفثؤها عنّا إذا حميها غلا
أراد بقِدْرهم حربهم، ومعنى نديمها: نسكِّنها.
ومن ذلك الحديث المروى عن النبيّ صلى الله عليه و آله : أنّه نهى عن البول في الماء الدائم ، يعني : الساكن .
ويقال: قد دوّم الطائر في الهواء، إذا بسط جناحيه وسكنهما ولم يخفق بهما . ونفثؤها معناه: نسكِّنها ؛ يقال: قد فثأتُ غضبه عنّي، وفثأت الحارّ بالبارد إذا كسرته به .
وأولى الأقوال بالصواب قول من حمل الكلام على التنّور الحقيقي؛ لأنّه الحقيقة وما سواه مجاز؛ ولأنّ الروايات الظاهرة تشهد له ، وأضعفها وأبعدها من شهادة الأثر قول من حمل ذلك على شدة الغضب ، واحتداد الأمر تمثيلاً وتشبيها ؛ لأنّ حمل الكلام على الحقيقة الّتي تعضدها الرواية أولى من حمله على المجاز والتوسع مع فقد الرواية.
وأي المعاني اُريد بالتنّور فإنّ اللّه تعالى جعل فوران الماء منه علماً لنبيّه ؛ وآيةً تدلّ على نزول العذاب بقومه؛ لينجو بنفسه وبالمؤمنين ۳ .
فحمل الآية على الحقيقة أولى وأوجب من الحمل على المجاز حتّى دعا الشريف المرتضى قدس سره أن يترك الوجه الثالث الوارد عن أمير المؤمنين عليه السلام ، لأجل أنّه على نحو المجاز ، أو أنّه من بطون القرآن الكريم.

1.الأعراف : ۹۲ .

2.أمالي المرتضى (غرر الفوائد و درر القلائد) : ج ۱ ص ۳۵ ـ ۳۶ .

3.أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج ۲ ص ۱۷۱ .

  • نام منبع :
    المناهج الروائية عند شريف المرتضي
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1427 ق / 1385 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 76262
الصفحه من 358
طباعه  ارسل الي