167
العقد النّضيد و الدّر الفريد

الحديث الرابع عشر والمائة

۰.فيه قصّة بئر[ ذات ] العلم :.
عن يحيى بن عبد اللّه الحارث ، عن [ أبيه ، عن ] ابن عبّاس قال :
لمّا توجّه رسول اللّه يوم الحديبية إلى مكّة ، أصاب الناس عطش شديد وحرّ شديد ، فنزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الجحفة معطّشا والناس عطاشى ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «[ هل ] من رجل يمضي في نفر من المسلمين معهم القربة ، فيردون بئر ذات العَلم ثمّ يعود ؛ يضمن له رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الجنّة؟» .
فقام رجل من القوم فقال : أنا يا رسول اللّه ، فوجّهه رسول اللّه ووجّه معه السقاة .
قال : فأخبرني سلمة بن الأكوع قال : كنت في السقاة ، قال : فمضينا حتّى إذا دنونا من الشجر والبئر سمعنا من الشجر حسّا وحركة شديدة ، ورأينا نيرانا تتّقد بغير حطب ، فأُرعب الرجل الذي كنّا معه رُعبا شديدا فلم يقدر أن يجاوز موضعه ، ولم يملك أحد منّا نفسه ، فرجعنا ولم يقدر أن يتجاوز الشجر .
فقال له رسول اللّه : «ما لك رجعت؟» .
قال : بأبي أنت وأُمّي يا رسول اللّه ، إنّي لماضٍ إلى الوغل والشجر إذ سمعنا حركة شديدة ، ورأينا نيرانا تتّقد بغير حطب فأُرعبنا رعبا شديدا فلم نقدر أن نتجاوز موضعنا ، فرجعنا إليك يا رسول اللّه .
فقال رسول اللّه : «تلك عصابة من الجنّ هوّلت عليك ، أما إنّكَ لو مضيت لوجهك وحيث أمرتك ما نالك منهم سوءٌ ولرأيت فيهم عبرة وعجبا» .
قال : ثمّ دعا رسول اللّه رجلاً من أصحابه فوجّهه نحو البئر ، وقد سمع كلام رسول اللّه للرجل الأوّل حيث قال : أما إنّك لو مضيت لوجهك وحيث أمرتك ما نالك منهم مكروه .
قال سلمة : ومضى الرجل نحو الماء وجعل يرتجز ويقول :
أمن عزيف الجن في دوح السلم ينكل من وجّهه خير الأُمم
من قبل أن يبلغ آبار العلم فيستقي واللّيل مبسوط الظلم
ويأمن الذمّ و توبيخ الكلم
ثمّ مضى حتّى إذا كان في ذلك الموضع سمع وسمعنا من الشجر ذلك الحسّ وتلك الحركة ، فذعرنا ذعرا شديدا حتّى لم يستطع أحدنا أن يُكلّم صاحبه ، فرجعنا معه لم نملك أنفسنا .
فقال رسول اللّه للرجل : «ما هالَكَ؟» .
فقال : يا رسول اللّه ، والذي بعثك بالحقّ ، لقد ذعرت ذعرا شديدا ما ذعرت مثله قَطّ ، وقلنا ذلك معه .
فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «تلك عصابة من الجنّ هوّلوا عليكم ، لو سرتَ حيث أمرتك لما رأيت إلاّ خيرا ، ولرأيت فيه عبرة ولم تر سوءا» .
قال : واشتدّ العطش بالمسلمين ، وكره رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يهجم في الشجر والوغل ليلاً ، فدعا عليّا عليه السلام ، فأقبل إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم فقال له : «سر مع هؤلاء السقاة حتّى ترد بئر ذات العلم فتستقي وتعود إن شاء اللّه تعالى» .
قال سلمة : فخرج عليّ أمامنا ونحن في أثره والقراب في أعناقنا وسيوفنا بأيدينا ، وإنّا لنسرع خلفه وما نلحقه ، وهو يقول :
أعوذ بالرحمن أن أميلا من عزف جنّ أظهرت تهويلاً
وأوقدت نيرانها تغويلاً وقرَّعت مع عزفها طبولاً
قال : فسار ونحن معه ، فسمع تلك الحركة وذلك الحسّ ، فدخَلَنا من الرعب مثل الذي كنّا نعرف ، وظننّا أنّ عليّا سيرجع كما رجع صاحباه . فالتفت [ عليّ عليه السلام ]إلينا وقال : «اتّبعوا أثري ولا يفزعنّكم ما ترون [ وتسمعون ] ؛ فليس بضائركم إن شاء اللّه تعالى» . ومرّ لا يلتفت ولا يأوي على أحدٍ حتّى دخل بنا الشجر ، فإذا بنيران تضطرم بغير حطب ، وبرؤوسٍ قد قطعت لها ضجّة ، ولألسنتها جلجلة شديدة وأصوات هائلة ، فواللّه لقد أحسست برأسي قد انصرفت قمرته ووقعت شعرته ، ورجف قلبي حتّى لا أملك نفسي ، وعليٌّ يتخطّى تلك الرؤوس ويقول : «اتّبعوني ولا خوف عليكم ، ولا يلتفت أحد منكم يمينا وشمالاً» . فجعلنا نتلو أثره حتّى جاوزنا الشجر ووردنا الماء، فاستقت السقاة ؛ ومعنا دلو واحد ، فأدلى البراء بن عازب [ الدلو ]في البئر فاستقى دلوا أو دلوين ، ثمّ انقطع الدلو فوقع في القليب ، والقليب ضيّق مظلم بعيد القعر ، فسمعنا في أسفل القليب قهقهة وضحكا شديدا [ . . . ] .
فقال عليٌّ عليه السلام : «من يرجع إلى عسكرنا فيأتينا بدلو ورشا؟» .
فقال أصحابه : ومن يستطيع أن يتجاوز الشجر مع ما رأينا وسمعنا؟!
قال عليٌّ عليه السلام : «إنّي نازل في القليب ، فإذا نزلت فدلّوا إليّ قربكم» .
ثمّ ائتز بمئزرٍ ونزل في القليب ، وما تزداد القهقة إلاّ علوّا ، فوالذي نفس محمّد بيده ، إنّه لينزل وما فينا أحد إلاّ عضداه يهتزّان رعبا ، وجعل ينحدر في مراقي القليب إذ زلّت رجله فسقط في القليب ، فسمعنا وجبةً شديدة ازددنا [ لها ] رعبا ، ونَسمع اضطرابا شديدا وغطيطا كغطيط ۱ المخنوق . ثمّ نادى عليٌّ : «اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، أنا عبد اللّه وأخو رسوله ، هلمّوا قربكم» ، فدلّيناها إليه فأفعمها ۲ وعصبها في القليب ثمّ أصعدها على عنقه شيئا فشيئا عن آخرها ، ثمّ حمل قربتين وحملنا نحن قربة ، ومرّ بين أيدينا ولا يكلّمنا ولا نكلّمه ولا يذكر لنا شيئا إلاّ أنّا نسمع همهمة ، حتّى إذا صرنا بموضع الشجر فلم نرَ ممّا رأينا شيئا ولا سمعنا ممّا كنا نسمع ، حتّى إذا كدنا أن نجاوز
الشجر سمعنا صوتا منقطعا أبحّ وهو يقول شعرا :
أيّ فتى ليل أخي روعات وأيّ سبّاق إلى الغاياتِ
للّه درّ الغرر السادات من هاشم الهامات والقامات
مثل رسول الله ذي الآياتِ وعمّه المقتول ذي السبقات
المرء ذي الحنات والروضات أو كعليّ كاشف الكربات
كذا يكون المرء في الحاجات والضرب للأبطال والهامات
قال سلمة : وعليٌّ عليه السلام أمامنا يرتجز ويقول :
الليل هول يرهب المهيبا ويذهل المشجّع اللبيبا
ولست فيه أرهب الترهيبا فإنّني أهول منه ذيبا
ولست أخشى الروع والخطوبا ولا أُبالي الغول والكروبا
إذا هززت الصارم القضيبا أبصرت منه عجبا عجيبا
قال سلمة : وانتهى عليٌّ إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وله زَجَل ۳ ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «ماذا رأيت في طريقك يا عليّ؟» فأخبره بما رأى ، فقال : «إنّ الذي رأيته مَثلٌ ضربه اللّه تعالى لي ولمن حضر معي في وجهي هذا» .
قال عليٌّ : «بأبي أنت وأُمّي فاشرحه لنا يا رسول اللّه ؟» .
فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «أمّا الرؤوس التي رأيتم ملجلجة بألسنتها لها أصوات هائلة وضجّة مفزعة ، فذلك مثل الناس يشهدون معي ويرون آياتي ويسمعون كتاب ربّي ولا يؤمن قلوبهم ، والهاتف الذي هتف بك فذاك قاتل الجنّ ، وهو سلمقة بن عراف الذي قتل عدوّ اللّه مسعرا شيطان الأصنام ، الذي يكلّم قريشا منها ويشرع في هجائي ، لعنه اللّه » ۴ .

1.الغطيط : النخير.

2.أفعم الإناء : ملأه .

3.زَجِلَ ، زجلاً : لعب وأجلب ورفع صوته.

4.روى نحوه ابن شهرآشوب في المناقب ۲ : ۱۰۳ ـ ۱۰۴. عنه في بحار الأنوار ۴۱ : ۷۰ ـ ۷۲/۲.


العقد النّضيد و الدّر الفريد
166

الحديث الثالث عشر والمائة

۰.عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عبّاس قال :. بعثني عليّ عليه السلام بعد إظهاره على البصرة على عائشة ، عليها ما يستحقّها يأمرها بالرحيل إلى بلادها ، فأتيتها ودخلت عليها ، فلم تضع لي شيئا أجلس عليه ، فتناولتُ وسادةً كانت في رحلها فقعدت عليها ، فقالت : يابن عباس أخطأتَ السنّة ؛ قعدت على وسادتنا في بيتنا بغير إذننا!
فقلت : ما هذا بيتكِ الذي أمركِ اللّه تعالى أن تقرّي فيه ، ولو كنتِ فيه ما قعدتُ على وسادتكِ إلاّ بإذنكِ ، إنّ أمير المؤمنين عليه السلامبعثني إليكِ يأمركِ بالرحيل إلى بلادكِ .
فقالت : وأين أمير المؤمنين؟ ذاك عمر بن الخطّاب ، ذاك عثمان بن عفّان!
قال : قلت : ذاك عليّ بن أبي طالب . قالت : أبيت! أبيت!
فقلتُ : واللّه ما كان إباؤك إلاّ كحلب شاة حتّى لا تأمرين ولا تنهين ، ولاتأخذين ولا تعطين ، وما مَثلك إلاّ كقول بني أسد :
ما زال إيماء الصغائر بيننا نثّ الحديث وكثرة الألقاب
حتّى نزلت كأنّ صوتك بينهم في كلِّ نائبة طنين ذباب
قال : فبكت حتّى كأنّي أسمع نحيبها من وراء الحجاب ، ثمّ قالت : إنّي معجّلة الرحيل إلى بلادي ، واللّه ما من بلد أبغض إليَّ من بلد أنتم فيه .
قال : قلت : ولم ذاك؟ فواللّه لقد جعلناكِ للمؤمنين أُمّا وجعلنا أباك صدّيقا !
فقالت : ثكلتني أُمّي يابن عبّاس ! أتمنّ عليَّ برسول اللّه [ صلى الله عليه و آله وسلم ] ؟!
فقلت : ما لي لا أَمُنُّ عليكِ بمن لو كان منكِ لمننتِ به عليَّ !
قال : فأتيت عليّا فأخبرته بقولي وقولها ، فقبّل بين عيني ، ثمّ قال : «ذُرِّيَّةَم بَعْضُهَا مِنم بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»۱ .

1.آل عمران (۳) : ۳۴. وروى الحديث ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ۶ : ۲۲۹ .

  • نام منبع :
    العقد النّضيد و الدّر الفريد
    المساعدون :
    اوسط الناطقي، علي؛ شهرستاني، سيد هاشم؛ فرادي، لطيف
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1423 ق / 1381 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 39138
الصفحه من 243
طباعه  ارسل الي