149
منتخب موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

بدأ الخطبة ، حمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ راح يُشهدهم مرّات ومرّات على جهده الحثيث في إبلاغ الرسالة ، وما بذله لهم من النصيحة في دين اللّه ، وبجهاده العظيم في سبيل الدعوة . فشهدوا له وشهدوا ، وردّدوا ذلك بصوت واحد . كان هذا كلّه كالتمهيد ، حتى إذا ما تطلّعت النفوس والعقول مستفهمة ما وراء هذا الكلام النبوي من مغزى ، أزِفت اللحظة الموعودة ، فما كان من النبيّ إلّا أن أخذ بعضد عليّ ورفعه حتى بان بياض آباطهما ، وصدع يقول : «مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ» .
والآن هلمّوا نُبصر المشهد ، ونتأمّل فيه عن كثب . ما الذي كان يبتغيه النبيّ بكلّ هذا التمهيد ، وفي فضاء مثل هذا تحتشد فيه الاُلوف المؤلّفة ؟ وما الذي كان يُريده من إعلان هذا الكلام وسط جوّ حارّ ملتهب يتجمهر فيه هذا الجمع العظيم ؟هل كان ما يقصده من قوله : «مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ» هو الإعلان عن حبّ عليّ عليه السلام وحسب ؟ أ لم يتحدّث النبيّ صلى الله عليه و آله إلى الناس في أكثر من موضع من حجّته الأخيرة ؛ حَجَّة الوداع العظيمة ، عن أهل بيته ، ويركّز على مودّتهم من بين ما تحدّث به إلى المسلمين . أفتراه الآن جمع الاُلوف في هذه الرمضاء التي تشتعل النار في ترابها ، طالباً منها الإصغاء إلى كلامه ، وإلى أن يُبلّغ الشاهد الغائب ؛ لمحض أن يوصيها بحبّ عليّ !
أ يحتاج حبّ عليّ إلى وصيّة وهو سيّد المؤمنين وأميرهم والشخصيّة الخارقة في مدرسة محمّد صلى الله عليه و آله حيث لا تُضاهي مكانتها شخصيّة في هذا الدين ؟ ثمّ أ ليس المؤمنون مأمورون في كتاب اللّه بحبّ بعضهم بعضاً ، ومن ثمّ هم مأمورون بحبّ عليّ بالضرورة ؟ فهل يحتاج كلام كهذا إلى كلّ هذا التمهيد والإعداد ؟
سبق أن عرضنا أحاديث «حبّ عليّ» وقد ركّزنا هناك أيضاً إلى أ نّها تنطوي


منتخب موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام
148

بمغادرة مكّة عائدين إلى ديارهم ومواضع سكناهم بعد أن انتهت المراسم . أفواج تتلوها أفواج ، وقوافل يتبع بعضها أثر بعض ، تترك البيت العتيق قاصدة العودة بأهلها من حيث أتوا . كذلك مضت قافلة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ترسل خطاها الثابتة صوب المدينة .
اقتربت القافلة النبويّة من «وادي خمّ» وهو وادٍ موصوف بكثرة الوخامة وشدّة الحر ۱ ، فجاء وحي السماء من فوره ، يأمر النبيّ أن يقف حيث هو . وراح منادي رسول اللّه صلى الله عليه و آله يأمر من تقدّم أن يعود ، ويحبس من تأخر ؛ ليجتمع الناس سواءً في مكان واحد ، حيث لم تتشعّب بهم الطريق بعد .
أرض جرداء غير مسكونة مفتوحة على صحراء ممتدّة الشمس فوق الرؤوس حارّة لاهبة ، وقد أمر النبيّ صلى الله عليه و آله أن يصنعوا له موضعاً يرتقيه من أقتاب الإبل ، حتى إذا خطب بالحاضرين يراه الجميع ويسمعونه .
احتشد المكان بعشرات الاُلوف ، أدّى النبيّ صلى الله عليه و آله صلاة الظهر ، ثمّ راح يستعدّ لالقاء خطابه بعد أن أمرهم بالتجمّع ، ازداد تجمهر الحشود واقترابها إلى حيث يقف النبيّ مستعدّاً لأمرٍ مهم . الشمس تستقرّ في كبد السماء فترسل بأشعّتها الحارقة ، فتتحوّل الصحراء في تلك الظهيرة إلى كتلة ملتهبة . الحاضرون يضعون الأردية والملابس فوق الرؤوس وتحت الأقدام علّها تقيهم شيئاً من الرمضاء الحارقة وأشعّة الشمس المتوهّجة ، وبعضهم يفى ء إلى المتاع والرحال يلوذ بظلاله .
مشهد يقتحم الذاكرة ويستعصي على النسيان . رسول اللّه صلى الله عليه و آله يصعد الموضع الذي صنعوه مِن الرحال وأقتاب الإبل ، وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ بكلماته الأفئدة والأسماع ، ويُلقي خطبته على عشرات الاُلوف من المسلمين الذين أنهوا الحجّ لتوّهم .

1.وفيات الأعيان : ج۵ ص۲۳۱ .

  • نام منبع :
    منتخب موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام
    المساعدون :
    غلامعلي، مهدي
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دار الحديث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1388
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 302496
الصفحه من 987
طباعه  ارسل الي