ولنا أن نلمس هذه الحقيقة بوضوح في تصوير شامل للإمام أمير المؤمنين عليه السلام يتحدّث فيه عن أصناف الناس في عصره ، قال عليه السلام :
«ومِنهُم مَن يَطلُبُ الدُّنيا بِعَمَلِ الآخِرَةِ ولا يَطلُبُ الآخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنيا ، قَد طامَنَ مِن شَخصِهِ ، وقارَبَ مِن خَطوِهِ ، وشَمَّرَ مِن ثَوبِهِ ، وزَخرَفَ مِن نَفسِهِ لِلأَمانَةِ ، وَاتَّخَذَ سِترَ اللّهِ ذَريعَةً إلَى المَعصِيَةِ» ۱ .
ومن الصعب تمييز النماذج الماثلة لطلّاب الدنيا بخاصّة طلّابها الذين عليهم مسحة التوجه إلى الآخرة ، فهذا اللون من التوجّه لا يظهر إلّا عند محطّات الاختبار وفى منعطفات الحياة الوعرة ، وهناك تنجلي جوهرة الباطن ، ونِعمَ ما قاله الإمام عليه السلام في هذا المجال :
«في تَقَلُّبِ الأَحوالِ عِلمُ جَواهِرِ الرِّجالِ» . ۲
إن إدراك الحقيقة المستخفية وراء حجاب الرياء والتدليس أمر لا يهتدي إليه كلّ أحد ؛ فهو يتطلّب بصيرة عميقة ثاقبة كبصيرة مالك الأشتر ، حتى يتسنّى أن يُرى حبّ الدنيا كامنا وراء السجدات الطويلة والنزعات الخادعة ببريق قداستها المفتعلة . لقد كان مالك على مشارف النصر في صفّين ، وتقدّم حتى اقترب من خيمة طلّاب السلطة ، لكنّه اُكره على التقهقر تحت ضغط «القرّاء» . وحين عاد خاطبهم بحرقة وألم ، فقال لهم :
«يا أصحابَ الجِباهِ السُّودِ ! كُنّا نَظُنُّ صَلَواتِكُم زَهادَةً فِي الدُّنيا ، وشَوقا إلى لِقاءِ اللّهِ عَزَّوجَلَّ ، فَلا أرى فِرارَكُم إلّا إلَى الدُّنيا مِنَ المَوتِ ، ألا قُبحاً يا أشباهَ النِّيبِ الجَلّالَةِ» ۳ .