وَحِزْبِ الشَّيْطَانِ، وَقَدَرِيَّةِ هذِهِ الاْءُمَّةِ وَمَجُوسِهَا، إِنَّ اللّهَ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ كَلَّفَ تَخْيِيراً ۱ ، وَنَهى تَحْذِيراً، وَأَعْطى عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيراً، وَلَمْ يُعْصَ ۲ مَغْلُوباً، وَلَمْ يُطَعْ مُكْرِهاً ۳ ، وَلَمْ يُمَلِّكْ ۴ مُفَوِّضاً، وَلَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً، وَلَمْ يَبْعَثِ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ عَبَثاً «ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌلِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ»۵ ، فَأَنْشَأَ
1.. في شرح صدر المتألّهين ، ص ۴۰۵ : «تخييرا ، مصدر سدّ مسدّ الخبر ، أي حال كونهم مختارين . وتحذيرا ، مفعول له » .
2.. في مرآة العقول : «يمكن أن يقرأ الفعلان ـ أي لم يعص ولم يطع ـ على بناء الفاعل ويكون الفاعل المطيع والعاصي ، وهما بعيدان».
3.. قوله: «مكرها» إمّا اسم فاعل ، أو اسم مفعول بمعنى المصدر . اُنظر : شرح المازندراني ، ج ۵ ، ص ۱۴؛ مرآة العقول ، ج ۲ ، ص ۱۸۱.
4.. في مرآة العقول : «لم يملّك، على بناء التفعيل ، والمفعول القدرة والإرادة والاختيار . أو على بناء الإفعال؛ بمعنى إعطاء السلطنة».
5.. صآ (۳۸) : ۲۷ . وقال العلاّمة الطباطبائي قدسسره : «مسألة القضاء والقدر من أقدم الأبحاث في تاريخ الإسلام ، اشتغل به المسلمون في أوائل انتشار الدعوة الإسلاميّة وتصادفها مع أنظار الباحثين من علماء الملل والأديان ، ولمّا كان تعلّق القضاء الحتم بالحوادث ومن بينها بالأفعال الاختياريّة من الإنسان يوجب بحسب الأنظار العامّية الساذجة ارتفاع تأثير الإرادة في الفعل ، وكون الإنسان مجبورا في فعله غير مختار ؛ تشعّب جماعة الباحثين (وهم قليل البضاعة في العلم يومئذٍ) علي فرقتين :
إحداهما ـ وهم المجبّرة ـ أثبتوا تعلّق الإرادة الحتميّة الإلهيّة بالأفعال كسائر الأشياء ، وهو القدر ، وقالوا بكون الإنسان مجبورا غير مختار في أفعاله ، والأفعال مخلوقة للّه تعالى ، وكذا أفعال سائر الأسباب التكوينيّة مخلوقة له .
وثانيتهما ـ وهم المفوّضة ـ أثبتوا اختياريّة الأفعال ، ونفوا تعلّق الإرادة الإلهيّة بالأفعال الإنسانيّة ، فاستنتجوا كونها مخلوقة للإنسان . ثمّ فرّع كلّ من الطائفتين على قولهم فروعا ، ولم يزالوا على ذلك حتّى تراكمت هناك أقوال وآراء يشمئزّ منها العقل السليم ، كارتفاع العلّيّة بين الأشياء ، وخلق المعاصي ، والإرادة الجزافيّة ، ووجود الواسطة بين النفي والإثبات ، وكون العالم غير محتاج في بقائه إلى الصانع ، إلى غير ذلك من هوساتهم .
والأصل في جميع ذلك عدم تفقّههم في فهم تعلّق الإرادة الإلهيّة بالأفعال وغيرها ، والبحث فيه طويل الذيل لايسعه المقام علي ضيقه ، غير أنّا نوضح المطلب بمَثَل نضربه ، ونشير به إلى خطأ الفرقتين ، والصواب الذي غفلوا عنه ؛ فلنفرض إنسانا اُوتي سعة من المال والمنال والضياع والدار والعبيد والإماء ، ثمّ اختار واحدا من عبيده ـ وزوّجه إحدى جواريه ـ وأعطاه من الدار والأثاث ما يرفع حوائجه المنزليّة ، ومن المال والضياع ما يسترزق به في حياته بالكسب والتعمير .
فإن قلنا : إنّ هذا الإعطاء لايؤثّر في تملّك العبد شيئا والمولى هو المالك وملكه بجميع ما أعطاه قبل الإعطاء وبعده على السواء ، كان ذلك قول المجبّرة .
وإن قلنا : إنّ العبد صار مالكا وحيدا بعد الإعطاء وبطل به ملك المولى ، وإنّما الأمر إلى العبد يفعل ما يشاء في ملكه ، كان ذلك قول المفوّضة .
وإن قلنا ـ كما هو الحقّ ـ : إنّ العبد يتملّك ما وهبه له المولى في ظرف ملك المولى وفي طوله لا في عرضه ، فالمولى هو المالك الأصلي والذي للعبد ملك في ملك ، كما أنّ الكتابة فعل اختياري منسوب إلى يد الإنسان وإلى نفس الإنسان ، بحيث لايبطل إحدى النسبتين الاُخرى ، كان ذلك القول الحقّ الذي يشير عليه السلام إليه في هذا الخبر .
فقوله عليه السلام : «لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب» إلى قوله : «وأعطى على القليل كثيرا» إشارة إلى نفي مذهب الجبر بمحاذير ذكرها عليه السلام ، ومعناها واضح .
وقوله : «ولم يعص مغلوبا» إشارة إلى نفي مذهب التفويض بمحاذيرها اللازمة ؛ فإنّ الإنسان لو كان خالقا لفعله ، كان مخالفته لما كلّفه اللّه من الفعل غلبة منه على اللّه سبحانه .
وقوله : «ولم يطع مكرها» نفي للجبر ، ومقابلة للجملة السابقة ؛ فلو كان الفعل مخلوقا للّه ـ وهو الفاعل ـ فقد أكره العبد على الإطاعة .
وقوله : «ولم يملك مفوّضا» بالبناء للفاعل وصيغة اسم الفاعل ، نفي للتفويض ، أي لم يملك اللّه ما ملّكه العبد من الفعل بتفويض الأمر إليه وإبطال ملك نفسه .
وقوله عليه السلام : «ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ، ولم يبعث النبيين مبشّرين ومنذرين عبثا» الجملتان يحتمل أن يشار بهما إلى نفي كلّ من الجبر والتفويض ؛ فإنّ الأفعال إذا كانت مخلوقة للّه قائمة به سبحانه ، كان المعاد الذي هو غاية الخلقة أمرا باطلاً ؛ لبطلان الثواب والعقاب إلى آخر ما ذكره عليه السلام ، وكان بعث الرسل لإقامة الحجّة وتقدمة القيامة عبثا ، ولا معنى لأن يقيم تعالى حجّة على فعل نفسه ، وإذا كانت مخلوقة للإنسان ولا تأثير للّه سبحانه فيها ، لزم أن تكون الخلقة لغاية لايملك اللّه تعالى منه شيئا وهو الباطل ، وبعث الرسل لغرض الهداية التي لايملكها إلاّ الإنسان ليس للّه فيها شأن وهو العبث .
واعلم أنّ البحث عن القضاء والقدر كان في أوّل الأمر مسألة واحدة ، ثمّ تحوّلت ثلاث مسائل أصليّة :
الاُولى : مسألة القضاء وهو تعلّق الإرادة الإلهيّة الحتميّة بكلّ شيء ، والأخبار تقضي فيها بالإثبات ، كما مرّ في الأبواب السابقة .
الثانية : مسألة القدر ، وهو ثبوت تأثير ماله تعالى في الأفعال ، والأخبار تدلّ فيها أيضا على الإثبات .
الثالثة : مسألة الجبر والتفويض ، والأخبار تشير فيها إلى نفي كلا القولين ، وتثبت قولاً ثالثا ، وهو الأمر بين الأمرين ، لا ملكا للّه فقط من غير ملك الإنسان ولا بالعكس ، بل ملكا في طول ملك ، وسلطنة في ظرف سلطنة .
واعلم أيضا أنّ تسمية هؤلاء بالقدريّة مأخوذة ممّا صحّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله : «إنّ القدريّة مجوس هذه الاُمّة» الحديث ، فأخذت المجبّرة تسمّى المفوّضة بالقدريّة ؛ لأنّهم ينكرون القدر ويتكلّمون عليها ، والمفوّضة تسمّي المجبّرة بالقدريّة ؛ لأنّهم يثبتون القدر ، والذي يتحصّل من أخبار أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّهم يسمّون كلتا الفرقتين بالقدريّة ، ويطبقون الحديث النبويّ عليهما .
أمّا المجبّرة فلأنّهم ينسبون الخير والشرّ والطاعة والمعصية جميعا إلى غير الإنسان ، كما أنّ المجوس قائلون بكون فاعل الخير والشرّ جميعا غير الإنسان ، وقوله عليه السلام في هذا الخبر مبنيّ على هذا النظر .
وأمّا المفوّضة فلأنّهم قائلون بخالقين في العالم هما الإنسان بالنسبة إلى أفعاله ، واللّه سبحانه بالنسبة إلى غيرها ، كما أنّ المجوس قائلون بإله الخير وإله الشرّ، وقوله عليه السلام في الروايات التالية : لاجبر ولاقدر ، ناظر إلى هذا الاعتبار».