فَاقْلَعْهَا ، وَارْمِ بِهَا إِلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ ۱ » . ۲
1.في «ط ، ى» : «ولا إضرار» . وقال ابن الأثير : «فيه : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، الضرّ : ضدّ النفع ... فمعنى قوله : لا ضرر ، أي لا يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقّه . والضرار : فعال من الضرّ ، أي لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه . والضرر : فعل الواحد . والضرار : فعل الاثنين . والضرر : ابتداء الفعل ، والضرار : الجزاء عليه . وقيل : الضرر : ما تضرّ به صاحبك وتنتفع به أنت . والضرار : أن تضرّه من غير أن تنتفع به . وقيل : هما بمعنى ، وتكرار هما للتأكيد» . النهاية ، ج ۳ ، ص ۸۱ (ضرر) .
وقال المحقّق الشعراني في هامش الوافي : «الضرّ معروف ، وذكروا في الفرق بينهما ما هو معروف ، ولا يبعد أن يكون المراد من الضرار أن يماكس في شيء يضرّ صاحبه ولا ينتفع به نفسه ، ويقال له في لساننا : لجبازي وآزار .
وقد كتب الشيخ المحقّق الأنصاري رحمه الله في تفسير العبارة رسالة بديعة أودع فيها من نفائس المباحث ما هو معروف . ولا يراد بنفي الضرر عدم وجوده تكوينا ؛ لأنّه موجود ، بل المراد منه النهي عنه نظير قوله عليه السلام : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» و«لا بيع إلّا في ملك» فيكون إنشاء . ويستلزم النهي في أمثال هذه التراكيب بطلان ما تعلّق به ، فيستفاد منها النهي الوضعي مع التكليفي . وقيل : إنّه إخبار عن عدم وجود حكم يوجب الضرر في أحكام الشريعة ، وكونه إنشاء ، أعني نهيا شاملاً للحكم التكليفي والوضعي أظهر ، كسائر أمثاله ممّا لا يحصى .
ومن تحقيقات الشيخ المحقّق المذكور في رسالته أنّ قوله عليه السلام : «لا ضرر ولا ضرار» حاكم على أدلّة سائر الأحكام ، والحكومة في اصطلاح الشيخ أن يكون هناك خبران لا يكون لأحدهما موقع إلّا بعد فرض وجود حكم الأوّل ، مثلاً قولهم : الضرورات تبيح المحظورات ، لا يمكن صدوره من متكلّم إلّا بعد وجود فعل محظور قبل صدور هذا الكلام يكون ناظرا إليه ، فيقال : هذا حاكم على ذاك ، بخلاف مثل قولهم : لا تكرم الفسّاق ؛ فإنّه يصحّ صدوره من المتكلّم غير ناظر إلى حكم آخر ؛ إذ يصحّ أن يتكلّم به المتكلّم سواء صدر قبله منه «أكرم العلماء» أولا ، فليس قولهم: لا تكرم الفسّاق ، حاكما على قولهم : أكرم العلماء ، وعلى هذا فإن حملنا قوله عليه السلام : لا ضرر ولا ضرار على النهي ، كما هو الأظهر والأشبه بأمثاله ، فليس حاكما على سائر التكاليف ؛ إذ يصحّ أن ينهى الشارع الناس عن الإضرار بغيرهم ، وإن لم يكن غير هذا حكم في الشريعة أصلاً ، ولا يكون أمر لصلاة ولا صوم ولا زكاة ، ولا نهي عن زنى وشرب مسكر ، ويجوز أن ينهى عن الإضرار من غير أن يكون ناظرا إلى حكم . ولكن إن حمل قوله عليه السلام : لا ضرر ولا ضرار ، على الإخبار ، أي لا يكون في الأحكام المجعولة من الشارع حكم ضرري ، فيكون حاكما على اصطلاح الشيخ رحمه الله رحمه الله ؛ إذ هو ناظر إلى سائر الأحكام ، بل لا يمكن صدور مثل هذا الكلام عن متكلّم إلّا أن يكون له أحكام قبل ذلك أو بعده ، نظير قوله تعالى : «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» [الحجّ (۲۲) : ۷۸ ]فإنّه يتوقّف على دين وأحكام ويكون نفي الحرج ناظرا إليه .
فإن قيل : النهي عن شيء متوقّف على قدرة المكلّف على الفعل قبل النهي وناظر إليه ، فقوله : «لا تزن» ، أي حرم عليك أيّها القادر على الزنى . وكذلك «لا ضرر» : أيّها القادر على الإضرار شرعا أو عقلاً ، فيكون النهي عن الضرر حاكما على ما يدلّ على قدرة المكلّف على ما يوجب الضرر ، مثل «الناس مسلّطون على أموالهم» ممّا يدلّ على قدرة الناس .
قلنا : القدر المسلّم هنا أنّ النهي يتوقّف على ملاحظة القدرة العقليّة ، كالنهي عن الزنى والسرقة ، فلا يصدر مثل قوله : «لا ضرر ولا ضرار» إلّا ناظرا إلى القدرة العقليّة ، وأمّا القدرة الشرعيّة ، أعني أدلّة جواز بعض الأعمال شرعا ، فلا دليل على كون النهي عن الضرر ناظرا إليها بعد إمكان صدور مثل هذا الكلام قبل صدور كلّ دليل شرعي ، ولا مانع من أن يقال : أدلّة القدرة مثل «الناس مسلّطون» مقدّمة على دليل نفي الضرر ؛ إذ كلاهما دليل شرعي .
وقال بعضهم في معني الحكومة بأنّها ما لا يتردّد الناس في تقديم أحد الدليلين على الآخر ، كالخاصّ ؛ فإنّه حاكم على العامّ ؛ إذ لا يتردّد أحد في تقديمه عليه ، وعلى هذا فلا ريب في أنّه ليس مثل «لا ضرر» حاكما على مثل «الناس مسلّطون على أموالهم» ؛ إذ يتردّد فيه الناس ، بلى ربّما يتردّد فيه الفقهاء المحقّقون العظام ، كما قال الشيخ المحقّق المذكور في رسالته : إنّ تصرّف المالك في ملكه إذا استلزم تضرّر جاره يجوز أم لا ؟ والمشهور الجواز إلى آخره ، وربَّما يقال : إنّ قوله : «لا ضرر ولا ضرار» حكمة لا يجوز لنا أن نخترع أحكاما غير منقولة اعتمادا على النهي عن الضرر ، مثلاً لو لم يكن فسخ البيع مشروعا في الغبن لم يكن لنا اختراع الفسخ فيه ؛ فدفع الضرر ، كما لا نقول بتجويز فسخ النكاح للمرأة إذا اقتضى استمراره ضررا على المرأة ، أو على أحد أقربائها ، فيجب في كلّ مسألة يتمسّك فيها بنفي الضرر التماس دليل آخر ، ويجعل النفي مؤيّدا له .
ثمّ إنّ الظاهر من كلام الشيخ المحقّق الأنصاري رحمه الله أنّ الحكومة اصطلاح له في دليلين غير قطعيّين يحتاج في تقديم أحدهما على الآخر إلى مرجّح إسنادي أو دلالي ، فيكتفى بالحكومة عن الترجيح ، وأمّا مثل النهي عن الإضرار وتسلّط الناس على أموالهم وحرمة الغصب وأمثال ذلك فأحكام ضروريّة في شرع الإسلام ثابتة لا يحتاج في أمثالها إلى ترجيح إسنادي ، وهو واضح ، ولا إلى ترجيح دلالي ؛ إذ لا نشكّ في شمولها لجميع الموارد ، ولم يخصّص أحدهما بالآخر ، فكلّ إضرار مبغوض ، وكلّ غصب حرام ، وإنّما يشكّ إذا لم يمكن في مقام العمل امتثال كلا الحكمين ، فلا نعلم أنّ الشارع أراد منّا مثلاً رعاية حقّ الجار ، أو رعاية حقّ المالك ، لا لقصور في دلالة لفظه وشمولها ، بل لتعارض المصالح وعدم إمكان الجمع بينهما ، وهذا النوع من التعارض يسمّى في عرف المتأخّرين بالتزاحم ، فهو نظير قولهم : صلّ ولا تغصب ؛ لأنّ كليهما حكم ضروري ثابت في الشرع بغير تردّد ، ولا معنى لترجيح أحدهما على الآخر من جهة السند ولا من جهة الدلالة ، وإنّما يشكّ في كون الصلاة في مكان مغصوب مبغوضة أو مطلوبة لا لضعف إسنادي أو دلالي ، بل لأمرٍ آخر ، وهو اجتماعها بسوء اختيار المكلّف ، وكذلك معارضة نفي الضرر وتسلّط الناس على أملاكهم ، ثمّ إنّ الضرر الطارئ على الإنسان بسبب التزامه بحكم الشارع ليس منفيّا في الشريعة قطعا ، كالمستأجر الذي يوجب انتقاله بعد مدّة الإجارة عليه ضررا عظيما ، والمرأة التي يكون استمرار نكاحها ضررا عظيما ، وغير ذلك ممّا لايتناهى في أبواب المعاملات والأنكحة ، كما أنّ الجهاد والحجّ لا ينفى بأدلّة نفي الحرج ، فلا يصحّ أن يقال : يرتفع جميع الأحكام بقوله : «لا ضرر» ، كما لا يرتفع الجهاد بقوله : «لا حرج» ، ويتضرّر كثيرٌ من متديّني التجّار بترك الربا ؛ لأنّ أكثر المعاملات مبنيّه عليه، فحرمة الإضرار إنّما هي فيما لم يكن ذلك بأمر الشارع ومقتضى أحكامه الثابتة ، فما يظنّ أنّ قوله : «لا ضرر» ، حاكم على جميع الأحكام مشكل ، بل يجب تحمّل الضرر كثيرا ؛ لوجود سائر الأحكام ، فإن كانت حكومة كان الحقّ أن يقال : ساير الأحكام حاكمة على قوله : «لا ضرر» ، في هذه الموارد» .
2.التهذيب ، ج ۷ ، ص ۱۴۶ ، ح ۶۵۱ ، معلّقا عن أحمد بن محمّد بن خالد . الفقيه ، ج ۳ ، ص ۲۳۳ ، ح ۳۸۶۲ ، معلّقا عن ابن بكير ، عن زرارة ، مع اختلاف يسير . معاني الأخبار ، ص ۲۸۱ ، بسند آخر عن النبيّ صلى الله عليه و آله ؛ الفقيه ، ج ۴ ، ص ۳۳۴ ، ح ۵۷۱۷ ، مرسلاً عن النبيّ صلى الله عليه و آله ، وتمام الرواية في الأخيرين : «لا ضرر ولا إضرار في الإسلام» الوافي ، ج ۱۸ ، ص ۱۰۶۷ ، ح ۱۸۸۳۵ ؛ الوسائل ، ج ۲۵ ، ص ۴۲۸ ، ح ۳۲۲۸۱ ؛ وفيه ، ج ۱۸ ، ص ۳۲ ، ح ۲۳۰۷۳ ، تمام الرواية هكذا : «لا ضرر ولا ضرار» ؛ البحار ، ج ۲ ، ص ۲۷۶ ، ح ۲۷ ؛ و ج ۲۲ ، ص ۱۳۴ ، ح ۱۱۷ .