189
الهدايا لشيعة ائمة الهدي ج1

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الجزء الأوّل من كتاب الهدايا

كتاب العقل وفضل العلم وأبوابه كما في الكافي ثلاثة وعشرون

الباب الأوّل : باب العقل والجهل

وأحاديثه كما في الكافي أربعة وثلاثون

الحديث الأوّل

۰.روى في الكافي وقال: أخبرنا أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني طاب ثراه قال: حدّثني عدّة من أصحابنا منهم محمّد بن يحيى العطّار، عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال:««لَمَّا خَلَقَ اللّه ُ الْعَقْلَ اسْتَنْطَقَهُ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَقْبِلْ ، فَأَقْبَلَ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَدْبِرْ ، فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ : وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقَاً هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ ، وَلَا أَكْمَلْتُكَ ۱ إِلَا فِي مَنْ أُحِبُّ، أَمَا إِنِّي إِيَّاكَ آمُرُ وَإِيَّاكَ أَنْهى، وَإِيَّاكَ أُثِيبُ وَإِيَّاكَ أُعَاقِبُ».

الهديّة الثالثة عشر:

قد سبق في المقدّمة الاُولى بيان «عدّة من أصحابنا».
و(العقل) لغةً له معان، منها: الفهم؛ أي الإدراك البشري مطلقا. وشرعا: ما هو مناط التكاليف الشرعيّة، والثواب والعقاب.
وفي عرف المعصومين عليهم السلام يُطلق على أشياء: فتارةً على المخلوق الأوّل من مخلوقات اللّه تبارك وتعالى، وهو نور نبيّنا سيّد المرسلين وخاتم النبيّين صلى الله عليه و آله .
واُخرى على حالة ذلك النور ومعرفته.
وكذا تارةً على نور آله المنشعب من نوره، وعلى نور شيعتهم المنشعب من نورهم، كنور سائر ۲ الأنبياء والمرسلين وشيعتهم.
واُخرى على حالة تلك الأنوار ومعرفتها.
و(الجهل) ضدّه بمعانيه.
وقد جرت عادة السلف بذكر قولهم: (أخبرنا)، ويذكرون أسامي أنفسهم، كأنّهم يريدون تعليم رواة أحاديثهم.
و(أحمد بن محمّد) إمّا ابن عيسى، كما هو في الطريق إلى الحسن بن محبوب، أو ابن خالد، كما في طائفة من الأسانيد في الكافي.
وهذا الحديث روته العامّة أيضا بطرق متعدّدة وألفاظ مختلفة.
والمراد ب (العقل) فيه: نور النبيّ صلى الله عليه و آله المخلوق منه سائر العقول المتفاوتة، سواء قلنا بوحدة الخطاب أو تعدّده، وقد قال صلى الله عليه و آله : «أوّل ما خلق اللّه نوري». ۳ وفي حديث آخر: «روحي» ۴ .
وفي حديث المفضّل عن الصادق عليه السلام : «إنّا خلقنا أنوارا، وخلقت شيعتنا من شعاع ذلك النور، فلذلك سمّيت شيعة، فإذا كان يوم القيامة التحقت السفلى بالعليا. ۵
(استنطقه) و«أنطقه» بمعنى. ولعلّ معنى (أقبل، فأقبل) ـ بتأييد ظاهر قوله عليه السلام : في الحديث الرابع عشر من هذا الباب ۶ : «ثمّ خلق الجهل من البحر الاُجاج ظلمانيّا فقال له: أدبر، فأدبر، ثمّ قال له: أقبل فلم يقبل، فقال له: استكبرت، فلعنه» ـ : انظر إلى عظمة الخالق تعالى شأنه، فنظر، فأقرّ بأنّه جلّت عظمته مستحقّ لعبوديّة جميع ما سواه له.
(ثمّ قال له: أدبر فأدبر) أي انظر إلى نفسك وعجزك وحاجتك في وجودك في جميع حالاته إلى خالقك ۷ ، فنظر فاعترف بعجزه وحاجته ۸ وعبوديّته.
وحديث تعليم أمير المؤمنين جبرئيل عليه السلام مشهور ومؤيّد لشرحه. ۹
و«الإكمال» و«التكميل» بمعنى أمر.
والمخاطب في (إيّاك) الاُولى والثانية: عقل المعصوم بالذات، والعقل الذي هو مناط التكليف بالتّبع. وفي الثالثة والرابعة: على التعريض على من افترض اللّه عليه طاعة المعصوم.
وقال برهان الفضلاء سلّمه اللّه تعالى:
المراد ب «العقل» في هذا الحديث: ما به يراعى الآداب الحسنة في تحصيل علم الدِّين والعمل بمقتضاه على قدر الوسع والطاقة، لا العقل الذي شرط التكليف وهو ضدّ الجنون.
«استنطقه» أي عدّه ناطقا.
وعبّر عليه السلام عن الأمر بإطاعة المعصوم في أحكام الدِّين ممّا يجري الاختلاف فيه وفي دليله بلا مكابرة ب «الإقبال». وعن الرخصة في العمل بما لا خلاف فيه عقلاً ولا منع منه شرعا ب «الإدبار»؛ إذ الإقبال إلى غير المعصوم خلاف الإقبال إلى غيره.
والحكم المرخّص فيه قد يكون بالظنّ، كالحكم في قِيَم المتلفات، ومقادير الجراحات الموجبة للديات، وعدالة الرواة وأمثالها؛ وقد يكون بالعلم، كالحكم على المقرّ بشيء، كمن يقول: أنا مستطيع للحجّ.
و«إكمال العقل» عبارة عن كونه مستجمعا لجنوده التي سيذكر إن شاء اللّه تعالى.
و«إيّاك» في المواضع الأربعة: ضمير منفصل منصوب محلّاً، ومفعول به للفعل المؤخّر، ومن قبيل وضع السبب موضع المفعول به على نوع من التجوّز؛ أي لأجلك. والعقل لا يخاطب حقيقة، بل الكلام على التشبيه فاستعارة تمثيليّة.
والمراد: أنّ الذين يدّعون كشف الحقائق بالرياضة كالصوفيّة، أو بالتفكّر والدليل وذكاء الفهم كالفلاسفة إنّما هم أهل الجهل والضلالة.
وقال الفاضل الاسترآبادي بخطّه رحمه الله:
المراد بالعقل في بعض مواضع هذا الباب: الغريزة، وفي بعضها: ما يترتّب على الغريزة، كفهم المقصود، وكالتمييز بين الصواب والخطأ، وكالاجتناب عن المضارّ وجلب المنافع. وتلك الغريزة نور يفيضه اللّه على القلوب، ولها أفراد مختلفة بالقوّة والضعف. والهداية التي هي صنع اللّه تبارك وتعالى هي خلق هذا النور. صرّحت الأحاديث بذلك. والتي صنع الأنبياء ومن يحذو حَذْوهم عليهم السلام هي بيان المدّعى، وبيان الدليل عليها. وقع التصريح بهما في الأحاديث. ۱۰
وسمعت اُستاذي الفاضل المحقّق ميرزا محمّد الاسترآبادي رحمه اللهيقول:
كان الطلبة المتردّدين على المصنّف كتبوا في أوّل الخبر: «أخبرنا محمّد بن يعقوب»، وبقّى تلك الكتابة، واستمرّ الأمر على هذا.
و«العقل» جاء بمعانٍ كثيرة. و«الجهل» جاء بمعاني تضادّ معاني العقل. والمراد هنا الغريزة الباعثة صاحبها على تمييز الصواب عن الخطأ، وعلى دفع المضارّ وجلب المنافع، وهو مقول بالتشكيك، وأضعف أفراده مناط التكليف، وأقوى أفراده مناط السعادة.
«أما إنّي إيّاك آمر»، يعني جعلتك مناط التكاليف، ومناط الثواب والعقاب.
وقال السيّد الأجلّ النائيني رحمه الله:
العقل يطلق على حالة في النفس داعيةٍ على اختيار الخير والنّافع، بها يدرك الخير والشرّ، ويميّز بينهما، ويتمكّن من معرفة أسباب المسبّبات وما ينفع فيها وما يضرّ، وبها يقوى على زجر الدواعي الشهوانيّة والغضبيّة ودفع الوساوس الشيطانيّة.
ويقابله الجهل، ويكون بفقد أحد الاُمور، وبفقد أكثرها، وبفقد جميعها.
وقد يُطلق العقل ويُراد به قوّة إدراك الخير والشرّ والتميّز بينهما، والتمكّن من معرفة أسباب الاُمور ذوات الأسباب، وما يؤدّي إليها، وما يمنع منها. والعقل بهذا المعنى مناط التكليف والثواب والعقاب. والعقل بالمعنى الأوّل «ما عُبد به الرحمان واكتسب به الجنان». ولعلّ الأوّل هو الكامل من الثاني، فتبادر عند الإطلاق، وشاع استعماله فيه.
وفي الحديث الأوّل من هذا الباب استعمل في الثاني واُشير إلى أنّ كماله لا يكون إلّا فيمن أحبّ. وفي الحديث الثاني والثالث استعمل في الكامل، يعني المعنى الأوّل. وفي بعض الأحاديث التالية لها استُعمل في الأوّل، وفي بعضها في الثاني، يعرف بالتدبّر.
وقد يُطلق العقل على أوّل مخلوق من الرّوحانيّين كما ينطق به الأحاديث الواردة عن المعصومين ووافقها كلمة الكَلَمَة من الحكماء المحقّقين.
فإن صحَّ القول بثبوته للنفس ـ على ما قاله المحقّقون من أنّ نسبته إلى النفس كنسبة النفس إلى البدن، وقالوا للنفس: إنّها صورة البدن، وأنّ «الناطق» الذي هو فصل الإنسان، وصورته التي هي «النفس» مختلفان باعتبار اللابشرطيّة وشرط اللائيّة، كما أنّ الحيوان الذي هو الجنس، والبدن الذي هو المادّة مختلفان بالاعتبارين المذكورين، وإذ لم يبالوا بإطلاق التوصيف مع الاختلاف بالمفارقة والمقارنة بين النفس والبدن لمجرّد التعلّق الخاصّ بينهما، فكيف مع الاتّفاق في التجرّد الذاتي كما في النفس والعقل ـ فلا يستبعد ۱۱ حمل العقل في الأحاديث الدالّة على اتّصاف النفس به، وكونِه حالة لها على ذلك الروحاني المخلوق أوّلاً. وكثير من أحاديث هذا الباب يؤيّد ذلك ويقوّيه... .
و«إقبال العقل» عبارة عن توجّهه إلى المبدأ، و«إدباره» عبارة عن توجّهه إلى المقارنات، ويصحّ إطلاقهما في أوّل خلق من الرّوحانيّين، وفي الغريزة ۱۲ النفسانيّة الداعية إلى اختيار الخير والنافع، وفي قوّة إدراك الخير والشرّ والتميّز بينهما.
«ولا أكملتك ۱۳ إلّا فيمن اُحبّ»، يلائم الأخيرين، وإن كان يصحّ في الأوّل باعتبار الارتباط والإشراق على النفس بعناية، فيكون المراد بإكمال ذلك العقل فيمن اُحبّ إكمال ارتباطه وإشراقه.
«وإيّاك آمر، وإيّاك أنهى، وإيّاك اُعاقب وإيّاك اُثيب» ۱۴ يناسب الأخير؛ فإنّه مناط التكليف.
ولمّا كان سببا لصحّة تعلّق التكليف بالنفس وكان النفس مكلّفا لكونها عاقلاً، فكأنّه مكلّف، قال : «إيّاك آمر». وإن كان يصحّ في الثاني بعناية، وفي الأوّل بزيادتها. ۱۵
وقال الفاضل صدر الدِّين محمّد الشيرازي:
المراد ب «إقبال العقل» إقباله إلى الدنيا، وب «إدباره» إدباره عنها، فإقباله في جميع المراتب إيجابيّ تكوينيّ لا يحتمل العصيان، وأمريّ دفعي لا يدخل تحت الزمان، ولا يتطرّق إلى السابق عند وجود اللّاحق بطلان ولانقصان، وإدباره في الأواخر تكليفي تشريعي، وكلّه خُلقي تدريجي مقيّد بزمان يبطل السابق عند حدوث اللاحق شخصا وجسما لا حقيقةً وروحا، وكلّ مرتبة منهما عين نظيرته من الآخر حقيقة، وغيره شخصا. ۱۶
وقال بعض المعاصرين:
«أقبل» أي إلى الدنيا... «فأقبل» فنزل على هذا العالم، فأفاض النفوس الفلكيّة [بإذن ربّه] ۱۷ ثمّ الطبائع، ثمّ الصور، ثمّ الموادّ، فظهر في حقيقة كلّ منها وفعل فعلها، فصار كثرةً وأعدادا، وتكثّر أشخاصا وأفرادا.
ثمّ قال له: «أدبر»؛ أي ارجع إلى ربّك «فأدبر» فأجاب داعي ربّه وتوجّه إلى جناب قدسه. بأن صار جسما مصوّرا من ماء عذب وأرض طيّبة، ثمّ نبت نباتا حسنا، ثمّ صار حيوانا ذا عقل هيولاني، ثمّ صار عقلاً بالملَكَة، ثمّ عقلاً مستفادا، ثمّ عقلاً بالفعل، ثمّ فارق الدنيا ولحق بالرفيق الأعلى، وكذلك فعل كلّ مَن شيّعه وتبعه من الأرواح المنشعبة منه المقتبسة من نوره أو المنبجسة من شعاعه، ويلحق به الجميع، ويحشر معه في عروجه إلى العالم الأعلى ورجوعه إلى اللّه تعالى.
فإقباله، عبارة عن توجّهه إلى هذا العالم الجسماني وإلقائه عليه من شعاع نوره، وإظهاره الأعيان فيه، وإفاضته الشعور والإدراك والعلم والنطق على كلّ منها بقدر استعداده له وقبوله منه، من غير أن يفارق معدنه ويخلّي مرتبته ومقامه في القرب، بل يرشّح بفضل وجوده الفائض من اللّه على وجود ما دونه.
وإدباره، عبارة عن رجوعه إلى جناب الحقّ وعروجه إلى عالم القدس باستكماله لذاته بالعبوديّة الذاتيّة شيئا فشيئا من أرض المادّة إلى سماء العقل حتّى يصل إلى اللّه تعالى، ويستقرّ إلى مقام الأمن والراحة، ويُبعث إلى المقام المحمود الذي يغبطه به الأوّلون والآخرون... وفي هذا المقام أسرار لا يحتملها أفهام الجمهور، فلنذرها في سنابلها. ۱۸

1.في «الف»: «اُكملنّك».

2.في «ب» و «ج»: - «سائر».

3.عوالي اللآلي، ج ۴، ص ۹۹، ح ۱۴۰؛ الغدير، ج ۷، ص ۳۸؛ المواقف، ج ۲، ص ۶۸۶ .

4.بحار الأنوار، ج ۵۴ ، ص ۳۰۹.

5.بحار الأنوار، ج ۲۶، ص ۳۵۰، ح ۲۴.

6.في «ب» و «ج»: - «في الحديث الرابع عشر من هذا الباب».

7.«ب» و «ج»: - «وحاجتك في وجودك في جميع حالاته إلى خالقك».

8.في «ب» و «ج»: - «وحاجته».

9.في «ب» و «ج»: - «مؤيّد لشرحه».

10.الحاشية على اُصول الكافي، ص ۸۵ .

11.جواب لقوله : «فإن صحّ القول...».

12.في المصدر : «القوّة» مكان «الغريزة».

13.في «الف»: «اُكملنّك».

14.في «ب» و «ج»: - «وإيّاك اُثيب».

15.الحاشية علي اُصول الكافي، ص ۴۱ ـ ۴۴.

16.توجد العبارة بعينها في الوافي، ج ۱، ص ۵۴ من دون أن تنسب إلى صدر الدين محمّد الشيرازي.

17.أضفناه من المصدر.

18.الوافي، ج ۱، ص ۵۳ ـ ۵۶.


الهدايا لشيعة ائمة الهدي ج1
188
  • نام منبع :
    الهدايا لشيعة ائمة الهدي ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین ؛ القیصریه ها، غلام حسین
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 110567
صفحه از 644
پرینت  ارسال به