الباب الخامس والعشرون : بَابٌ فِي أنَّهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فيالسَّمَاءِ ۱ إِلَابِسَبْعَةٍ
وفيه كما في الكافي حديثان :
الحديث الأوّل
۰.روى في الكافي بإسناده ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ ، عَنْ حَرِيزِ وَابْنِ مُسْكَانَ جَمِيعا ،۲عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، أَنَّهُ قَالَ :«لَا يَكُونُ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ إِلَا بِهذِهِ الْخِصَالِ السَّبْعِ : بِمَشِيئَةٍ ، وَإِرَادَةٍ ، وَقَدَرٍ ، وَقَضَاءٍ ، وَإِذْنٍ ، وَكِتَابٍ ، وَأَجَلٍ ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلى نَقْضِ وَاحِدَةٍ ، فَقَدْ كَفَرَ» .
هديّة :
يعني لا يحدث شيء في العالَم إلّا بعد حدوث هذه الخصال السبع ، فلا يفعل عبد يحبّه اللّه ، خيرا، أو يبغضه اللّه شرّا (إلّا بمشيئة ، وإرادة ، وقدر ، وقضاء ، وإذن ، وكتاب ، وأجل) من اللّه سبحانه .
ولا جبر ؛ إذ الجبر إذا أجبر مَنْ من شأنه الخير على الشرّ ، ومَنْ من شأنه الشرّ على الخير .
ولا تفويض أيضا ؛ لعدم استقلال العبد قدرةً، وقدرته تؤثّر بإذن من اللّه سبحانه ، فأمر بين الأمرين .
و«المشيئة» : جعله تعالى في العبد القدرة على الفعل بإذنه ، والترك بإذنه .
و«الإرادة» : خلقه الخير فيمن يحبّه والشرّ فيمن يبغضه ، ثمّ تقديره وتحديده ما أراد بمثاله وأجله ، ثمّ القضاء والحكم ، ثمّ الإذن والإمضاء ، فيصدر أمر بين أمرين بفعل الفاعل وإيجاد الخالق تعالى .
وتوضح لك مصاديق الحالات الثلاث من هذه الأمثلة : إذا كان رجل على مرتفع وآخر أسفل منه فيعلو منه في الأسفل بأنحاء ثلاثة ، إمّا بأخذ مَنْ في العالي على يد مَنْ في الأسفل من غير علاج ممّن في الأسفل فهو الجبر ، وإمّا بسعي مَنْ في الأسفل وقوّته بلا شائبة علاج وتأثير ممّن في العالي فهو التفويض ، وإمّا بأخذ الأعلى على يد مَنْ في الأسفل وقوّتهما وعلاجهما وتأثير سعيهما فهو أمرٌ بين الأمرين .
ثمّ اعلم أنّ المشيئة تؤكّد بالإرادة ، والإرادة بالتقدير ـ تقدير القَدْر والوصف ـ والتقدير بالحكم ، والحكم بالإذن ، ويثبت بالإذن النقش والمثال الممتاز عن غيره في الأعيان بمدّتها أيضا من أوّلها إلى آخرها ، فحقيقة مشيّته تعالى جعله في العبد قدرةً على الخير والشرّ ، فإذا شاء خيره فعل الخير بتوفيقه ، وإذا شاء شرّه فعل الشرّ بخذلانه ، فالجاعل بقدرته هو اللّه سبحانه والفاعل باختياره هو العبد .
والفرق بين الأمر والمشيئة ظاهر كما سيجيء في الثالث من الباب التالي ، فلا يصدر شيء من عبد إلّا بإذن اللّه ، لكن الخير بإذن منضمّا بأمر اللّه ورضائه ، والشرّ بإذن منضمّا بنهيه وإكراهه . ومَثَل اختيار العبد كَمَثَلِ العصير العنبي من شأنه أن يصير دِبسا أو خمرا . والعلم عند اللّه وحججه صلوات اللّه عليهم .
وفي الحديث القدسي ـ كما سيذكر في باب الخير والشرّ ـ : «إنّي أنا اللّه لا إله إلّا أنا ، خلقت الخير ، وخلقت الشرّ ، فطوبى لمن أجريتُ على يديه الخير ، وويلٌ لمن أجريتُ على يديه الشرّ ، وويلٌ لمن يقول : كيف ذا؟ وكيف ذا ؟». ۳ يعني على يديه الخير دائما أو غالبا ، وكذا في أجزاء الشرّ ؛ لما سيذكر في بيان الثالث من الباب التالي .
قال الفاضل الإسترابادي بخطّه :
«إلّا بهذه الخصال السبع » يعني وجود كلّ حادث مسبوق بسبعة أشياء . وسيجيء في باب الجبر رواية في الإذن ، وسيجيء في باب الاستطاعة ما يدلّ على أنّ الإذن هو القدر المشترك بين الحيلولة والتخلية . ۴
وقيل : الإذن هو الإمضاء ، والكتاب هو المثبت في اللّوح المحفوظ ، والأجل هو تعيين الوقت . ۵
وقال برهان الفضلاء سلّمه اللّه تعالى :
يعني لا يكون شيء من أفعال جوارح العباد من الإنس والجنّ في الأرض ، والملائكة وغيرها في السماء إلّا بهذه الخصال السبع . والأربع الاُول للردّ على المجوس والمعتزلة ؛ لنسبة المجوس جميع تدبيرات الظُلْمَة يعني الشيطان إليها ، بمعنى إثباتهم الاستطاعة والاستقلال في القدرة لها .
وقول المعتزلة القائلين بتفويضين اللّذين أحدهما نشأ من اعتقادهم بوجوب كلّ لطف نافع على اللّه ، والثاني من اعتقادهم بأنّ قدرة العبد على الفعل إنّما هو قبل وقت الفعل ـ لقولهم باستطاعة العبد في الفعل والترك على الاستقلال ـ بأنّ اللّه سبحانه فوّض تدبيرات أفعال العباد إلى قدرتهم واختيارهم وليس لتدبير اللّه تعالى مدخلاً في تدبير العبد فعلاً وتركا ، وبأنّه تعالى لا يقدر على لطف يوجب الحيلولة بين العاصي والعصيان ؛ لقولهم بوجوب كلّ لطف نافع على العادل القادر ، فقالوا : لو كان ذلك من مقدوراته لفعل ، ولهذا سمّيت المعتزلة بالمفوّضة والأشاعرة يسمّون المعتزلة بالقدريّة ؛ لنسبتهم القَدَر إلى أنفسهم .
وحاصل الردّ: أنّ فعلاً من أحد لا يصدر في هذا النظام إلّا بمشيئة اللّه سبحانه عند أربعة أوقات :
عند خطور الفعل في خاطر فاعله ويسمّى هذا الخطور بمشيّة العبد .
وعند بقاء العبد على مشيّته هذه ويسمّى هذا بإرادة العبد ، كما سمّي ما من اللّه عند ذلك بإرادة اللّه ، وعند وقت أخذه وشروعه في الفعل قبل الإتمام ويسمّى هذا بقدر العبد ، كما يسمّى ما من اللّه عند ذلك بقدر اللّه .
وعند وقت إتمام الفعل ويسمّى هذا بقضاء العبد ، كما يسمّى ما من اللّه عنده بقضاء اللّه . واللّه تبارك وتعالى قادر عند الأوقات الأربعة على فعل أو ترك يصير مانعا من فعل العبد ، لكن لحكمته تعالى وعلمه بالمصالح لا يمنع العبد من فعله طاعةً كان أو معصية ؛ لئلّا يبطل الحجّة والعدالة .
ويحتمل أن يكون لَمَعنى «شاء» : «ما شاء» بأن يكون المشيئة عبارة عن إعلام السعادة والشقاء قبل وجود المكلّفين .
و«الإرادة» عبارة عن الإعلام الموافق للإعلام الأوّل قبل وجود المكلّفين أو بعده .
و«القَدَر» عبارة عن مشيّته تعالى عند قصد المكلّف فعلاً قبل الشروع .
و«القضاء» عبارة عن مشيّته تعالى عند الفعل .
و«الإذن» عبارة عن عدم إحداثه تعالى مانعا عقليّا لفعل العبد عند فعله مع قدرته على إحداث المانع .
و«الكتاب والأجل» ـ ردّا على الأشاعرة القائلين بعدم وجوب شيء عقلاً على اللّه تعالى ـ أوّلهما عبارة عن وجوب الخلق والتدبير . و«الأجل» عبارة عن وقت معيّن لو شاء قبله أو بعده كان على خلاف المصلحة .
و«النقض» بالمعجمة هنا بمعنى «النقص» بالمهملة .
وقال السيّد الأجلّ النائيني رحمه الله :
يعني لا يحدث شيء في الأرض ولا في السماء إلّا ما يتوسّط ويدخل في كونه سبعة أشياء ، وكلّ واحد منها يسبقه .
ولمّا كانت المشيئة أوّل ما له اختصاص بشيء دون شيء أخذ في عدّ سوابق وجود الأشياء وصدورها منه سبحانه من المشيئة ، وبعدها الإرادة ، وبعدها القَدَر ، وبعدها القضاء وبالترتيب المذكور في الحديث .
وأمّا «الإذن» وهو الإعلام وإفاضة العلم ، أي الإذن في الشيء : الإعلام بإجازته والرخصة فيه ، وإفاضة العلم بالرخصة والإباحة . قال الراغب : الإذن في الشيء : إعلام بإجازته والرخصة فيه . ۶ وفي القاموس : أذن له في الشيء ـ كسمع ـ إذنا وأذينا : أباحه له . ۷
وأمّا حمل الإذن هنا على العلم فلا يخلو عن بُعد إلّا أن يحمل على علم خاصّ كالمشيئة والإرادة ، فلا يخلو عن غرابة . ۸
و«الكتاب» وهو ما ثبت فيه الأشياُء وتقرّر فيه . و«الأجل» وهو المدّة المعيّنة الموقّتة للأشياء فهي داخلة في الإرادة والقَدَر ، أو متخلّلة بين الأربعة بأن يكون الإذن متخلّلاً بين المشيئة والإرادة ، والكتاب بينهما وبين القَدَر ، والأجل بين القَدَر والقضاء ، أو كلّ واحدٍ من هذه الثلاثة داخل في واحد من هذه الثلاثة الاُول من الأربعة .
وذكر الثلاثة مع الأربعة على تقدير الدخول ؛ للدلالة على دخولها في الأربعة وثبوت الوساطة في الإيجاد لها كالأربعة . وعلى تقدير التخلّل ؛ للدلالة على ترتّب هذه الثلاثة على الثلاثة الاُول من الأربعة ، فهي كالتتمّة لها .
«على نقص واحدة » أي إسقاطها من مقدّمات الإيجاد وجعلها أقلّ من سبعة . «فقد كفر» ؛ لأنّه كذب على اللّه ، وقال فيه خلاف الحقّ ، وردّ على اللّه ؛ حيث أنكر ما ثبّته في الكتاب المبين .
وفي بعض النسخ : «نقض واحدة» بالضاد المعجمة ؛ أي الردّ على واحدة منها . وهذه النسخة بقوله : «فقد كفر» أنسب . والنسخة الاُولى للغرض المسوق له الكلام وللحديث الثاني أوفق . ۹
1.في الكافي المطبوع : «في السماء والارض» بدل «في الأرض ولا في السماء» .
2.السند في الكافي المطبوع هكذا : «عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ؛ ومحمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيدٍ ومحمّد بن خالد جميعا ، عن فضالة بن أيّوب ، عن محمّد بن عُمارة ، عن حريز بن عبد اللّه وعبد اللّه بن مسكان جميعا» .
3.الكافي ، ج ۱ ، ص ۱۵۴ ، باب الخير والشرّ ، ح ۲ .
4.الحاشية على اُصول الكافي ، ص ۱۲۷ .
5.قاله الفيض في الوفي ، ج ۱ ، ص ۵۱۹ .
6.المفردات ، ص ۷۱ (أذن) .
7.القاموس المحيط ، ج ۴ ، ص ۱۹۵ (أذن) .
8.من قوله : «أي الإذن في الشيء ـ إلى ـ فلا يخلو عن غرابة» أورده في المصدر في الهامش نقلاً عن حاشية بعض النسخ .
9.الحاشية على اُصول الكافي ، ص ۴۸۴ ـ ۴۸۵ .