الباب الثامن والعشرون : بَابُ السَّعَادَةِ وَ الشَّقَاءِ
وأحاديثه كما في الكافي ثلاثة :
الحديث الأوّل
۰.روى في الكافي بإسناده ، عَنْ صَفْوَانَ ،۱عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ :«إِنَّ اللّه َ ـ تبارك وتعالى ـ خَلَقَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاءَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ ، فَمَنْ خَلَقَهُ اللّه ُ سَعِيدا ، لَمْ يُبْغِضْهُ أَبَدا ، وَإِنْ عَمِلَ شَرّا ، أَبْغَضَ عَمَلَهُ وَلَمْ يُبْغِضْهُ ، وَإِنْ كَانَ شَقِيّا ، لَمْ يُحِبَّهُ أَبَدا ، وَإِنْ عَمِلَ صَالِحا ، أَحَبَّ عَمَلَهُ وَأَبْغَضَهُ ؛ لِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ ، فَإِذَا أَحَبَّ اللّه ُ شَيْئا ، لَمْ يُبْغِضْهُ أَبَدا ، وَإِذَا أَبْغَضَ شَيْئا ، لَمْ يُحِبَّهُ أَبَدا» .
هديّة :
(السعادة) بالفتح لغةً : سعة العيش ، ومجازٌ متروك الحقيقة ، أو حقيقة عرفيّة في علامة النجاة .
و(الشقاء) بالفتح يمدّ ويقصر : ضدّ السعادة . القاموس : الشّقا : الشدّة والعسر ، ويمدّ ، شقي ـ كرضي ـ شقاوة وشقا وشقاءً وشَقْوةً ، ويكسر . وشقاه اللّه وأشقاه . ۲
ولعلّ المراد هنا النور والظلمة ، أو طينة الجنّة والنار . فالمعنى قبل أن يخلق الأبدان .
(فمن خلقه اللّه سعيدا) لإطاعته في التكليف بدخول النار يوم أخذ الميثاق على الإقرار بربوبيّة ربّ العالمين ، ونبوّة الأنبياء ، وولاية الأوصياء عليهم السلام .
(وإن عمل شرّا) إشارة إلى أنّ الأبدان المخلوقة لأهل الجنّة قسمان : قسمٌ من بحت طينة الجنّة فللحجج عليهم السلام ، وقسمٌ من الطينتين بغلبة طينة الجنّة على ضدّها على ما شاء اللّه من التفاوت وقدّر بحكمته ، فلشيعتهم الثابتين على إقرارهم الأزلي في الصراط المستقيم .
(وإن عمل صالحا) إشارة إلى ما علم من بيان الضدّ .
(فإذا أحبّ اللّه شيئا) يعني يوم أخذ الميثاق .
قال برهان الفضلاء :
لمّا ذكر ثقة الإسلام في الباب السابق ما يدلّ بظاهره على استطاعة العبد وقدرته مستقلّاً في الفعل والترك وهو يوهم التفويض فوضع هذا الباب وآخر لدفع ذلك التوهّم ، ثمّ وضع بعدهما بابا لإثبات الواسطة .
«قبل أن يخلق خلقه» إشارة إلى مثل الحديث الذي يجيء في كتاب الإيمان والكفر عن الباقر عليه السلام «إنّ اللّه عزّ وجلّ قال قبل أن يخلق الخلق : كُن ماءً عذبا أخلقُ منك جنّتي وأهل طاعتي ، وكُن ملحا اُجاجا أخلق منك ناري وأهل معصيتي» . ۳ الحديث .
و«لم يبغضه أبدا» و«لم يحبّه أبدا» للدلالة على أنّ ما ورد في الأدعية المأثورة من طلب السعادة على فرض الشقاء مجاز ليس طلبا حقيقةً ، بل الغرض إظهار كمال الرغبة في الثواب والخوف من العذاب . انتهى .
أقول : لا يذهب عليك أنّ بيانه هذا يوهم الجبر ؛ إذ لا شكّ في الفرق بين الامتناع الذاتي والعادي . ومن عادة اللّه سبحانه ما يمتنع أن لا يدوم ، كقدرته على فعل القبيح وامتناعه منه عادةً أبدا ، ودوام الامتناع العادي لا يمنع الإمكان الذاتي ، ومنها ما لا امتناع في عدم دوامه وله التبديل في خلقه ، فطلب السعادة مجاز باعتبار وحقيقة بآخر ، إلّا أن يدّعى أنّ تبديل السعادة أو الشقاوة قبيح في عادة اللّه سبحانه فمجاز ليس إلّا .
وبالجملة : الحمل على المجاز ، كما قال سلّمه اللّه تعالى ـ أوفق بظاهر الأحاديث وأسلم للمتأمِّل في مثل المعضل .
وقال الفاضل الإسترابادي رحمه الله :
«خلق السعادة والشقاء» المراد خلق تقدير لا خلق تكوين ، كما وقع التصريح به في الأحاديث . وخلق التقدير نقوش اللّوح المحفوظ ، وخلق التكوين الوجود في الخارج وهو من فعلنا . ۴
وقال السيّد الأجلّ النائيني رحمه الله :
«إنّ اللّه خلق السعادة والشقاوة» أي قدّرهما لعباده تقديرا سابقا على الخلق ، فمن خلق ۵ اللّه سعيدا على وفق تقديره لم يبغضه أبدا ، إنّما يبغض عمله إن عمل سوءا ، ولم يبغضه ، ومَن قدّره شقيّا وخلقه شقيّا على وفق تقديره لم يحبّه أبدا ، وإن عمل عملاً صالحا أحبّ عمله ؛ لأنّه يحبّ الخير والصلاح ، وأبغضه لشقاوته ولما يصير إليه من عدم الثبات على الإيمان . ۶
وقال بعض المعاصرين :
والسرّ في تفاوت النفوس في الخير والشرّ واختلافها في السعادة والشقاوة ، اختلاف الاستعدادات وتنوّع الحقائق ؛ فإنّ المواد السُفْلِيّة بحسب الخلقة والماهيّة متباينة في اللطافة والكثافة ، وأمزجتها مختلفة في القُرب والبُعد من الاعتدال الحقيقي ، والأرواح الإنسيّة التي بإزائها مختلفة بحسب الفطرة الاُولى في الصفاء والكدورة ، والقوّة والضعف مترتّبة في درجات القرب والبُعد من اللّه تعالى ؛ لأنّ بإزاء كلّ مادّة ما يناسبه من الصُوَر ، فأجود الكمالاتِ لأتمّ الاستعدادات وأخسّها لأنقصها ، فلا يمكن لشيء من المخلوقات أن يظهر في الوجود ذاتا وصفةً وفعلاً إلّا بقدر خصوصيّة قابليّته واستعداده الذاتي .
ثمّ قال :
ووجه آخر : أنّه قد ثبت أنّ للّه عزّ وجلّ صفات وأسماء متقابلة هي من أوصاف الكمال ونعوت الجلال ، ولها مظاهر متباينة بها يظهر أثر تلك الأسماء . مثلاً لمّا كان قهّارا أوجد المظاهر القهريّة التي لا يترتّب عليها إلّا أثر القهر ، ولمّا كان غفورا أوجد مجالي للعفو والغفران ، وقس على هذا .
فظهر أن لا وجه لاستناد الظلم والقبائح إلى اللّه سبحانه ؛ لأنّ هذا الترتيب والتمييز من وقوع فريق في طريق اللطف وآخر في طريق القهر من ضروريّات الوجود والإيجاد ، ومن مقتضيات الحكمة والعدالة . ومن هنا قال بعض العلماء : لَيْتَ شِعري لِمَ لا يُنسب الظلم إلى المَلِك المجازي حيث يجعل بعض من تحت تصرّفه وزيرا قريبا وبعضهم كنّاسا بعيدا ؛ لأنّ كلّاً منهما من ضروريّات مملكته ، وينسب إلى اللّه تعالى في تخصيص كلّ من عبيده بما خصّص ، مع أنّ كلّاً منهما ضروريّ في مقامه؟! . ۷ انتهى .
1.السند في الكافي المطبوع هكذا : «محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن صفوان بن يحيى» .
2.القاموس المحيط ، ج ۴ ، ص ۳۴۹ (شقا) .
3.الكافي ، ج ۲ ، ص ۶ ، باب آخر منه وفيه زيادة وقوع التكليف الأوّل ، ح ۱ .
4.الحاشية على اُصول الكافي ، ص ۱۲۸ .
5.في المصدر : «خلقه» .
6.الحاشية على اُصول الكافي ، ص ۴۹۰ .
7.الوافي ، ج ۱ ، ص ۵۲۸ ، بإسقاط بعض العبارات .