متن الحديث السادس والثمانين والمائتين
۰.عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ عَطِيَّةَ :عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ : خَرَجَ إِلَيْنَا أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام وَهُوَ مُغْضَبٌ ، فَقَالَ : «إِنِّي خَرَجْتُ آنِفا فِي حَاجَةٍ ، فَتَعَرَّضَ لِي بَعْضُ سُودَانِ الْمَدِينَةِ ، فَهَتَفَ بِي : لَبَّيْكَ يَا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ لَبَّيْكَ ، فَرَجَعْتُ عَوْدِي عَلى بَدْئِي ۱ إِلى مَنْزِلِي خَائِفا ذَعِرا مِمَّا قَالَ حَتّى سَجَدْتُ فِي مَسْجِدِي لِرَبِّي ، وَعَفَّرْتُ لَهُ وَجْهِي ، وَذَلَّلْتُ لَهُ نَفْسِي ، وَبَرِئْتُ إِلَيْهِ مِمَّا هَتَفَ بِي ، وَلَوْ أَنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ عَدَا مَا قَالَ اللّهُ فِيهِ ، إِذا لَصَمَّ صَمّا ۲ لَا يَسْمَعُ بَعْدَهُ أَبَدا ، وَعَمِيَ عَمًى لَا يُبْصِرُ بَعْدَهُ أَبَدا ، وَخَرِسَ خَرْسا لَا يَتَكَلَّمُ بَعْدَهُ أَبَدا» ثُمَّ قَالَ : «لَعَنَ اللّهُ أَبَا الْخَطَّابِ ، وَقَتَلَهُ بِالْحَدِيدِ» .
شرح
السند مجهول.
قوله: (وهو مغضب).
يقال: أغضبته فتغضّب، فهو مغضَب ـ بفتح الضاد ـ ومتغضّب، بكسرها.
(فقال: إنّي خرجت آنفا).
في القاموس: «قَالَ ءَانِفًا»۳ ـ كصاحب، وكتف، وقرئ بهما ـ أي مذ ساعة، أي في أوّل وقت يقرب منّا». ۴
(في حاجة، فتعرّض لي بعض سودان المدينة).
التعرّض: التصدّي. و«سودان» بالضمّ، جمع أسود، وكأنّه كان غاليا، وكان من أصحاب أبي الخطّاب محمّد بن المقلاص، وهو من الغُلاة المشهورين، وكان يدّعي الربوبيّة للصادق عليه السلام ، والبنوّة لنفسه على أهل الكوفة. ويدلّ على كون هذا الأسود من الغلاة أنّه ناداه عليه السلام بما ينادى به الربّ، كما يفهم من قوله عليه السلام : (فهتف) أي صاح (بي: لبّيك يا جعفر بن محمّد لبّيك) وهو نظير ما يُقال في إحرام الحجّ: «لبّيك اللَّهُمَّ لبّيك» بقرينة ما سيأتي.
ويحتمل أنّه ناداه عليه السلام بهذه العبارة، أو قال: «لبّيك اللَّهُمَّ يا جعفر بن محمّد لبّيك» فحذف عليه السلام لفظ «اللَّهُمَّ» لاستكراهه عنه في هذا المقام، ولو على سبيل الحكاية.
قال الفيروزآبادي:
ألبّ: أقام، كلبّ. ومنه لبّيك، أي أنا مقيم على طاعتك إلبابا بعد إلباب وإجابةً بعد إجابة. أو معناه: اتّجاهي وقصدي لك، من: داري تلبّ داره، أي تواجهها. أو معناه: محبّتي لك، من: امرأة لُبّة: محبّة لزوجها. أو معناه: إخلاصي لك، من لبّ الشيء، وهو خالصه، انتهى. ۵
(فرجعت عودي على بدئي).
قال الجوهري: «يُقال: رجع عوده على بدءه: إذا رجع في الطريق الذي جاء منه». ۶
قال الشيخ الرضيّ رضى الله عنه:
قولهم: «على بدئه» متعلّق بعوده، أو برجع، والحال مؤكّدة. والبدء مصدر بمعنى الابتداء، وجعل بمعنى المفعول، أي عائدا على ما ابتدأ، أو يجوز أن يكون عوده مفعولاً مطلقا لرجع، أي رجع على بدئه عوده المعهود، وكأنّه عهد منه أن لا يستقرّ على ما ينتقل إليه، بل يرجع على ما كان عليه قبل، فيكون نحو قوله تعالى: «وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ»۷ . ۸
وقال التفتازاني في شرح تلخيص المفتاح:
وإن كانت الجملة إسميّة، فالمشهور جواز ترك الواو، بعكس ما مرّ في الماضي المثبت لدلالة الاسميّة على المقارنة لكونها مستمرّة، لا على حصول صفة غير ثابتة، نحو: كلّمته فوه [إلى] فيّ، ورجع عوده على بدئه فيمن رفع هذه، وعوده على الابتداء. ۹
(إلى منزلي خائفا ذعرا).
بفتح الذال وكسر العين، أو سكونهما.
قال في القاموس: «الذُعْر ـ بالضمّ ـ : الخوف. وذعر ـ كعنى ـ فهو مذعور، وبالفتح: التخويف، كالإذعار، والفعل كجعل، [و] بالتحريك: الدهش، وكصُرَد: الأمر المخوف». ۱۰
قيل: خوفه عليه السلام من اللّه كخوف الوزير من غيرة السلطان ومؤاخذته عند نسبة الرعيّة إليه السلطنة، [وتسميته سلطانا] وإن لم يكن له تقصير فيه. ۱۱
(ممّا قال) أي من قول الأسود، وهو: «لبّيك يا جعفر بن محمّد لبّيك».
(حتّى سجدتُ في مسجدي) أي مصلّاي.
(لربّي) أي لتعظيمه وتنزيهه.
(وعفّرت له وجهي).
في القاموس: «العَفَر ـ محرّكة ـ : ظاهر التراب، ويسكّن. وعفره في التراب يعفِره وعفّره: مرّغه فيه، أو دسّه وضرب به الأرض». ۱۲
(وذلّلت له نفسي) أي جعلتها ذليلاً، أو نسبتها إلى الذلّ وهو ـ بالضمّ ـ : خلاف العزّ.
(وبرئتُ إليه) أي إلى ربّي. و«برئت» كعلمت من البراءة.
وكلمة «ما» في قوله: (ممّا هتف بي) مصدريّة، أو موصولة، والعائد محذوف.
(ولو أنّ عيسى بن مريم عدا) أي تعدّى وجاوز. يُقال: عدا الأمر وعنه: أي جاوزه، وتركه، كتعدّاه.
(ما قال اللّه فيه) من النبوّة، والعبوديّة إلى ادّعاء الإلوهيّة والربوبيّة.
(إذا لصمّ صمّا لا يسمع بعده أبدا).
في القاموس: «الصمم ـ محرّكة ـ : انسداد الاُذن، وثقل السمع. صمّ يصمّ ـ بفتحهما ـ وصِمَم بالكسر، نادر، صمّا وصَمَا وأصمّ وأصمّه اللّه ، فهو أصمّ». ۱۳
قيل: الظاهر منه ومن نظائره المعنى الحقيقي، مع احتمال حمله على المعنى المجازي، وهو على الأوّل مختصّ بأهل الكمال عند تجاوزهم عن حدّهم؛ بدليل بعض الجهلة ادّعى الربوبيّة لنفسه، ولم يصمّ ولم يعمّ ولم يخرس حقيقةً. ۱۴
(وعمي عمى لا يبصر بعده أبدا).
قال في القاموس: «عَمِيَ ـ كرضي ـ عمىً: ذهب بصره كلّه. والعمى أيضا: ذهاب بصر القلب». ۱۵
وقال: «البصر ـ محرّكة ـ : حسّ العين. ومن القلب: نظره، وخاطره. وبصر به ـ ككرم وفرح ـ بصرا وبصارة، ويكسر: صار مبصرا. وأبصره وتبصّره: نظره ببصره». ۱۶
(وخرس خرسا لا يتكلّم بعده أبدا).
في القاموس: «خرس ـ كفرح ـ صار أخرس. بيِّن الخرس من خُرس وخُرسان، أي منعقد اللِّسان عن الكلام، وأخرسه اللّه ». ۱۷
(ثمّ قال: لعن اللّه أبا الخطّاب).
اسمه محمّد بن مقلاص الأسدي ـ كما مرّ ـ وهو غال ملعون، وإنّما ذكره عليه السلام هنا ولعنه؛ لأنّه كان مخترع هذا المذهب الباطل، أو لأنّ الأسود الهاتف كان من أصحابه.
(وقتله بالحديد) كالسيف والسكّين وأمثالهما. وقد استجاب اللّه تعالى دعاءه عليه السلام .
روى الكشّي:
أنّ سالم بن مكرم الجمّال كان من أصحاب أبي الخطّاب، وكان في المسجد يوم بعث عيسى بن موسى بن علي [بن عبد اللّه بن العبّاس]، وكان عامل المنصور على الكوفة إلى أبي الخطّاب وأصحابه، لمّا بلغه أنّهم قد أظهروا الإباحات، ودعوا الناس إلى نبوّة أبي الخطّاب، وأنّهم يجتمعون في المسجد، ولزموا الأساطين يورونَ الناس أنّهم قد لزموها للعبادة، وبعث إليهم [رجلاً] فقتلهم جميعا، لم يفلت منهم إلّا رجل واحد أصابته جراحات، فسقط بين القتلى يعدّ فيهم، فلمّا جنّه اللّيل خرج من بينهم، فتخلّص، وهو أبو سلمة سالم بن مكرم الجمّال الملقّب بأبي خديجة. ۱۸
وروي: أنّهم كانوا سبعين رجلاً. ۱۹
1.في بعض نسخ الكافي: «يدي».
2.في أكثر نسخ الكافي وشرح المازندراني والوافي: «صمما».
3.محمّد (۴۷): ۱۶.
4.القاموس المحيط، ج ۳، ص ۱۱۹ (أنف).
5.القاموس المحيط، ج ۱، ص ۱۲۷ (لبب) مع التلخيص واختلاف يسير في اللفظ.
6.الصحاح، ج ۱، ص ۳۵ (بدأ).
7.. الشعراء (۲۶): ۱۹.
8.شرح الكافية للرضي، ج ۲، ص ۱۷ مع اختلاف في اللفظ.
9.راجع: مختصر المعاني، ص ۱۶۵.
10.القاموس المحيط، ج ۲، ص ۳۴ (ذعر).
11.قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه، ج ۱۲، ص ۳۰۲.
12.القاموس المحيط، ج ۲، ص ۹۲ (عفر) مع التلخيص.
13.القاموس المحيط، ج ۴، ص ۱۴۰ (صمم).
14.قاله المحقّق المازندراني رحمه اللهفي شرحه، ج ۱۲، ص ۳۰۲.
15.القاموس المحيط، ج ۴، ص ۳۶۶ (عمى) مع التلخيص.
16.القاموس المحيط، ج ۱، ص ۳۷۳ (بصر) مع اختلاف يسير فياللفظ.
17.القاموس المحيط، ج ۲، ص ۲۱۰ (خرس) مع التلخيص.
18.رجال الكشّي، ص ۳۵۳، ح ۶۶۱.
19.لم نعثر عليه.