متن الحديث السابع والتسعين والثلاثمائة
۰.ابْنُ مَحْبُوبٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي الْمِقْدَامِ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ :قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام : إِنَّ الْعَامَّةَ يَزْعُمُونَ أَنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ حَيْثُ اجْتَمَعَ النَّاسُ كَانَتْ رِضًا لِلّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ ، وَمَا كَانَ اللّهُ لِيَفْتِنَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله مِنْ بَعْدِهِ؟
فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «أَوَمَا يَقْرَؤُونَ كِتَابَ اللّهِ؟ أَوَلَيْسَ اللّهُ يَقُولُ : «وَما مُحَمَّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئا وَسَيَجْزِى اللّهُ الشّاكِرِينَ»۱ ؟» .
قَالَ : فَقُلْتُ لَهُ : إِنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ عَلى وَجْهٍ آخَرَ .
فَقَالَ : «أَ وَلَيْسَ قَدْ أَخْبَرَ اللّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ عَنِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ أَنَّهُمْ قَدِ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ حَيْثُ قَالَ : «وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ»۲ وَفِي هذَا مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلى أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله قَدِ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ» .
شرح
السند ضعيف.
قوله: (وما كان اللّه لفيتن اُمّة محمّد صلى الله عليه و آله من بعده) أي يوقعهم في الفتنة. وغرضهم أنّه تعالى يحفظهم منها.
والفتنة: الحيرة، والضلال، والكفر، والفضيحة، والعذاب، والإضلال، واختلاف الناس في الآراء. فتنه ـ كضربه ـ : أوقعه في الفتنة.
(فقال أبو جعفر عليه السلام : أوما يقرؤون كتاب اللّه )؛ ليظهر لهم بطلان زعمهم: أوليس اللّه يقول في سورة آل عمران: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَا رَسُولٌ» يعني لا يتجاوز عن صفة الرسالة إلى البراءة عن الموت أو القتل.
«قَدْ خَلَتْ» أي مضت. قال الجوهري: «وقوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ»۳ أي مضى وأرسل». ۴
وفي القاموس: «خلا مكانه: مات، ومضى». ۵
«مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ» فسيخلو كما خلوا بالموت أو القتل.
«أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ» .
قال البيضاوي:
هو إنكار لارتدادهم وانقلابهم على أعقابهم عن الدِّين؛ لخلوّه بموت، وقتل بعد علمهم بخلوّ الرّسل قبله، وبقاء دينهم متمسّكا به. وقيل: الفاء للسببيّة، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلوّ الرّسل قبله سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد وفاته. ۶
«وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ» أي يرتدّ عن الدِّين.
«فَلَنْ يَضُرَّ اللّه َ شَيْئا» بارتداده، بل يضرّ نفسه.
«وَسَيَجْزِي اللّه ُ الشَّاكِرِينَ» على نعمة الإسلام بالثبات عليه. والآية متضمّنة للوعد والوعيد.
قال: (فقلت له: إنّهم يفسّرون على وجه آخر).
وهو أنّه كلام على وجه الاستفهام، أو الشرط، ونهى عن ارتدادهم، وشيء منها لا يستلزم وقوعه.
والجواب أنّه تعريض وتوبيخ للقوم بما صدر عنهم بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ بقرينة التهديد والوعيد، وهو تابع لوقوعه، ولما روي في سبب نزول الآية على ما ذكره البيضاوي ۷ وغيره: ۸ أنّه لمّا رمى عبداللّه بن قمئة الحارثي رسول اللّه صلى الله عليه و آله بحجر، فكسر رباعيّته، وشجّ وجهه، فذبّ عنه مصعب بن عمير ـ وكان صاحب الراية ـ حتّى قتله ابن قمئة وهو يرى أنّه قتل النبيّ صلى الله عليه و آله ، فقال: قد قتلت محمّدا صلى الله عليه و آله ، وصرخ صارخٌ: ألا أنّ محمّدا قد قُتل، فانكفأ الناس وجعل الرسول صلى الله عليه و آله يدعو: أين عباد اللّه ؟ فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه وحَمَوهُ حتّى كشفوا عنه المشركين وتفرّق الباقون. وقال بعضهم: ليت ابن اُبيّ يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وقال اُناس من المنافقين: لو كان نبيّا لما قُتل ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم. فقال أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك: يا قوم، إن كان قُتل محمّد، فإنّ ربّ محمّد حيٌّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعده؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه. ثمّ قال: اللَّهُمَّ إنّي أعتذرُ إليك ممّا يقولون، وأبرأُ منه! وشدَّ بسيفه، فقاتل حتّى قُتِل، فنزلت.
ولا يخفى أنّه صريح فيما قلناه، وقد اُجيب عنه أيضا بأنّ النهي عن الشيء يستلزم إمكان وقوعه في نفس الأمر، وهم يزعمون أنّ وقوعه ممتنع بالغير؛ لأنّه تعالى حفظهم عنه.
ثمّ إنّه عليه السلام لم يتعرّض للجواب؛ إمّا لظهوره، أو لأنّ الخصم مكابر متعنّت، وعدل في الاستدلال بما هو أوضح منه.
(فقال: أوليس قد أخبر اللّه ـ عزّ وجلّ ـ عن الذين من قبلهم من الاُمم) كاليهود والنصارى ومن يحذو حذوهما.
(أنّهم قد اختلفوا) في أمر الدِّين.
(من بعدما جاءتهم البيّنات) أي الآيات الواضحات، والمعجزات الباهرات، الدالّة على الحقّ، الفارقة بينه وبين الباطل.
(حيث قال) في سورة البقرة: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّه ُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ» .
أي قوّيناه، من الأيد، بمعنى القوّة.
«بِرُوحِ الْقُدُسِ» .
قال البيضاوي:
أي الروح المقدّسة، كقولك: حاتم الجود، ورجل صدق أراد به جبرئيل.
وقيل: روح عيسى، ووصفها به؛ لطهارته عن مسّ الشيطان، أو لكرامته على اللّه ، ولذلك أضافها إلى نفسه. أو لأنّه لم تضمّنه الأصلاب والأرحام الطوامث، أو الإنجيل، أو اسم اللّه الأعظم الذي كان يُحيي به الموتى، انتهى. ۹
ويظهر من أخبار الأئمّة الأطهار أنّ الروح ليس من جنس الملائكة، بل هو مخلوقٌ آخر كان مع الأنبياء يحدّثهم ويسدّدهم.
وقيل: خصّص عيسى عليه السلام بالذِّكر؛ لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه، وجعل معجزاته سبب تفضّله؛ لأنّه آيات واضحة، ومعجزات عظيمة، لم يستجمعها غيره. ۱۰
«وَلَوْ شَاءَ اللّه ُ» أن يهدي الناس جميعا جبرا، ويلزمهم الإيمان قهرا، ويمنعهم الضلالة والغواية كرها.
«مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» أي بعد الرسل. وقيل: المراد بالاقتتال هنا الاختلاف. ۱۱
«مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ» ؛ لكونهم حينئذٍ مجبورين على الإيمان والثبات عليه، ولا يتمكّنون من الارتداد والاختلاف.
«وَلكِنْ اخْتَلَفُوا» باختيارهم؛ لعدم تعلّق المشيّة الإجباريّة بعدم الاختلاف.
ثمّ أشار سبحانه إلى تفصّل ذلك الآيات بقوله: «فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ» . أي ثبت على الإيمان بتوفيقه تعالى.
«وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ» وارتدّ عن الدِّين بخذلانه.
«وَلَوْ شَاءَ اللّه ُ مَا اقْتَتَلُوا» .
قال البيضاوي: «كرّره للتأكيد». ۱۲
«وَلَكِنَّ اللّه َ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ»۱۳ فيوفّق من يشاء فضلاً، ويخذل مَنْ يشاء عدلاً، ولا يفعل ما ذكر من الجبر على الإيمان والثبات عليه، ولكن يفعل ما يريد من إقدارهم عليه وعلى ضدّه تحقيقا لمعنى التكليف.
(وفي هذا ما يستدلّ به).
قال بعض الأفاضل: يمكن الاستدلال بها من وجوه:
الأوّل: إنّ ضمير الجمع في قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِهِمْ» راجع إلى الرسل، فيدلّ بعمومه على أنّ جميع الرسل يقع الاختلاف بعدهم، فيكون في اُممهم كافر ومؤمن، ونبيّنا صلى الله عليه و آله من جملة الرسل، فيلزم صدور ذلك من اُمّته أيضا.
والثاني: أنّ الآية تدلّ على وقوع الاختلاف والارتداد بعد عيسى وكثير من الأنبياء في اُممهم، وقد قال تعالى: «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّه ِ تَبْدِيلاً»۱۴ ، وقال النبيّ صلى الله عليه و آله : «يكون في اُمّتي ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل»، ۱۵ فيلزم صدور ذلك من هذه الاُمّة أيضا.
والثالث: أن يكون الغرض رفع الاستبعاد الذي بنى القائل كلامه عليه، بأنّه إذا جاز وقوع ذلك بعد كثير من الأنبياء، فلِمَ لم يجز وقوعه بعد نبيّنا صلى الله عليه و آله ، فيكون سندا لمنع المقدّمة التي أوردها بقوله: «وما كان اللّه ليفتن».
والثاني أظهر الوجوه، كما لا يخفى.
1.آل عمران (۳): ۱۴۴.
2.البقرة (۲): ۲۵۳.
3.. فاطر (۳۵): ۲۴.
4.الصحاح، ج ۶، ص ۲۳۳۰ (خلا).
5.القاموس المحيط، ج ۴، ص ۴۲۵ (خلو).
6.تفسير البيضاوي، ج ۲، ص ۹۸ مع اختلاف يسير في اللفظ.
7.اُنظر: تفسير البيضاوي، ج ۲، ص ۹۸.
8.اُنظر: الكشّاف، ج ۱، ص ۴۶۷؛ مجمع البيان، ج ۲، ص ۴۰۳ ـ ۴۰۶.
9.تفسير البيضاوي، ج ۱، ص ۳۵۷ مع اختلاف يسير في اللفظ.
10.تفسير البيضاوي، ج ۱، ص ۵۵۰ مع اختلاف يسير في اللفظ.
11.ذهب إليه المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه، ج ۱۲، ص ۳۷۷.
12.تفسير البيضاوي، ج ۱، ص ۵۵۰.
13..البقرة (۲): ۲۵۳.
14.. الأحزاب (۳۳): ۲۶.
15.كفاية الأثر، ص ۱۵؛ مناقب آل أبي طالب، ج ۱، ص ۲۵۸ و فيهما: «كائن» بدل «يكون».