109
العنعنة

9 ـ مع تراث العامّة :

وليُعلم أخيرا : أنّ ما ذكرناه من العَرض لا يختصّ بالتراث الشيعي خاصّة ، بل التراث الحديثي عند العامّة كذلك يحتوي على العنعنة بشكل شائع ، كما نجد في كتبهم المهمّة :
فهذا موطّأ مالك ، يبدأ كتاب الصلاة فيه بباب وقوت الصلاة ، وفيه : قال : حدّثني يحيى ، عن مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، أنّ عمر بن عبد العزيز ۱ .
وفي الحديث الثالث : وحدّثني يحيى ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، أنّه قال : جاء رجل ۲ .
والحديث الرابع : وحدّثني يحيى ، عن مالك ، عن الحسن بن سعيد ، عن عمرو بن عبد الرحمن ، عن عائشة ۳ .
بل لا يستعمل مالك غير العنعنة إلّا قليلاً .
والبخاري يبدأ صحيحه في أوّل أبواب كتابه بباب « كيف كان بَدْء الوحي » والحديث الثاني منه : حدّثنا عبد اللّه بن يوسف ، قال : أخبرنا مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ۴ .
وقال في باب قول النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : « أنا أعلمكم باللّه » : حدّثنا محمّد بن سلام البيكندي ، قال : أخبرنا عبدة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : ۵ .
وهكذا سائر الأحاديث .
وأمّا مسلم : فقد عرفنا دفاعه عن العنعنة ، وأوّل حديث فيه : حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدّثنا وكيع ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن سمرة بن جندب ؛ ح وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة أيضا ، حدّثنا وكيع ، عن شعبة وسفيان ، عن حبيب ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن المغيرة بن شعبة : قالا : . . ۶ .
وأبو داوود بدأ كتابه السنن بباب التخلّي عند قضاء الحاجة من الطهارة ، وأوّل حديث فيه ، قال : حدّثنا عبد اللّه بن مسلمة بن قعنب القعنبي ، ثنا عبدالعزيز يعني ابن محمّد ، عن محمّد يعني ابن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن المغيرة بن شعبة ، أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ۷ .
وبدأ ابن ماجة كتابه السنن بباب اتّباع سُنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وأوّل حديث فيه ، قال : حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : ثنا شريك ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : . . . ۸ .
وبدأ الترمذي جامعه بأبواب الطهارة ، باب ما جاء « لا تُقبَل صلاة بغير طهور » ، والحديث الأوّل فيه : حدّثنا قتيبة بن سعيد ، حدّثنا أبو عوانة ، عن سِماك بن حرب رحمه اللهح وحدّثنا هنّاد ، حدّثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن سِماك ، عن مصعب بن سعد ، عن ابن عمر ۹ .
وبدأ النسائي سننه ب « تأويل قوله عزّ وجلّ : « إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ » » ، والحديث الأوّل فيه : أخبرنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدّثنا سفيان ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ۱۰ .
وهكذا يجرون على هذا النسق في الأسانيد ، في بداياتها بالألفاظ ، وفي نهاياتها بالعنعنة .
فلا فرق إذن فيما استنتجناه من الاستعراض المذكور بين التراث الشيعي ، وبين التراث عند العامّة ، بل يمكن القول بأنّا لا نجد في تراث المسلمين قاطبة من أهل القرون الأربعة الأُولى ما يخلو عن العنعنة بشكل شائع وذائع وفي طبقات الرواة الأُولى بالذات .
وبعد عهد المتشدّدين من بعض علماء الحديث في الالتزام بالألفاظ في القرون الخامس وحتّى السابع ، عاد العلماء إلى التزام العنعنة بشكل شائع من دون نكير . ومع العلم ببطلان التشدّد ، وعدم كونه أصيلاً ولا مستندا إلى دليل ملزم من الشرع ، بل كونه مجرّد اصطلاح قد زال بزوال أهله في تلك القرون ، فإنّ إجماع المحدّثين متحقّق من القدماء والمتأخّرين على الاكتفاء بالعنعنة ، ووفائها بالمراد من الألفاظ بشكل تامٍّ .

1.الموطّأ : ج۱ ص ۳ ح ۱ .

2.المصدر السابق : ج۱ ص ۴ ح ۳ .

3.المصدر السابق : ج۱ ص ۵ ح ۴ .

4.صحيح البخاري : ج۱ ص ۲ .

5.المصدر السابق : ج۱ ص ۱۱ .

6.صحيح مسلم : ج۱ ص ۷ .

7.سنن أبي داوود : ج۱ ص ۱ .

8.سنن ابن ماجة : ج۱ ص ۳ .

9.سنن الترمذي « الجامع الصحيح » : ج۱ ص ۵ .

10.سنن النسائي بشرح السيوطي : ج۱ ص ۶ .


العنعنة
108

8 ـ نتيجة هذا الاستعراض :

بهذا العرض المفصّل تمكّنّا من العلم بأنّ محدّثينا الأعلام إنّما قصدوا إلى استعمال العنعنة ، مع العلم بمداليل الألفاظ واختلافاتها ، ومع وجودها في الأسانيد في مواضع أُخرى ، إلّا أنّهم وجدوا العنعنة وافية بأغراضها بأكمل شكل وأحسنه ، ولذلك لم يجدوا في الإعراض عنها ، وفي الاكتفاء بالعنعنة حزازةً توجب منع ذلك ، بل قد يوجد في الالتزام بها مطلقا ، ودائما ، مزيد مؤونةٍ لا ملزِم لها .
وإذا لاحظنا أنّ هؤلاء الأعلام ، وهذه الأعمال ، تُعَدّ أهمّ مصادر الحديث ومنابعه ، وأُسسه وأركانه ، فإنّ تصرّفاتهم باستعمال العنعنة بدل الألفاظ يكون دليله « لِمِّيّا » على اعتبارها ، وصحّة الاكتفاء بها ، وبطلان ما يوجّه إليها من الشُبَه !
ثمّ إنّ من المعلوم للمسلمين كافّة اعتبار الحديث الشريف كمصدر معتمَد للدين والشريعة ، وعلى ذلك تمّ اتّفاق المذاهب الإسلامية جمعاء . وها نحن نجد أسانيدها كلّها محتوية على العنعنة مع بعض الرواة أو كلّهم ، فلو كانت الشبهة تحصل من العنعنة في هذا التراث الحديثي كلّه ، فإنّ مثل هذه الشبهة سوف تكون في مقابلة البديهة الحاصلة لأهمّيّة هذا التراث واعتباره وحجّيّته ، في حالته تلك ، وهو الواضح من عناية الأعلام به وحرصهم على صيانته وتناقله وحفظه وتوارثه . فالشبهة مرفوضة لأنّها في مقابلة البديهة .

  • نام منبع :
    العنعنة
    المؤلف :
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
عدد المشاهدين : 93605
الصفحه من 173
طباعه  ارسل الي