115
العنعنة

ومع أنّ العنعنة تدلّ على الاتّصال لغةً واصطلاحا ، وعلى هذا جرى عمل أعلام المسلمين من المحدّثين ، وعليه بنيت أعمالهم العلميّة ، كما أثبتنا ذلك في الفصول الماضية ، فإنّ العنعنة قد تعرّضت لإشكالات وجّهها إليها بعضُ المعاصرين تبعا لبعض الآراء والنظريّات البائدة المخالفة لإجماع أهل الحديث في المذاهب الإسلامية كافّة ، وهي محكومة بالشذوذ قطعا .
ولا بُدّ لاستكمال البحث من ذِكر ما أورده أُولئك وهؤلاء ، لمعرفة أوجه الخلل فيه ، والخروج عن عهدة البحث ، فنقول :
جُوبه الحديث المعنعن بأنّه لا يقتضي الاتّصال بين الرواة الّذين نقلوا كلام الآخرين بلفظة « عن » ، باعتبار كون لفظة « عن » تستعمل في الكلام المنقول ، أعمّ من كونه بلغ الراوي عن القائل بلا واسطة أحد ، كما لو سمعه منه مباشرةً ، أو بلغه بواسطة آخر ، ولم يذكر اسم الواسطة ، حيث يصحّ للراوي أن يقول : « هذا الكلام عن زيد » ويقصد بذلك أنّ قائله زيد وهو منقول عنه ، من دون أنْ يكون الراوي قد سمعه منه .
وقد استعمل بعض الرواة كلمة « عن » في الإسناد ، قاصدا هذا المعنى الثاني ، فكان ذلك منهم تمويها عُرف اصطلاحا ب « التدليس » ، لإيهامه السماع المباشر من القائل ، بينما هو ينقله عنه مع الواسطة .
ومن أجل تردّد « عن » بين الأمرين ، فقد عدّوا في المرجّحات بين الأحاديث المختلفة : كون الراوي مصرّحا في السند بالألفاظ ، فيكون حديثه راجحا على حديث من جاء في سنده بالعنعنة . قال الحازمي في وجوه الترجيح بين الأحاديث :
الوجه السادس عشر : أن يكون كِلا الحديثين عراقيّ الإسناد ، غير أنّ أحدهما معنعن ، والثاني مصرّحٌ فيه بالألفاظ الّتي تدلّ على الاتّصال نحو : سمعت وحدّثنا ، فيرجّح القسم الثاني ، لاحتمال التدليس في العنعنة ، إذ هو عندهم غير مستنكَر ۱ .
وجاء في بعض فوائد الشيخ البهائي أنّ : من المشكلات لفظة « عن » في الحديث ، وقد حملوها على الرواية بغير واسطة ، وظنُّ ذلك مشكِل ۲ ، وقد أفصح عن وجه الإشكال فيا أورده بقوله :
فإن قلت : ينبغي حمل هذه الرواية وأمثالها على الإرسال ، إذ ليس فيها تصريح بعدم الواسطة بينه وبين الإمام عليه السلام ، ولفظة عن تحتمل وجود الواسطة وعدمها .
قلت : فتح هذا الباب يؤدّي إلى تجويز الإرسال في أكثر الأحاديث وارتفاع الوثوق باتّصالها .
والحقّ أنّ لفظة « عن » في الأحاديث المعنعنة تُشْعِرُ بعدم الواسطة بين الراوي والمرويّ عنه ۳ .
أقول :
وعلّق على قوله « تُشْعِرُ » بقوله : إذا علم عدم اجتماع الراوي والمرويّ عنه في عصر واحد .
وأقول : إنّ قوله « تُشْعِرُ » مسنَدٌ إلى لفظة « عن » دون معناها المصطلح ، وهذا خارج عمّا نحن بصدده ، كما لا يخفى . وهذا قريب ممّا صنعه السيّد الداماد في قوله : « والعنعنة بحسب مفاد اللفظ أعمّ من الاتّصال » ۴ .
وقال السيّد أيضا : إنّ العنعنة تقتضي عدم اتّصال السند بين الراوي والمرويّ عنه ، لِما في دلالة لفظة عن من المجاوزة ، فمعنى « فلانٌ عن فلان » : أنّ الكلام قد تجاوز الثاني إلى الأوّل ، ولم يثبت اتّصاله بالثاني ، فقد يكون متّصلاً إذا ثبت من غير طريق هذا اللفظ ، مثل قوله : « أخبرني » أو « حدّثني » أو « أنبأني » أو « قال لي » ومع عدم هذه ، فكلمة عن أعمّ من الاتّصال وعدمه ۵ .
وقال العلائي : اختلف فيها المتقدّمون ، فذهب بعض الأئمّة إلى أنّ ما كان فيه لفظة عن فهو من قبيل المرسَل المنقطع حتّى يثبت اتّصاله من جهة أُخرى ، حكاه ابن الصلاح ، ولم يُسمّ قائلهُ ! ونقله الرامهرمزيّ في « المحدّث الفاصل » عن بعض المتأخّرين من الفقهاء . ووجّه بعضهم هذا القول بأنّ هذه اللفظة عن لا إشعار لها بشيء من أنواع التحمّل ، وبصحّة وقوعها فيما هو منقطع ۶ .
وقالوا : لو لم يكن المرسَل حُجّةً لم يكن الخبر المعنعن حُجّةً ؛ لأنّ الراوي أيضا أرسله بالعنعنة ولم يصرّح بالسماع عمّن فوقه ، والاحتمال المذكور في المرسَل قائمٌ في المعنعن ، واحتمال لقاء المعنعِن شيخَهُ وسماعه منه ليس بدون احتمال ثقة الواسطة المحذوفة في المرسِل وعدالته ۷ .
وهذا أهمّ ما قيل في باب الإشكال على العنعنة . ويتحدّد الإشكال بالأُمور التالية :
الأوّل : أنّ « عن » تقتضي لغةً تجاوز الكلام عن المتكلّم ، سواء بلغ الناقل مباشرةً أو بلغه مع الواسطة ، فلا يكون صريحا في الاتّصال من المتكلّم إلى الراوي الناقل . ذكر هذا كلّ من الحازمي والداماد .
الثاني : أنّه لا إشعار فيها بنحوٍ خاصّ من أنحاء التحمّل وطرقه المعتبرة ، وصحّة وقوعها في المنقطع ، فلا يثبت بها التحمّل المعتبر في السند .
الثالث : كون المعنعَن بحكم المرسَل ، لتوقّفه على اللقاء ، وثبوته ، وعلى نفي الواسطة ، وهذا غير محرز ، فإنّ المفروض فيها احتمال وجود واسطة وهي مجهولة الوثاقة ، فلا يمكن الاعتماد على الحديث المعنعن ، كالمرسَل .
الرابع : استعمال « عن » في التدليس ، فيكون الحديث من نوع المدلَّس ، وهو ضعيف .
والجواب عن هذه الإشكالات على العنعنة ودفعها ، هو :
أمّا عن الأوّل : أعني دلالة « عن » على التجاوز من المتكلّم فيكون الوصول إلى الراوي محتملاً للمباشرة وغيرها ، فبما قد أثبتنا في الفصل الأوّل في البحث عن العنعنة لغة من أنّ « عن » في الأسانيد ، إنّما هي بمعنى « من » وليست للمجاوزة ، وقد مرّ مفصّلاً . وعلى هذا فلا تحتمل غير الاتّصال ، وهذا هو المفهوم من عمل المحدّثين كافّةً .
ولذا قيّد السيّدُ الداماد حكمه بكون العنعنة أعمّ من الاتّصال بقوله : « بحسب مفاد اللفظ » ۸ ويعني ذلك أنّ هذه الاستفادة مبتنية على الفهم من ظاهر كلمة « عن » ، دون أصل اللغة ، ولا المعنى العرفي المصطلح . فليلاحظ .
ثمّ على فرض كونها لغةً للمجاوزة ، إلّا أنّها مستعملة في اصطلاح علماء الحديث للاتّصال ، وهم المعنيّون بالبحث . قال العلائي : وقد جعله ، أي قبول المعنعَن والحكم باتّصاله مسلم : « قولَ كافّة أهل الحديث » ، وأنّ القول باشتراط ثبوت اللقاء « قولٌ مخترَع » ، وطوّلَ الاحتجاج لذلك في مقدّمة صحيحه . . . وأنّ « عن » لا تُحمل على الانقطاع ، وهو الّذي عليه دهماء أهل الحديث قديما وحديثا ۹ .
أقول :
وحتّى الّذين اشترطوا في الحكم بالاتّصال في العنعنة شروطا ، فهم كلّهم يعترفون بعد إحراز الشروط بدلالة « عن » على الاتّصال لغةً ، من دون فرض كونه استعمالاً مجازيا ، فهذا دليل على وضع « عن » لغةً ، للاتّصال ، ولو بنحو الاشتراط اللفظي ، فلاحظ .
فما حكاه ابن الصلاح عمّن « لم يسمّ قائله » من الحكم بالانقطاع حتّى يتبيّن الاتّصال من جهة أُخرى ، قولٌ شاذٌّ مرفوض لغةً واصطلاحا .
وأمّا الّذين اشترطوا للحكم بالاتّصال شروطا إضافية ، فهو منهم مجرّد اصطلاحٍ متأخِّرٍ ، لا وقع له على الحديث عند الصحابة والتابعين وتابعيهم من أهل القرنين الأوّل والثاني ، وهم أُسس الحديث ومصادره وموارده ، فكيف يكون مؤثّرا في اللغة الّتي عليها الاعتماد في مثل هذه الدلالات ؟ ! فإنّ مثل هذه الشروط تحميل على اللغة من غير أهلها ، كما يظهر من نوعيّة الشروط .
فقد اشترط البخاري وابن عديّ الجرجاني : ثبوت اللقاء بين المعنعِن والمعنعَن عنه ، ولو مرّة واحدة ، وكون الراوي بريئا من التدليس ۱۰ . واشترط السمعاني : طول الصحبة بينهما ، وعدم التدليس ۱۱ . ونقل ابن عبد البرّ اشتراط العدالة ، ونقل إجماع أئمّة الحديث عليه ۱۲ .
وكلّ هذا تحكّم على اللغة ، وعلى قدماء علماء الإسلام الرواة للحديث . بل المفهوم ابتداءً من « عن » هو الاتّصال ، والنقل المباشر ، وهذا حقيقتها ، وإذا استُعملت في غير ذلك ، فلا بُدّ من القرينة الصارفة عن تلك الحقيقة ، مثل بُعد زمان الناقل عن المنقول عنه ، كقول واحد في عصرنا « رويتُ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم » ، أو عدم ذِكر الفاعل مع كون الفعل ماضيا كقول القائل : « جاء عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أنّه قال » ، أو حذف الفاعل وبناء الفعل للمجهول كقول الراوي : « رُوي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم » .
كما جاء في الحديث عن الصدوق : حدّثنا الحسين بن إبراهيم بن ناتانه رحمه الله ، قال : حدّثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن جعفر بن سلمة الأهوازي ، عن إبراهيم بن محمّد ، قال : حدّثنا أبو الحسين عليّ بن المعلّى الأسدي ، قال : أُنبئت عن الصادق جعفر بن محمّد عليهماالسلام ۱۳ .
ثمّ لو فُرض كون وضع « عن » للأعمّ لغةً ، وكونها مشتركة بين المتّصل والمنقطع ، إلّا أنّ الثابت عند الجمهور ، والمصطلح الواقع بينهم ، والمصرّح به للأكثرين ، والمستعمل عندهم في غالب الأسانيد هو الاتّصال ، كما أثبتنا في الفصل الماضي بعنوان « تراثنا والعنعنة » ، وهو كافٍ قطعا للحكم بصرف المعنى عن الاشتراك إلى الاتّصال في عُرف أهل الحديث .
وأمّا الجواب عن الإشكال الثاني فقد عقدنا له الفصل الرابع ، لِما فيه من التفصيل .
والجواب عن الإشكال الثالث ، وهو : كون المعنعَن بحكم المرسَل في جهالة الواسطة إذا لم يثبت الاتّصال ، لتوقّف عدم الإرسال على ثبوت اللقاء ، ولفظةُ « عن » المجرّدة لا تُثبته : بأنّ المرسَل هو الحديث الّذي عُلم سقوط الواسطة من سنده ، وأمّا المحكوم بالاتّصال فليس كذلك ، خصوصا إذا قام الاصطلاح على ذلك .
وبعبارة أُخرى : الحكم بالإرسال ، متوقّف على إحراز عدم الاتّصال ، وليست « عن » مقطوعة الانفصال ، بل غاية ما يُدّعى تردّدها بين الاتّصال والانقطاع ، والمفروض أنّهم اصطلحوا عليها كلفظ مفيد للاتّصال ، فينتفي عنها حكم الإرسال ، ولو على الظاهر منهم .
ويؤيّد ذلك أنّ الشيخ الطوسي إنّما قال في توجيه وضعه للمشيخة في آخر كتاب تهذيب الأحكام ما نصّه : ونحن نذكر الطرق الّتي يُتوصّل بها إلى رواية هذه الأُصول والمصنّفات ، ونذكرها على غاية ما أمكن من الاختصار ، لتخرج الأخبار بذلك عن حدّ المراسيل ، وتلحق بباب المسنَدات ۱۴ .
ومن الواضح أنّ الأسانيد المثبتة في المشيخة كلّها معنعنة ، كما أوضحناه سابقا . ومثل هذا إرجاعه إلى ما أثبته من الطرق في كتابه الفهرست الّذي لا يخلو من العنعنة في أسانيده ، كما شرحناه أيضا .
ومثل هذا يرد على الصدوق ، الّذي حذف الأسانيد من متن كتاب الفقيه وأثبتها في المشيخة ، وهي أيضا معنعنة ، فلو كانت العنعنة لا تعطي معنى الاتّصال ، لَما أفاد وضع المشيخة شيئا من الأغراض الّتي أعلنّا عنها .
والحاصل : إنّ هذا الإشكال مبنيّ على الخلط بين مصطلحَي المرسَل والمعنعَن .
وقد أجاب العلائيّ عن هذا الإشكال بقوله : إنّ الراوي الّذي يُطلق لفظة « عن » إمّا أن يكون لم يُعرَف بتدليس ، أو عُرِف به ، فإن لم يُعرف بتدليسٍ ، وكان لقاؤه لشيخه ممكنا ، أو ثبت لقاؤه على اختلاف القولين لمسلم والبخاري ، فلفظة « عن » محمولة على الاتّصال ، وليس للانقطاع وجهٌ ولا للواسطة احتمالٌ ؛ لأنّ الظاهر سماعهُ لذلك من شيخه ، والأصل السلامةُ من وصمة التدليس ، فلا يُقاس المرسَل على هذا ، مع ظهور الفرق بينهما .
وإنْ كان الراوي معروفا بالتدليس ، فما رواه عن شيخه بلفظ « عن » أو غيرها ، ممّا يُصرّح فيه بالسماع منه ، حكمه حكم المرسَل ، فمن قبل المرسَل مطلقا يقبله ، ومن ردّه يردّ هذا أيضا ، ولا فرق ۱۵ .
وقال العلائي أيضا : إذا شاع استعمالها [ أي : عن ] في الاتّصال وحملها عليه وهو الّذي نقله جماعة من الأئمّة عن كافّة العلماء كانت حقيقتها الاتّصال ، وإذا وردت في المرسَل كانت مجازا ؛ لأنّ المجاز خير من الاشتراك عند تعذّر الحقيقة ۱۶ .
وأمّا الجواب عن الإشكال الرابع وهو الحكم على المعنعن بالتدليس : فبأنّ الحكم بالتدليس فرع ثبوت عدم اتّصال السند المعنعَن ، فلو حكم بالاتّصال ولو اعتمادا على الأصل أو الظاهر من الاصطلاح كفى في نفي التدليس عن الراوي .
والحاصل : إنّا إذا دفعنا الإشكالات السابقة ، وتوصّلنا إلى أنّ المعنعَن متّصل لغةً وعرفا واصطلاحا ، لم يكن مستعمِلُه محكوما بالتدليس بمجرّد استعماله لفظة « عن » إلّا ، إذا ثبت كونه مدلّسا من جهة أُخرى غير هذه ، وحينئذٍ يُحكم عليه بالتدليس ، حتّى لو استعمل الألفاظَ الصريحة ، ولم يستعمل « عن » كما أشار إليه العلائي في آخر ما نقلنا عنه .

1.الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي : ص ۱۵ .

2.الوجيزة : ص ۴۳۹ .

3.الحبل المتين : ص ۳۵ .

4.الرواشح السماوية : ص ۱۲۷ .

5.المصدر السابق : ص ۱۲۸ .

6.جامع التحصيل : ص ۱۱۶ .

7.المصدر السابق : ص ۷۳ .

8.الرواشح السماوية : ص ۱۲۷ .

9.جامع التحصيل : ص ۱۱۷ .

10.المصدر السابق : ص ۱۱۶ .

11.المصدر السابق : ص ۱۱۶ .

12.التمهيد لابن عبد البرّ : ج۱ ص ۱۲ ؛ وجامع التحصيل : ص ۱۱۶ .

13.أمالي الصدوق : ص ۸۷ ح ۵۷ المجلس ۹ .

14.تهذيب الأحكام : ج ۱۰ ؛ المشيخة : ص ۵ .

15.جامع التحصيل : ص ۸۰ .

16.المصدر السابق : ص ۱۱۷ ـ ۱۱۸ .


العنعنة
114
  • نام منبع :
    العنعنة
    المؤلف :
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
عدد المشاهدين : 93665
الصفحه من 173
طباعه  ارسل الي