127
العنعنة

يبتني الثاني من وجوه الإشكال على العنعنة ، على أنّ لفظة « عن » لا تختصّ بأداء طريق معيّنةً ، فهي تستعمل مع كلّ الطرق ، أو أكثرها ومنها الإجازة ، بل قد خصّها بعض المحدّثين بالإجازة . وبما أنّ الإجازة من الطرق غير معتبرة ، فهي لا تصلح لإيصال الحديث من الشيخ إلى الراوي ، فالطرق المعنعنة غير مؤدّيةٍ للمتون إلى الرواة ، لاحتمال الإجازة فيها ، وهي غير معتبرة .
وممّا قيل في هذا : إنّ العنعنة إذا كانت أعمّ من الطرق وتحتمل أن تكون للإجازة ، الّتي هي مجرّد قول الشيخ : « أجزتُ لك أنْ تروي جميع كتب الأصحاب ، من دون أن تكون هذه الكتب مقروءةً علَيَّ ، أو مسموعةً منّي » ، أي من دون أن تكون هذه المتون واصلةً إليّ ، فالطرق المعنعنة لا تُفيد ؛ لأنّه لم يحرز لنا أنّ المتون واصلة إلى الرواة ۱ .
ولا بُدّ أن نحدّد النقاط الّتي يبتني عليها هذا الإشكال ، وهي :
1 ـ دعوى أنّ لفظة « عن » عامّة للطرق ، فلا تدلّ على شيء معيّن ، ويشمل ذلك الإجازة غير المعتبرة عنده .
2 ـ دعوى أنّ الإجازة لا تدلّ على الاتّصال ، ولا يُحرز بها وصول الحديث من الشيخ إلى الراوي .
فالنتيجة أنّ الحديث المعنعن لا يحرز معه الوصول ، فلا يمكن الاعتماد عليه . وللإجابة عن ذلك ، نقول :
أوّلاً : إنّ البحث عن العنعنة والإشكال فيها ، إنّما هو أمر قديم وليس لأمر الطرق فيه دخلٌ أصلاً ، وإنّما الإشكال من جهة دلالتها على « التجاوز » وكونه أعمّ من المباشر وغيره كما فصّلنا في البحوث السابقة . وعرفت في الفصل الأوّل : أنّ « عن » لغةً وعُرفا ، إنّما هي دالّة على السماع المباشر ، في الأسانيد .
وثانيا : قد عرفت أنّ كلمة الجرّ « عن » متعلّقة في ظاهر الكلام بالفعل المحذوف من جنس المذكور قبلها ، فالكلام إذَنْ على نسق واحد ، وهو كما يفهمه العُرف العامّ ، من الاتّصال ، وقد مضى هذا أيضا . وعلى هذا الأساس جرى جمهور علماء الإسلام من الحكم باتّصال المعنعَن ، بما عرفت أنّ إثارة الإشكال عليه ، إنّما هو من قبيل « الشبهة في مقابل البديهة » .
وثالثا : إنّ الالتزام بتوزيع الألفاظ على الطرق ، وتخصيص كلّ لفظ بطريق ، حتّى تكون « عن » للإجازة ، إنّما هو اصطلاح متأخّر ، ولا دليل على كونه ملزما من أصل عقليّ أو فرع شرعيّ ، كما فصّلنا ذلك في بحثنا الموسّع عن صِيَغ التحمّل والأداء ، وقد مرّ شيء من ذلك في فصل « تاريخ العنعنة » هنا .
ولا بأس بإيراد بعض الكلمات الصريحة في هذا المعنى :
قال ابن عبد البرّ : لا اعتبار بالحروف والألفاظ ، وإنّما هو باللقاء والمجالسة والسماع والمشاهدة . . . لإجماعهم على أنّ الإسناد المتّصل بالصحابي ، سواء أتى فيه ب « عن » ، أم ب « أنّ » ، أم ب « قال » ، أم « سمعت » ، فكلّه متّصل ۲ .
وقال : إنّ الألفاظ بعد تحقّق اللقاء لا عبرة بها ۳ .
وقال الخطيب البغدادي : الألفاظ ليست إلّا عبارة عن التحديث ، فهي سواء في الدلالة ۴ .
وقال الدكتور عتر في أداء السماع : يسوغ فيه كلّ ألفاظ الأداء مثل « حدّثنا » و « أخبرنا » و « خبّرنا » و « أنبأنا » و « عن » و « قال » و « حكى » و « أنّ فلانا قال » ، فإنّها تُطلَق على أمارة السماع من المحدّث ، كما صرّح به القاضي عياض وغيره ۵ ، ثمّ درج على هذا الإطلاق أكثر رواة الحديث المتقدّمين ، ثمّ وَجَدَ النقّاد بعد انتشار التدوين والتلقّي بالإجازة ونحوها وجدوا فيها توسّعا يؤدّي إلى اشتباه السماع بغيره ، لذلك رجّحوا الأداء بلفظ يدلّ على السماع ۶ .
وقوله : « وجد النقّاد توسّعا » و « رجّحوا » ، يدلّ على أنّ هذه التفرقة بين الألفاظ أمر مستحدَث لا أصل له في الشرع ولا في عُرف قدماء المحدّثين ، فلا ملزِم له أصلاً ، فضلاً عن أن يُبْنى عليه ردّ كتب الحديث الشريف ، بل هو أمر استحساني وليس بواجب حتّى عندهم ۷ .
فكيف يُبنى على مثل هذا الالتزام الّذي لا مُلزِم له من عقل أو شرع أو عُرف في نفي الحديث المعنعن ، وإسقاط اعتبار كتب الحديث الشريف ؟ ! إنّه عمل مخالف لأبسط قواعد العلم والوجدان .
ورابعا : إنّ الطرق الثمان لتحمّل الحديث وأدائه الّتي منها الإجازة إنّما هي معتبرةٌ عند المحدّثين بملاك واحد ، وهو « البلوغ » من الشيخ إلى الراوي ، كما أثبتنا ذلك مفصّلاً في كتابنا عن « الطرق الثمان » .
والإجازة بالإجماع ، واحدة من تلك الطرق ، فلا بُدّ أنْ تكون محرزة للبلوغ المذكور ، وإلّا كيف أدخلوها فيها ؟ ! بل جعلها الأكثرون ثالثة الطرق بعد السماع والقراءة ممّا يدلّ على أهمّيّتها في أداء البلوغ المذكور ، بشكل أقوى من سائرها ، وهي المناولة والكتابة والإعلام والوصيّة والوجادة .
وإذا اشتركت الطرق في أداء الهدف المنشود ، لم يفرّق بينها في الألفاظ . قال القاضي عياض : إذا روى معنى النقل والإذن فيه ، وأنّه لا فرق بين القراءة والسماع والعرض والمناولة للحديث في جهة الإقرار والاعتراف بصحّته وفهم الحديث به ، وجب استواء العبارة عنه بما شاء ۸ .
وإذا كانت الإجازة في القوّة والاعتبار ، والدلالة على ضبط الحديث ، بأفضل شكل بمنزلة واحدة مع سائر الطرق ، فهي إذن مساوية لها في أدائها دور بلوغ المتن ووصوله عن الشيخ المحدِّث إلى الراوي .
وخامسا : إنّ ما ذكره عن الإجازة ، يدلّ على جهل مفرط بواقعها وأمرها في الحديث ، وذلك لأنّ كبار أهل الدراية والعلم بالحديث وعلومه ، قد جعلوا الإجازة من أهمّ الطرق ، وبمنزلة السماع . قال الخطيب : إنّ الإجازة بمنزلة السماع وتاليته ، يُعدّ هو الأوّل وهي الثانية ۹ . وهذا يدلّ على تقدّم الإجازة على « القراءة » في الاعتبار .
وقال الفقيه أبو محمّد بن عتّاب الأندلسي ، عن أبيه : لا غنىً في السماع عن الإجازة ؛ لأنّه قد يغلط القارئ ، فيجيز له ما فاته . نقله ابن الصلاح ، وجعل الإجازة لذلك مع السماع مستحبّةً ۱۰ .
وقال الدربندي : ولا غنىً في كلّ سماع عن الإجازة ۱۱ .
وقال العراقي في الألفية :
وينبغي للشيخ أنْ يُجيزَ مَعْإسماعِه جَبْرا لنقصٍ إنْ وقَعْ
قال ابنُ عتّابٍ : ولا غناءَ عَنْإجازةٍ مع السماعِ تُقْتَرَنْ۱۲
بل سمّى مالكٌ الإجازةَ سماعا ، حيث قال : السماع عندنا على ثلاثة أضرُبٍ : الأوّل : قراءتك على الشيخ ، الثاني : قراءته عليك ، الثالث : أن يدفع إليك كتابا قد عرفه فيقول : « إروه عنّي » ۱۳ .
وقال السلفي : إنّه قد سمع في بغداد أبا جعفر بن يحيى الحكّاك التميمي ( ت 485 ه ) وهو ثقة حافظ يروي عن أبي نصر الوائلي ( ت 444 ه ) حكما له « يضع المناولة بمنزلة السماع » ۱۴ .
وحدّث الخطيب قال : حدّث أبو عليّ الهروي ، عن عمرو بن الحسن الشيباني القاضي ، فسُئِل عنه ؟ فقال : صدوق ، قيل : إنّ أصحابنا ببغداد يتكلّمون فيه ؟ ! فقال : ما سمعنا أحدا يقول فيه أكثر من أنّه « يرى الإجازة سماعا » وكان لا يُحدّث إلّا من أُصوله ، والشيباني توفّي سنة 339 ه ۱۵ .
وقال الشيخ الطوسي رحمه الله : إذا كان أحد الراويَين يروي سماعا وقراءة ، والآخر يروي إجازةً ، فينبغي أن يقدّم رواية السامع على رواية المستجيز ، اللّهمّ إلّا أنْ يرويَ المستجيز بإجازته أصلاً معروفا أو مصنّفا مشهورا ، فيسقط حينئذٍ الترجيح ۱۶ .
وقد عرفت أنّ الشيخ الطوسي صرّح في مشيخة كتاب تهذيب الأحكام أنّه يذكر الطرق إلى رواية الأُصول والمصنّفات الّتي استخرج منها أحاديث الكتاب مع كون الطرق كلّها معنعنة ، وقد سبق توضيحنا لهذا . بل جعل بعضهم « الإجازة » أفضل من « السماع » فقال : الإجازة على الوجه الصحيح خيرٌ وأقوى بكثير من السماع الرديء ۱۷ .
وقال أحمد بن حنبل : إذا أعطيتُك كتابي وقلت لك « إروه عنّي » وهو من حديثي ، فما تُبالي سمعتَه أو لم تسمعه ۱۸ .
فالإجازة إذن ليست كما ذكرها ذلك القائل المتفاطن في كلامه الزائف !
نعم ، بهذا تهاوت الإجازة عن مقامها السامي الّذي كان لها عند القدماء العلماء ، وأخذ ينظر إليها أهل العصر المتأخّرون بنظر الازدراء ، فأصبحت في رؤاهم خاويةً على عروشها ، وفاقدة لعناصر قوّتها واعتبارها ، بل أصبحت مهزلةً لأمثال هذا القائل من الصبيان المتشيّخين ، الّذين نزّلوا بالدروس والمصطلحات إلى مستوياتهم الهابطة ، من دون ورعٍ يحجزهم ، ولا حياءٍ يردعهم .
وسادسا : إنّ المتداوَل في كتب الحديث ، وكتب المصطلح ، والمُشاهَد في الأسانيد ، هو أنّ بين الإجازة وبين « عن » عموما من وجه ، فقد يجتمعان ، وقد تنفرد الإجازة عنها فتستعمل فيها ألفاظ الأداء الأُخرى ، وقد تنفرد « عن » فتستعمل في غير الإجازة من الطرق . فإذا استعملت الإجازة مع الألفاظ الأُخرى ، فهل يمكن القول بضعفها أيضا ؟ وهذا ما لا يلتزم به أحد .
وإذا استعملت العنعنة في غير الإجازة من الطرق ، فكذلك لم يقُل أحدٌ بضعف الحديث . وهذا يدلّ على أنّ الضعف ليس في الإجازة وحدها ، ولا في العنعنة وحدها .
وأمّا دعوى أنّ الضعف يختصّ بمورد الاجتماع ، وهو أداء الإجازة بالعنعنة فقط ، فهذه دعوى جُزافيّة لم يقُلْ بها أحد من علماء الحديث ، لا قديما ولا حديثا ، ولم نَرَ له موجبا ولا منشأً ، فإنّ الأمرين اللذين لا ضعف فيهما لا يوجب اجتماعهما ضعفا .
ويدلّ على ذلك أنّ العنعنة الّتي أصبحت خاصّة بالإجازة في عُرف المتأخّرين ، قد حكموا عليها بالاتّصال . قال العراقي في ألفيّته :
وكثُرَ استعمالُ « عن » في ذا الزمَنْإجازةً وهو بوَصلٍ ما قَمِنْ۱۹
أقول :
وهذا الاحتمال قد ذكرناه نحن ، مقدّمةً للردّ عليه ، وهو ممّا لم يرد في كلام ذلك القائل .
أمّا استعمال الألفاظ غير العنعنة مع الإجازة :
فقد قال ابن الأثير : أمّا « أنبأنا » فإنّ أصحاب الحديث يُطلقونها على الإجازة والمناولة ، دون القراءة والسماع اصطلاحا ، وإلّا فلا فرق بين الإنباء والإخبار ؛ لأنّهما بمعنىً واحد .
وقال الحاكم : « أنبأنا » إنّما يكون في ما يجيزه المحدّث للراوي شفاها ، دون المكاتبة . وجوّز قوم « حدّثنا » و « أخبرنا » في الإجازة ۲۰ .
وقال العلائي في الألفاظ الدالّة على السماع : ويلحق بها « أنبأنا » و « نبّأنا » ، وإنْ كان غلب استعمالها عند المتأخّرين في الإجازة ۲۱ . وكان الأوزاعي يخصّص الإجازة بقوله : « خبّرنا » بالتشديد ۲۲ .
وقال الدربندي : إنّ جمعا قد جوّزوا إطلاق « حدّثنا » و « أخبرنا » في الرواية بالمناولة ، وهو مقتضى قول من جعلها سماعا ، وقد حكي عن جمع جوازه في الإجازة المجرّدة . . . وعن بعضهم تخصيصها ب « خبّرنا » والقراءة ب « أخبرنا » ، وقيل : إنّه اصطلح قومٌ من المتأخّرين على إطلاق « أنبأنا » في الإجازة ۲۳ .
وقال العاملي : يجوز للسامع أن يقول : « حدّثنا وأخبرنا وأنبأنا ونبّأنا » هذا في الصدر الأوّل ، ثمّ شاع تخصيص « أخبرنا » بالقراءة ، و « أنبأنا ونبّأنا » بالإجازة ۲۴ .
وحكي عن جمع من أعلام المحدّثين : إطلاقُ « حدّثنا » و « أخبرنا » في الإجازة :
قال ابن الصلاح عن الحافظ أبي نُعيم الأصفهاني ، صاحب التصانيف الكثيرة في الحديث ، وكان يطلق « أخبرنا » فيما يرويه إجازةً ، أنّه قال : إذا قلتُ « حدّثنا » فهو سماعي ، وإذا قلتُ « أخبرنا » على الإطلاق ، فهو إجازةٌ ، من غير أنْ أذكر فيه : « إجازةً أو كتابةً أو كتبَ إليَّ أو أذِن لي في الرواية عنه » .
وقال : كان أبو عبد اللّه المرزباني الأخباري صاحب التصانيف في علم الخبر يروي أكثر ما في كتبه إجازةً من غير سماع ، ويقول في الإجازة : « أخبرنا » ولا يُبَيّنها ۲۵ .
وقال أيضا : ورد عن قومٍ من الرواة التعبير عن الإجازة بقول : « أخبرنا فلان أنّ فلانا حدّثه أو أخبره » ، بلغنا ذلك عن الإمام أبي سليمان الخطّابي أنّه اختاره أو حكاه ۲۶ .
وقال القاضي عياض : وذهب جماعة إلى إطلاق « حدّثنا » و« أخبرنا » في الإجازة ، وحكي ذلك عن ابن جُريج وجماعة من المتقدّمين ، وقد أشرنا إلى مَنْ سوّى بينها [ أي الإجازة ] ، وبين القراءة والسماع ، على ما تقدّم ، وحكى أبو العبّاس بن بكر المالكي في كتاب « الوِجازة » أنّه مذهب مالك وأهل المدينة ، وقد ذهب إلى تجويز ذلك من أرباب الأُصول : الجويني ۲۷
.
وقال عيسى بن مسكين قاضي القيروان وفقيه المغرب ( 214 295 ه ) : الإجازة رأس مالٍ كبير ، وجاز أنْ تقول : « حدّثني فلان » و « أخبرني فلان » ۲۸ .
وقيل لمالك بعد أن استجيز في موطّئه فأجاز : كيف أقول « حدّثنا مالك » أو « أخبرنا مالك » ؟ فقال : قُلْ أيّهما شئت ۲۹ .
وقال الحكم بن نافع أبو اليمان : قال لي أحمد بن حنبل : كيف سمعت الكتب من شعيب بن أبي حمزة ؟ قلت : قرأتُ عليه بعضه ، وبعضه قرأه علَيَّ ، وبعضه إجازة ، وبعضه مناولةً . قال : قُلْ في كلّه : « أخبرنا شعيب » ۳۰ .
فظهر أنّ إطلاق الألفاظ ، حتّى « حدّثنا » و « أخبرنا » في الإجازة ، أمرٌ جوّزه القدماء ، وجرى كثير من كبارهم عليه من دون حرج ، وإنّما تحرّج من ذلك بعض المتأخّرين على أثر اصطلاح أحدثوه ، لكنّه لم يكن ملزِما لغيرهم ، فلذا خالفه كبار المحدّثين والرواة ، كأبي نُعيم الأصفهاني ، والمرزباني ، كما مرّ ، ومن غير المعروفين كالسمرقنديّ أحمد بن محمّد بن إبراهيم ، والجيزي إسحاق بن راشد ۳۱ .
فظهر أنّ ما صنعه بعض الرجاليّين من عيب مَنْ فعل ذلك من المحدّثين ، كالمرزباني وأبي نُعيم ، وكذلك ابن بُطّة المؤدّب ، الّذي قال فيه النجاشي : يتساهل في الحديث ويعلّق الأسانيد بالإجازات ۳۲ بناءً على إرادة هذا المعنى ، ليس عيبا في الحقيقة ، وإنّما هو إشكال مبنيٌّ على التشديد في الالتزام بالألفاظ حسب المصطلح المتأخِّر الحدوث ، وقد عرفتَ أنّه لا ملزِم له حتّى تكون مخالفته عَيْبا .
وقد ذكرنا الجواب عن مثل هذا الإشكال في بحث « صِيَغ التحمّل والأداء » بتفصيلٍ أكثر ، فلاحظ .
وأمّا استعمال « عن » في سائر الطرق غير الإجازة :
فقد عرفنا في الفصل الثاني أنّ العنعنة مستعملة في التراث الإسلامي كلّه ، وفي مصادر الحديث الأُولى ومؤلّفاته المبكّرة ، وبشكل واسع وشائع ، ومن المعلوم أنّ أمر الإجازة لم يكن بتلك السعة وذلك الشيوع ؛ فلا بُدّ أنْ تكون « عن » مستعملةً مع الطرق الأُخرى ، حيث كانت أكثر الطرق شيوعا هي السماع والقراءة ، خصوصا إذا لاحظنا أنّ العنعنة تكثر مع أسماء الرواة في نهايات الأسانيد ، حيث تتّصل بالصحابة والتابعين وتابعيهم ، بشكل واضح .
فالإجازة ، وإنْ كانت عريقةً في القِدَم على ما أثبتناه في دراستنا الموسّعة عنها ، إلّا أنّها وبالقطع واليقين لم تكن الغالبة ولا الشائعة ، بحيث تُحمل عليها العنعنة في أكثر الأسانيد الموجودة في التراث الحديثي ، مع أنّ من المسلّم به عند علماء الدراية ، ومؤرّخي علوم الحديث أنّ تخصيص « عن » بالإجازة على القول بالتشدّد في الألفاظ إنّما هو اصطلاح متأخّر ، كما عرفنا .
والحاصل : إنّ العنعنة المستعملة في عامّة كتب الحديث ، لم تكن إلّا مع غير الإجازة من طرق الحديث والرواية .
مضافا إلى ما يوجد من التصريح باستعمال « عن » بدل « سمعت » الّتي هي خاصّة بطريقة السماع ، فيما رواه أبو زُرْعة ، قال : سألتُ أحمد عن حديث « أسباط الشيباني ، عن إبراهيم ، قال : سمعتُ ابن عبّاس » ؟ قال أحمد : « عن ابن عبّاس » . فقلت : إنّ أسباطا هكذا يقول : « سمعتُ » فقال أحمد : قد علمتُ ، ولكن إذا قلتُ « عن » فقد خلّصتُه وخلّصتُ نفسي ؛ أو نحو هذا المعنى ۳۳ .
كما أنّ الشافعيّ ساوى بين « عن » و « سمعت » في رسالته ۳۴
.
وقد مرّ بنا ما ذكره الشيخ الطوسي في ترجمة « أبي غالب الزراري » من قوله : أخبرنا بكتبه ورواياته أبو عبد اللّه الحسين بن عبيد اللّه ، عنه » . وأضاف : وقال الحسين : قرأت سائرها عليه عدّة دفعات ۳۵ .
فمع التصريح بكون روايات الحسين عن أبي غالب الزراري بطريقة القراءة لجميع الكتب والروايات ، ولعدّة دفعات ، فإنّ الشيخ الطوسي عبّر في طريقه بكلمة : « عنه » مطلقا ، ولم يُقيّدها بقوله : « قراءةً عليه » . ولا ريب أنّ هذا يدلّ على استعمال « عن » مع التحمّل بطريقة القراءة على الشيخ .
وقد ساوى الأوزاعيّ بين « عن » و « قال » ۳۶ . مع أنّ « قال » لا تُستعمل في الإجازة ، ولا يجري فيها ما ذكره المستشكِل المتشيّخ .
ونعود فنقول في تلخيص هذا الردّ عليه : إنّ العنعنة لم تختصّ بالإجازة ، ولا الإجازة تختصّ بالعنعنة ، فإذا كانت العنعنة صحيحة في غير الإجازة من طرق التحمّل ، ولا إشكال في السند من حيث كونه معنعنا ؛ فهي كذلك مع الإجازة ، وإذا كانت الإجازة معتبرة إذا لم تكن معنعنة ، فلا إشكال فيها لو اقترنت بالعنعنة . فإنّ كلّاً منهما لوحده لا إشكال فيه ، فاجتماعهما لا يولّد إشكالاً ، كما مرّ .
وأظنّ أنّ المتشيّخ المذكور لقط ما سمعه من الإشكال على العنعنة من جهة ، والإشكال على الإجازة من جهةٍ أُخرى ، وخلط بين الإشكالين ، فصبَّ جام جهله على « الحديث المعنعن » كما عرفت ، وعرفت الجواب والردّ عليه مفصّلاً .
ونقول لهذا المخلّط أخيرا :
إنّا نجد « العنعنة » مستعملة حتّى مع أسماء المعصومين عليهم السلام كلاًّ عن الآخر ، عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، عن الملائكة ؛ وأحيانا عن اللوح ، عن القلم ، وفي كثير من الروايات « عن اللّه جلّ وعلا » .
ومن الواضح لكلّ ذي عين ولو واحدة أنّ العنعنة حينئذٍ لا يمكن حملها على الإجازة أصلاً ، فضلاً عن الإجازة الباطلة ، بل لا بُدّ من حملها على الطرق المعتبرة الأُخرى ، وبوحدة السياق والنسق يُحكم على العنعنات المتأخّرة ، بمثل ذلك .
ولو فرض أنّ هذا المتطفّل حاول حملها على الإجازة مع الأسماء الكريمة ، فهذا أدلّ دليلٍ على اعتبار الإجازة وكونها من الطرق المقدّسة ، وبوحدة النسق يُحكم بحكمها هذا على العنعنات الأُخرى ، هذا إذا كانت العنعنات المذكورة من استعمال المعصومين عليهم السلام أنفسهم ، وأمّا إذا كانت العنعنة من استعمال الرواة ، فنفس هذا دليل على شيوع تداولها واعتبارها منذ الصدر الأوّل ، ومن دون مُعارض ، وبوحدة النسق تثبت حجّيّتها فيما بعد ذلك أيضا .
فأينَ ما لفّقه ذلك المخلّط ؟ ! وكيف يجرؤ على تصوّره في العنعنات المنتثرة في التراث الحديثي ؟ ! ومع الأسماء الكريمة ؟ ! !

1.هذا ما نُقل عن قائل الكلام ، وقد أصلحنا ما فيه من العجمة ، ليكون مفهوما لقرّائنا الكرام .

2.مقباس الهداية : ج ۵ ص ۱۸۶ .

3.علوم الحديث لابن الصلاح : ص ۶۲ ؛ ومنهج النقد : ص ۳۵۳ .

4.الكفاية : ص ۲۸۸ .

5.الإلماع : ص ۱۳۵ ؛ الاعتبار للحازمي : ص ۱۵ .

6.منهج النقد : ص ۲۲۴ .

7.لاحظ : قواعد التحديث للقاسمي : ص ۲۰۸ .

8.الإلماع : ص ۱۲۸ .

9.الجامع لأخلاق الراوي : ج ۲ ص ۱۹۸ رقم ۱۴۶۶ .

10.مقدّمة ابن الصلاح : ص ۲۵۸ ؛ علوم الحديث له : ص ۱۴۶ ۱۴۷ ؛ ونقله القاضي في الإلماع : ص ۹۲ .

11.القواميس ، قسم الدراية : ص ۳۴ .

12.لاحظ : فهرس الفهارس للكتّاني : ص ۷۶۵ ؛ ولاحظ مقال صيغ التحمّل والأداء : ص ۱۳۷ .

13.الإلماع : ص ۷۲ .

14.كتيّب مخطوط للسلفي : ص ۲۹۰ .

15.تاريخ بغداد : ج ۱۱ ص ۲۳۸ .

16.العدّة للشيخ الطوسي : ص ۳۴ .

17.الإلماع : ص ۹۲ .

18.طبقات الحنابلة لأبي يعلى : ج ۱ ص ۵۷ .

19.ألفية الحديث : ص ۱۳ رقم ۱۴۶ .

20.جامع الأُصول : ج ۱ ص ۴۳۹ .

21.جامع التحصيل : ص ۱۱۴ .

22.الإلماع : ص ۱۲۸ ۱۳۲ ؛ علوم الحديث لابن الصلاح : ص ۱۷۱ ؛ الباعث الحثيث لابن كثير : ص ۱۱۹ ؛ منهج النقد : ص ۲۲۵ ؛ توثيق السنّة : رقم ۳۸ .

23.القواميس : ص ۲۹ ؛ ونقله بلفظه الصدرُ في نهاية الدراية : ص ۱۷۹ .

24.وصول الأخيار : ص ۱۳۲ .

25.مقدّمة ابن الصلاح : ص ۲۸۴ ـ ۲۸۵ ؛ علوم الحديث : ص ۱۷۰ .

26.مقدّمة ابن الصلاح : ص ۲۸۶ ؛ علوم الحديث : ص ۱۷۲ ؛ والإلماع : ص ۱۲۹ .

27.الإلماع : ص ۱۲۸ .

28.المصدر السابق : ص ۹۱ ، والفهرسة لابن خير : ص ۱۶ .

29.الإلماع : ص ۹۰ .

30.طبقات الحنابلة : ج ۱ ص ۴۹ .

31.لاحظ : الإلماع : ص ۱۱۹ ؛ ومنهج النقد : ص ۲۲۶ نقلاً عن تعريف أهل التقديس : ص ۴ .

32.رجال النجاشي : ص ۲۶۳ .

33.طبقات الحنابلة : ج ۱ ص ۲۰۳ .

34.الرسالة للشافعي : ص ۳۷۸ ـ ۳۷۹ .

35.الفهرست للطوسي : ص ۵۶ رقم ۵۹۴ .

36.جامع بيان العلم : ج۲ ص ۱۷۹ .


العنعنة
126
  • نام منبع :
    العنعنة
    المؤلف :
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
عدد المشاهدين : 107781
الصفحه من 173
طباعه  ارسل الي