147
العنعنة

الملاحظة الثالثة :

ما هو السرّ في اعتماد القدماء من مشايخ الحديث على « العنعنة » بصورة واسعة ، وإهمالهم للألفاظ الأُخرى ؟ لا ريب أنّ واضعي الألفاظ لم يلتزموا بحرفيّتها ، حتّى المتشدّد منهم ، بل عمدوا إلى اختصارها ؛ لثقلها بالتكرّر ، خصوصا مع التنوّع ، وقد شرحنا ذلك في بحث « الصِيَغ » .
وأمّا أعلام المحدّثين عندنا فقد عمدوا إلى استبدالها كلّها بكلمة « عن » الّتي هي كاملة الدلالة وبالاستقلال على تمام المقصود من تلك الألفاظ مع وجازة لفظها ، فاكتفوا بها من دون إشعار بالاختصار ، ولا ريب أنّ هذا أَوْلى ممّا عمله غيرهم من الحذف تارةً ، أو اختصارها بالرموز .
فإذا كان الهدف الأساسي من الألفاظ هو التعبير عن اللقاء وتحمّل الحديث ووصول الرواية من الشيخ إلى الراوي ، وبلوغ الحديث ، وكان كلّ هذا يتأدّى بكلمة « عن » من دون اختصار ، فهو أَوْلى بلا ريب من حذف اللفظ مطلقا من دون رمز ، أو تبديله برمز . مع أنّ الغرض من إيراد الطرق في كتب الحديث وكتب الاستدلال هو الاعتماد على ما تُوصله من المتون وتؤدّيه من المعاني ، فالانشغال بالمصطلحات المستجدّة يبعد المسافة على طلّاب العلم ، الّذين يريدون فقه الحديث للتوصّل إلى العمل به .
وأمّا خصوصيّات الألفاظ وفوائدها ، فقد قدّروا لها مجالاً للاستعمال بقدرها ، وفي مواضع خاصّة ، كما في الكتب الموضوعة لبيان الطرق فقط ، كالفهارس والمعاجم ، حيث التزموا فيها بالألفاظ بمزيد من العناية ؛ لأنّ الغرض استيفاؤها من دون ذِكر المتون ، كما هو واضح .
وأخيرا :
فإنّ الصدر الأوّل من المحدّثين والرواة وكذلك القدماء لم يلتزموا بهذه الألفاظ المصطلحة ، ولم يستعملوا في القرنين الأوّلَين سوى لفظة « عن » كما عرفنا . فالأمانة العلمية تقتضي الاحتفاظ بما جاء فينصوصهم ، والتبعيّة لهم في ذلك .
وأمّا ما أُحدث في النصف الثاني من القرن الثاني ، من وضع هذه الألفاظ لمقاصد معيّنة ، فهو وإنْ كان حسنا ، إلّا أنّه ليس واجب الالتزام ، كما عرفت . ولايوجب حزازة على ما سبق وروده في الأحاديث من استعمال العنعنة .
كما أنّ في كثير من تطبيقاته تكلّفا واضحا ، مثل ما ورد عن سفيان بن عُيَيْنة ، قال : « نا عمرو بن دينار » يريد « حدّثنا » ، فلمّا قيل له : قل « حدّثنا عمرو » ! قال : لا أقول ؛ لأنّي لم أسمع من قوله « حدّثنا » ثلاثة أحرف وهي : « ح د ث » لكثرة الزحام ، فأقتصرُ على « نا » النون والألف ۱ .
فهو يصرّح بعدم إرادته الاختصار ، وإنّما يتقيّد بلفظ ما سمع ، مع علمه بأنّ المراد هو « حدّثنا » وأنّه هو الواقع من الشيخ ، فهذا بلا ريب وَرَعٌ مُظْلِمٌ ، لا يطلبه أهل الفضل والعلم والفقه ، وليس يليق إلّا بمن يتمشدق بهذه الزخارف . ولو كان أهل التشدّد في الاصطلاح يستحسنون هذا ويجوّزونه باعتباره اختصارا غير مضرٍّ ، فأَوْلى لهم أن يجوّزوا التلفّظ بكلمة « عن » الّتي تؤدّي الرواية بكامل معناها ، من دون اختصار مع ما فيه من الاتّباع للصدر الأوّل .
ولنختم هذا البحث ، بكلامٍ فَصْلٍ من الخطيب البغدادي ، حيث قال : « أهل العلم مُجمِعون على أنّ قول المحدّث : حدّثنا فلان عن فلان ، صحيح معمول به ، إذا كان شيخة يعرف أنّه قد أدرك الّذي حدّث عنه ولقيه وسمع منه ، ولم يكن هذا المحدّث ممّن يدلّس ، ولا يستجيز أن يُسقط [ اسما ]ويروي الحديث عاليا ؛ لأنّ الظاهر من الحديث السالم راويه ممّا وصفنا الاتّصالُ ، وإنْ كانت العنعنة هي الغالبة على إسناده ۲ .

1.علوم الحديث لابن الصلاح : ص ۱۴۷ ، المقدّمة : ص ۲۵۹ .

2.الكفاية للخطيب : ص ۴۲۱ .


العنعنة
146
  • نام منبع :
    العنعنة
    المؤلف :
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
عدد المشاهدين : 93577
الصفحه من 173
طباعه  ارسل الي