151
العنعنة

خلاصة البحث

1 ـ « العنعنة » مصدرٌ جَعْليٌّ مأخوذٌ من استعمال كلمة « عَنْ » في الإسناد ، وهي في اللغة تأتي بمعانٍ عديدة ، أشهرها المجاوزة ، ولكنّها إذا وقعتْ في الأسانيد وما هو بمعنى النقل المعلوم فاعله ، فإنّها لا بُدّ أنْ تكون بمعنى « مِنْ » . وقد اصطلح أهل الحديث على ذلك ، كما قد دارت حولها بحوث اصطلاحيّة أُخرى ، وقد جمعنا كلّ ما يرتبط بها لغةً واصطلاحا ، في الفصل الأوّل .
2 ـ وتتبّعنا في الفصل الثاني « تاريخ العنعنة » ، فوجدنا أنّها متوغّلة في القِدَم ، فالتراث الحديثي ، والشيعي منه بخاصّة ، يدور على استعمالها بما لها من المعنى اللغوي ، أعني « مِنْ » ، وقد وقع الاصطلاح على ذلك أيضا عند المحدّثين شيعة وعامّة .
وبما أنّ الأصل في معاني « عن » المجاوزة ، فقد استعملت لغةً في معنى صدور الكلام من قائله ، ولو كان بعيدا زمانا عن الناقل له ، كما يُفهم من قولهم « رُوي عن الصادق عليه السلام » عندما يكون فاعل الرواية المباشرة مجهولاً مثلاً فهذا لا يعني الاتّصال بين الناقل والقائل .
وكذا بما أنّ المتأخّرين من المحدّثين خصّصوا لكلّ طريق من طرق التحمّل والأداء لفظا من الصيغ الموضوعة لذلك ، فخصّصوا لفظة « عن » لِما يُنقل بطريقة الإجازة ، وبما أنّ طريقة الإجازة تحوّرت على أثر الإهمال والتماهل والتساهل كما هو الحال في سائر أدوات المعرفة الإسلاميّة فإنّ الإجازةَ مُنيت بهجوم عنيف من قبل بعضهم ، وبالتزييف والتسخيف من بعضٍ آخر .
من كلّ هذه الأُمور واجتماعها في الحديث « المعنعن » ، صدرت نغمات الهجوم على العنعنة وحديثها ، وأعلام المحدّثين ضمن جمهورهم تصدّوا لِما قيل فيها من الإشكالات منذ القدم ، حيث تصدّى مسلم بن الحجّاج القشيري صاحب الصحيح للردّ على مَنْ شكّك في حجّيّتها في مقدّمة كتابه المعروف بالصحيح .
3 ـ ولكنّ متّبعي الشُبهات أثاروا بعض ذلك في الآونة الأخيرة على أثر تشكيك أعداء الإسلام من أمثال المستشرق فرنز روزنتال ، إذ قال : ولأسباب عملية مهمّة كان الوضع أرحب مجالاً في الحديث ، إذ وجد الواضعون عملهم سهلاً ميسورا ؛ لأنّ فكرة « العنعنة » أو الرواية الشفوية ، تفتح الباب على مصراعيه لكلّ نوعٍ من التزوير ۱ .
فمع أنّه لم يفهم فكرة العنعنة بالضبط ، ففسّرها بالرواية الشفوية ، فهو لا يُريد إلّا الهجوم على جميع الحديث المرويّ بطريقة شفوية سواء بالعنعنة أو باللفظ الصريح مثل « حدّثنا » و « أخبرنا » . ومع أنّه يُوحي من طرفٍ خفيّ إلى أنّ الحديث الشريف لم يعتمد الكتابة والتدوين ، وإنّما ظلّ مستندا إلى الرواية الشفوية ۲ .
إلّا أنّه أخفق في ربط العنعنة بمسألة الوضع في الحديث ، إذ غاية ما يرد على العنعنة إنّما هو « التدليس » الّذي قد تُصدّي له بكلّ قوّة ، وكُشف عن عواره بكلّ شدّة ، ومُحِّص عن الحقّ ضدّه بكلّ صلابة ، حتّى عُرِفَ المدلّسون وكيفيّة عملهم . بل إنّ الإشكال على العنعنة مبنيّ على الاحتياط من فعل المدلّسين ، لكنّ هذا المستشرق يثيرها في اتّجاهٍ معاكس للغرض ، وهذا إنْ أحسنّا الظنّ بالمستشرقين ناشئ عن عدم فهمهم للغة العلم عند المسلمين .
ولكنّ المؤسفَ أنْ يتصدّى للحديث المعنعن ، مَنْ يتمشيَخ ويعدّ نفسه أُستاذا مدرّسا ، يجول في حلقات درسه بأمان ، ويطلق لسانه بحرّيّة تامّة ، فيطرح الإشكال على الأحاديث المعنعنة في تراثنا الحديثيّ بأنّها تُنبئ عن الإجازة ، وهي باطلة ! محاولاً بذلك الالتفاف على أهمّ مصادر الحديث الشريف ، وإخراجها عن حيّز الاستدلال بها لاعتمادها بشكل رئيسي على الحديث المعنعن .
وقد عقدنا الفصل الثالث بطوله للإجابة عن ترّهاته تلك وسفسطاته المزخرفة .
إنّ أمثال ذلك المتطفّل على حلقات العلم إنّما عمدوا إلى ذلك لأمرين :
الأوّل : جهلهم بالمصطلحات ودورها في العلوم ، وذلك لقصور أسنانهم عن متابعتها ، وقصور أذهانهم عن التوصّل إلى معانيها .
الثاني : لعجزهم لغويا عن مداولة الحديث الشريف ومدارسة فقهه ، والاستفادة منه ، فخيرٌ لهم أن يتجاوزوه بالإسقاط والتزييف !
4 ـ وفي الخاتمة عرضنا بعض المشاكل الناتجة من العنعنة بما له أثر تطبيقي لبعض ما سبق من فصول البحث .
5 ـ والحاصل : إنّ الحديث المعنعن ، هو كسائر الأحاديث المرويّة بالألفاظ ، واعتباره كاعتبارها ، من دون فرقٍ بينها من جهة العنعنة ، الّتي أُثيرت حولها شبهات باطلة ، منشأُها :
إمّا الجهل باللغة العربية ، والقصور عن فهم المصطلحات وأغراضها وسوء استخدامها ووضعها في غير مواضعها ، أو العداء الصارخ والمخفيّ لهذا الدين من خلال ضرب أهمّ مصادر المعرفة فيه ، وهو التراث الحديثي المجيد .
حَفِظ اللّه تراثنا الغالي من أن تناله أيدي الجهلة وأسنّة الأعداء السفلة ، ووفّق أهل الدين لحماية مصادر معرفته أُصولاً وفروعا .
آمين ، بحقّ محمّد وآله الطاهرين ، صلوات اللّه عليهم أجمعين .
«سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ *
وَ سَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ *
وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»

1.مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي ، ترجمة د . أنيس فريحة : ص ۱۳۰ .

2.وقد فنّدنا هذه المزعومة بتفصيل في كتابنا تدوين السُنّة الشريفة .


العنعنة
150
  • نام منبع :
    العنعنة
    المؤلف :
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
عدد المشاهدين : 93591
الصفحه من 173
طباعه  ارسل الي