23
العنعنة

2 ـ بين « عَنْ » و « مِنْ » :

أمّا لفظة « عَنْ » فهي حرفُ جرٍّ . قال ابن هشام : في « عن » إذا كانت حرفا جارّا ، أنّ لها معاني ، أحدها : المجاوزة ، ولم يذكر البصريّون سواه ، نحو : « سافرتُ عن البلد » و « رغبتُ عن كذا » ۱ .
وقال الإربليّ في معاني « عن » الواقعة حرفا : للمجاوزة ، وهي الأصل في معانيها ، إمّا حقيقةً ، نحو : « رحلتُ عن زيدٍ » ، أو مجازا ، كأخذتُ العلم عن والدي ، كأنّه لمّا اتّصفَ به وصار عالما ، قد جاوز المعلّم ۲ .
أقول :
مراده بالأصل : وضع اللغة ، فقد صرّح أهلها بذلك . قال ابن منظور : « عَنْ » معناها ما عدا الشيء ، تقول : «رميتُ عن القوسِ » ؛ لأنّه بها قَذَفَ سهمَهُ عنها وعدّاها ، و « أطعمتُهُ عن جوعٍ » جعل الجوع منصرفا عنه تاركا له ، وقد جاوزه ۳ .
تدلّ هذه النقول على أنّ « عن » تدلّ على مجرّد انفصال الشيء عن الشيء وابتعاده عنه ، فقولنا « سافرت عن البلد » بمعنى خرجت عنه وابتعدت عنه ، وانفصلت عنه ، يعني تجاوز سفري البلدَ .
ومن هنا يُعرف الفرق بين التجاوز في « عن » والابتداء في « من » في قولنا « سافرت من البلد إلى الضيعة » ، فإنّه يدلّ على أنّ شروع السفر كان من البلد منتهيا إلى غاية ، فالغرض من « سافرت من » هو بيان محلّ الشروع في السفر ، الّذي يقتضي نهايةً ، وإن اقتضى انفصالاً وخروجا من البلد ، إلّا أنّ الغرض الإفصاح عن الابتداء دون مجرّد الانفصال . وإنّ الغرض من « سافرت عن » هو محلّ الانفصال بالسفر والخروج ، وهو البلد ، وإن كان هو المبدأ أيضا ، إلّا أنّ الغرض هو التعبير عن مجرّد الانفصال ، دون أن يذكر له منتهىً وغاية .
وقد استُعملتْ « عن » بمعنى « مِنْ » ومرادفةً لها ، وهذا هو المعنى السابع ممّا ذكره لها في القاموس ۴ .
قال أبو عبيدة في قوله تعالى : « وَ هُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ »۵ : أي مِنْ عباده .
وقال الأصمعي : حدّثني فلان مِنْ فلان ، يريد « عنه » ، ولَهِيْتُ من فلانٍ وعنه .
وقال الكسائي : عنك جاء هذا ، يريد « منك » .
روى جميع ذلك أبو عبيد عنهم ۶ .
كما صرّح النحّاةُ في معاني « عَنْ » أنّها تأتي بمعنى « مِنْ » .
قال ابن هشام في معانيها : السابع : مرادفة « مِنْ » نحو : « وَ هُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ » ، و « أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا »۷ ، بدليل : « فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأَخَرِ »۸۹ .
وذكر النحويّون أيضا في معاني « مِنْ » أنّها تأتي لمعنى « عَنْ » :
قال الإربليّ في معاني « من » : العاشر : النائبة عن بعض حروف الجرّ المؤدّية معناها : أحدها « عن » ، فإنّ « مِنْ » تنوب عنها في تأدية معنى المجاوزة ، نحو : « انفصلتُ من زيدٍ » و « نُهيتُ من شتم بكر » ۱۰ .
وجعل ابن هشام المجاوزة ، السادس من معاني « من » ۱۱ .
واعترض الإربلي على مَن مثّل له بنحو : « بعدتُ منه » و « أنفقتُ منه » ، بقوله : لم يتبيّن لي فيهما معنى المجاوزة ۱۲ .
أقول :
الوجهُ في الاعتراض هو أنّ حقيقة المجاوزة هي التعدّي بحيث يكون المجرورُ ب « عَنْ» متجاوَزا عنه ، ويكون فاعلُ الفعل هو المتجاوِزُ المنفصل عن المجرور ، فهذا هو الأصل في معنى « عنْ » وما هو بحكمه ، سواء كان تجاوزا حسّيا فيكون حقيقيّا ، أو تجاوزا تقديريّا فيكونُ معنويّا ، نحو : « فاتَ عنّي الدرسُ » ، بمعنى تعدّى عنّي فلم أُدركه ، وانفصل عنّي ، وفاتني وقتُه ، وبَعُد عنّي .
قال ابن منظور : قال النحويّون : « عَنْ » ساكنة النون حرفٌ وُضع لمعنى ما عداك وتراخى عنك ، يقال : « انصرِفْ عنّي وتنحّ عنّي » ۱۳ والمعنى : ابتعِد عنّي وانفصِل عنّي .
وأمّا « مِنْ » فالأصل فيها هو ابتداء الغاية مكانا أو زمانا كما هو المعروف في كتب النحو واللغة ، وهو كذلك حقيقيّ ومعنويّ ، فالمجرور ب « مِنْ » مبدأٌ لمصدر الفعل المتعلَّق لها ، ولا بُدّ له من منتهىً يعادله ، بخلاف « عن » حيث يقصد الانقطاع والابتعاد فقط .
ففي الأفعال الّتي تدلّ على الحركة والانتقال ، مثل : « بَعُدَ » و « ذهبَ » و « غابَ » فإنّ الأمرين معا محتملان : التجاوز والابتداء ، فاستعمال كلٍّ من الحرفين « عَنْ » و « مِنْ » يجوز تبعا للمراد ، فلو صُرّح بكون الحرف المستعمل بمعنى الآخر ، كان هو المراد ، وإلّا حصل اللَبْسُ واحتاج إلى القرينة الموضّحة والمشخّصة ، كما في « بعدتُ منه » ، فلو أُريد البعد المكاني كانت « مِنْ » لابتداء المكان ، والمعنى : أنّه « مبدأ البُعْد » الّذي قمتُ به ، وقد بلغتُ موضعا آخر .
ولو قيل : إنّ « مِنْ » هي بمعنى « عَنْ » كان المعنى : تجاوزتُه ، وانفصلتُ عنه وفارقتُه ، من دون غرض في كونه مبدأ للفعل كي يحتاج إلى منتهىً . وكذا لو قيل : « بعدتُ عنه » ، فلو أُريد المجاوزة صَحَّ . ولو قيل إنّ « عَنْ » بمعنى « مِنْ » كانت بمعنى الابتداء في المكان كما شرحنا ، وكان بحاجة إلى منتهىً ولو لم يُذكر في الكلام .
والظاهر أنّ الالتزام بمعنى نفس الحرف المستعمل في الكلام وإرادة معناه الأصلي هو المتعيّن ، إلّا أنْ يُصرّحَ مَنْ يُعتمد عليه من أهل اللغة بإرادة معنى الحرف الآخر ، فيكون هو المتّبع .

1.مغني اللبيب : ج ۱ ص ۱۹۶ .

2.جواهر الأدب في معرفة كلام العرب : ص ۱۹۴ ، ولاحظ عبارته .

3.لسان العرب : ج ۴ ص ۳۱۴۳ مادّة « عنن » .

4.القاموس المحيط : ج ۴ ص ۲۵۰ ، وانظر شرحه تاج العروس : ج ۹ ص ۳۸۳ مادّة « عنن » .

5.سورة الشورى ۴۲ : ۲۵ .

6.لسان العرب : ج ۴ ص ۳۱۴۳ مادّة « عنن » .

7.سورة الأحقاف ۴۶ : ۱۶ .

8.سورة المائدة ۵ : ۲۷ .

9.مغني اللبيب : ج ۱ ص ۱۹۸ ، وانظر : جواهر الأدب : ص ۱۹۵ .

10.جواهر الأدب : ص ۱۶۱ .

11.مغني اللبيب : ج ۱ ص ۴۲۳ .

12.جواهر الأدب : ص ۱۶۱ .

13.لسان العرب : ج ۴ ص ۳۱۴۳ مادّة « عنن » .


العنعنة
22
  • نام منبع :
    العنعنة
    المؤلف :
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
عدد المشاهدين : 93561
الصفحه من 173
طباعه  ارسل الي