27
العنعنة

3 ـ فلنعد إلى محطّ البحث :

فنقول : إنّ أفعال نقل القول والكلام وحكايتهما مثل « حدّث » و « أخبر » و « روى » تُعدّى بحرف الجرّ « عَنْ » عادةً ، يقال : « نَقَل فلانٌ عن فلانٍ » و « روى عنه » و « أخبر عنه » و « حدّث عنه » . والتجاوز المفروض في « عن » ليس متصوّرا بمعناه الحسّي الحقيقي في هذه الموارد ؛ لأنّ الفعل وهو من جنس الكلام لا استقرار له حتّى يُعقل تجاوزه ، بل لا بُدّ أن يكون التجاوز معنويا .
لكنّ المتجاوِز والمتجاوَز عنه في هذا المقام يختلفان عمّا سبق ، فليس المتجاوِز هو فاعل الفِعل ، بل هو الحديث نفسه لو فرض ، فقول زيد : « حدّثَ عمرو عن بكر » معناه على التجاوز : تجاوز الحديثُ بكرا إلى عمرو ، وليس هذا موافقا لواقع التجاوز الّذي عرفناه في « انصرف عمرو عن بكر » ، و « رميت السهم عن القوس » ، حيث إنّ التجاوز فيهما معناه مجرّد ابتعاد عمرو عن زيد أو السهم عن القوس ، وانفصاله عنه ، بينما في « حدّث عمرو عن بكر » ليس مجرّد ذلك ، بل فيه الانفصال والوصول إلى غاية ، ولذا لو قال زيدٌ : أوصلَ عمرو حديثا من بكرٍ ، أو : « وصل من عمرو حديثُ بكر » صحّ ، وأدّى نفس معنى « حدّث عمرو عن بكر » بلا تفاوت .
فالتجاوز المراد من « عن » لا يمكن إرادته في مثل « حدّث عمرو عن بكر » ؛ لأنّ واقع التجاوز هو الابتعاد والتعدّي والانفصال عن المجرور ، من دون ملاحظة بلوغه إلى الآخر ، والمفروض أنّ الحديث لم ينفصل فقط عن بكرٍ ، وإنّما بلغ عَمْرا ، فيكون منتهيا إلى غاية ، وهو معنى « من » فقط كما شرحنا .
وهذا المعنى هو الواقع في الأسانيد ، ولذا لا بُدّ من تقدير أفعالٍ من مثل « قال » و « أخبر » و « حدّث » وغيرها ، مع كلّ حرف جرّ « عن » في السند ليتعلّق به ولا يحتاج إلى واسطة .
وبما أنّ معنى التجاوز غير جارٍ في هذا ، فلا بُدّ أن تكون « عَنْ » بمعنى « مِنْ » الّتي يُراد بها الابتداء وإن كان معنويّا ، كما ورد عند أئمّة اللغة والنحو .
والحاصل : إنّ معنى قوله : « حدّث زيدٌ عن عمرٍو » أنّه وَصَلَ إلى زيدٍ حديثٌ من عمرو . وأمّا قول الأصمعيّ : « حدّثني فلان من فلان » يريد عنه . فهذا دليل على استعمال « من » بعد حدّثني بمعناها الحقيقي وهو الابتداء لوجود غاية ينتهي إليها كما فسّرناه ، إلّا أنّ « حدّث » تتعدّى ب « عن » في لسان العرب ، فلا بُدّ أن تكون « عن » بمعنى « من » ، فمراد الأصمعي التعبير عن مقتضى اللفظ .
نقول :
ولِما يُرى من اشتراك « من » و « عن » في كون المجرور بهما منطلَقا إمّا للابتعاد بلا غاية ، أو للابتداء إلى غاية ، فإنّ ذلك موجِبٌ للتسامح في جواز استعمال أحدهما بدل الآخر وبمعناه ، فلاحظ !
ونقول أيضا : ولو فرضنا صحّة استعمال « عن » في مثل « حدّث زيدٌ عن عمرو » بمعنى التجاوز ، وهو مجرّد الانفصال من دون غاية ، فلا ريب أنّ ذلك مَجازٌ وخلاف الشائع ؛ لوضوح صحّة استعماله في المتّصل المباشر بكثرة وشيوع ، من دون حاجة إلى قرينة مع العلم بالاتّصال ، بل هو الظاهر من الإطلاق ، فلاحظ .
وممّا يقرّب ما ذكرنا استعمال « عن » مع فعل الأخذ في موضع « من » . قال أبو حمزة الثمالي : أخذت هذا الدعاء « من » أبي جعفر عليه السلام ۱ وفي الكافي : « عن » أبي جعفر عليه السلام ۲ ، وهما بمنزلة ما ورد من قول الراوي : أعطاني أبو عبد اللّه عليه السلام هذا الدعاء ۳ .
ومعنى هذه الموارد : صَدَرَ الدعاء من الإمام إلى الراوي ، وليس مجرّد تجاوزه عن الإمام بلا غاية ، فلاحظ .
نعم ، لو كان فاعل الحديث مجهولاً ، كما في « حُدِّثْنا عن عمرٍو » أمكن تصوّر معنى المجاوزة المعنوية ؛ لأنّ الكلام المنقول عن بكر قد تجاوزه وابتعد عنه ، لكنّه لم يبلغ غاية معيّنة ، لفرض أنّ الناقل له هو الفاعل المجهول .
نعم ، قد بلغ المتكلّمَ بالفعل ، لكنّه لا بصدوره من عمرو ، فأمره يدور بين ابتداء بلا غاية ، وهو التجاوز المراد من « عن » ، وبين انتهاء بلا بداية ، وهو ليس مؤدّى « من » ، فلاحظ .
ولذا ، فقد حُمِلَ ما ورد بلفظ « يُذْكَر عن فلان » على الانقطاع والإرسال ، أُعِلّ الحديث بذلك حتّى ما ورد منه في مثل كتاب البخاري ، على مبالغاتهم فيه . قال ابن حجر في هدي الساري مقدّمة فتح الباري في الفصل الرابع الّذي عقده لبيان سبب التعليق للأسانيد عند البخاري ما نصّه : فأمّا المعلَّق من المرفوعات ، فعلى قسمين : . . . ثانيهما : ما لا يوجد فيه إلّا معلَّقا . . . ، فإنّه على صورتين : إمّا أن يورده بصيغة الجزم ، وإمّا أن يورده بصيغة التمريض .
وقال : والصيغة الثانية ، وهي صيغة التمريض ، لا تُستفاد منها الصحّة إلى من علّق عنه ، لكن فيه ما هو صحيح ، وفيه ما ليس بصحيح على ما سنبيّنه . أمّا ما هو صحيح ، فلم نجد فيه ما هو على شرطه إلّا مواضع يسيرة جدّا ، كقوله في ( الطبّ ) : ويُذكَر عن ابن عبّاس ۴ .
وقال : وأمّا ما لم يورده في موضع آخر بهذه الصيغة ، فمنه ما هو صحيح إلّا أنّه ليس على شرطه ، ومنه ما هو حسن ، ومنه ما هو ضعيفٌ فردٌ إلّا أنّ العمل على موافقته ! ومنه ما هو ضعيفٌ فردٌ لا جابر له .
فمثال الأوّل : في ( الصلاة ) : . . . ويُذكَر عن عبد اللّه بن السائب ، وفي ( الصيام ) : ويُذكَر عن أبي خالد .
ومثال الثاني : في ( البيوع ) : ويُذكَر عن عثمان بن عفّان .
ومثال الثالث : . . . قوله في ( الوصايا ) : ويُذكَر عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، ورواه الترمذي موصولاً من حديث أبي إسحاق السبيعي ، عن الحارث الأعور ، عن عليّ عليه السلام والحارث ضعيف ، وقد استغربه الترمذي ! ثمّ حكى إجماع أهل العلم على القول به ؟ !
ومثال الرابع : وهو الضعيف الّذي لا عاضدَ له ، وهو في الكتاب قليل جدّا . . . فمن أمثلته : في كتاب الصلاة : ويُذْكَر عن أبي هريرة ۵ .
أقول :
وموارد أُخرى في البخاري بصيغة « يُذْكَر عن » بالمجهول ، المقتضية للانقطاع والضعف ، منها :
يُذكَر عن ابن مسعود ، وابن عبّاس ۶ . . و : يُذكَر عن هشام بن عروة ، عن رجل ۷ ، بينما لم يجئ هذا الاحتمال في صيغة « يَذْكُر عن » بالمعلوم ، كقوله : حدّثنا معتمر : سمعت أبي يَذْكُر عن أبي مجلز ۸ . . وقوله : سمعتُ أبا عاصم يَذْكُر عن سفيان ۹ . . و : سمعت أبا صالح يَذْكُر أراه عن جابر ۱۰ .
فلتُلاحظ الموارد .
فقول الأزهري : وممّا يقع الفرق فيه بين « مِنْ » و « عَنْ » أنّ « مِنْ » يُضاف بها ما قرُب من الأسماء ، و « عَنْ » يُوصَل بها ما تراخى ، كقولك : « سمعتُ من فلان حديثا » و « حُدّثنا عن فلان حديثا » ۱۱
. . ليس منشأُه إلّا كون الفعل « سَمِعتُ » معلوما و « حُدّثنا » مجهولاً ، إذ يقتضي الفعل المعلومُ المباشرةَ بين السامع والمتكلّم ، فكأنّ الحديث تجاوز المتكلّم وانتهى إلى السامع ، فكان بمعنى « من » .
بينما الفعل المجهول يقتضي وجود الواسطة بينهما ، فكأنّما الحديث قد تجاوز المتكلّم ولم يصل إلى السامع ؛ لوجود واسطة مجهولة هوالفاعل المجهول ، فهذا يؤكّد أنّ الفعل « حَدَّث عنه » بالمعلوم ، هو يقتضي أن تكون « عن » معه بمعنى « من » ، كما في « سمعتُ منه » ومثله « رويتُ عنه » و « أنبأتُ عنه » وأمثالها ، فإنّ كلّ هذه الأفعال تدلّ بملاكٍ واحد على النقل للكلام عن مصدره إلى الناقل .
والحاصل : إنّ كون « عن » في هذه الأفعال بمعنى « من » هو مقتضى واقع العمل الّذي تدلّ عليه الأفعال ، وهو « النَقْلُ » الصالح للابتداء والانتهاء إلى نهاية مشخّصة ، ولو معنويا ، وهذا مفاد « مِن » ، لا مجرّد المجاوزة الموضوع لها « عن » .

1.تهذيب الأحكام للطوسي : ج ۳ ص ۷۶ ح ۳ .

2.المصدر السابق : ج ۲ ص ۵۹۰ ح ۳۱ .

3.المصدر السابق : ج ۲ ص ۵۹۰ ح ۳۱ .

4.هدى الساري : ج ۱ ص ۲۷ ـ ۲۸ .

5.المصدر السابق : ج ۱ ص ۲۹ وحكم بضعف الحديث في موارد في الفصل السابع : ج ۲ ص ۲۰۵ .

6.صحيح البخاري : ج ۴ ص ۱۰۶ طبعة دار الفكر ۱۴۰۱ ه .

7.المصدر السابق : ج ۳ ص ۱۳۳ .

8.المصدر السابق : ج ۷ ص ۱۳۸ .

9.المصدر السابق : ج ۱ ص ۲۲ .

10.المصدر السابق : ج ۶ ص ۲۴۶ .

11.لسان العرب : ج۴ ص ۳۱۴۳ ، وتاج العروس : ج ۹ ص ۳۸۳ ـ ۳۸۴ .


العنعنة
26
  • نام منبع :
    العنعنة
    المؤلف :
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
عدد المشاهدين : 93568
الصفحه من 173
طباعه  ارسل الي