61
العنعنة

الملاحظ في كتب الحديث الأساسيّة ، وجود العنعنة في أسانيدها بشكل كثير ومطّرد ، ومع أسماء المعصومين : النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم والأئمّة الكرام عليهم السلام ، وحتّى مع أسماء الملائكة ، ومع اسم ربّ العزّة تبارك وتعالى . وأمّا مع أسماء الصحابة والتابعين في القرون الأُولى فكثير شائع .
وقد يعتقد أنّ استعمال ألفاظ الأداء الأُخرى ك « سمعتُ » و « حدّثنا » و « أخبرنا » وأمثالها ، توجد بِقِلّةٍ ملحوظة في تلك الطبقات ، بينما هي مستعملةٌ في الطبقات اللّاحقة بكثرة ووفرة .

1 ـ الموارد عند القدماء :

ومهما يكن فإنّ التركيز على لفظة « عَن » في مقابل الألفاظ الأُخرى ، موجود في نصوص عريقة في القِدَم ، سواء في الأسانيد ، أم في المناقشات حولها بين المحدّثين أو الأُصوليّين ، إليك منها :
1 ـ قيل لحفص بن غياث بن طلق القاضي ( ت 194 ه ) الراوي المعروف : ما لكم حديثكم عن الأعمش ، إنّما هو « عن فلان ، عن فلان » ، ليس فيه « حدّثنا » ولا « سمعتُ » ؟ ! فقال : حدّثنا الأعمش ، قال : سمعت أبا عمّار ، عن حذيفة يقول لنا : يكون أقوامٌ يقرأون القرآن يقيمونه إقامة القِدْح ، لا يَدَعون منه أَلِفا ، ولا واوا ، ولا يُجاوز إيمانُهم حناجرهم ۱ .
وهذا النصّ يدلّ على أُمور :
أوّلاً : على التفات المعترضين إلى استعمال العنعنة ، ووضعهم لها في مقابل « حدّثنا » و « سمعت » وهي العناية بالألفاظ في مراحلها الأُولى ، هذا مع الإعراض عن معانيها ومداليلها ، وأنّ ذلك إنّما يكون من اهتمامات الّذين لهم العناية الفائقة بألفاظ الرواية من دون عناية بمعاني الحديث ودرايته وفهمه ، بل بمجرّد تشكيله الظاهريّ اللفظيّ ، وهي بدايات الظاهرية والحشوية الممقوتة .
ثانيا : على أنّ حفصا استنكر تلك العناية بشدّة ، حتّى طبّق عليهم حديث حذيفة الشديد اللهجة ، ممّا يدلّ على أنّ الالتزام بالألفاظ والتشديد عليها ومحاسبة الراوي من أجلها ، لم يكن أمرا مستقرّا حتّى ذلك العصر ، بالرغم من أنّ وضعها قد سبق تلك المرحلة ، كما أثبتنا ذلك في البحث عن الصيغ ۲ .
2 ـ ولأبي عمرو الأوزاعي ( ت 157 ه ) رأي في استعمال « عَنْ » ، حيث سُئل عن « المناولة » والقول فيها ب « حدّثنا » أو « أخبرنا » ؟ فقال : إنْ كنتُ حدّثتُك فقل « حدّثنا » . قيل : فأقول : « أخبرنا » ؟ قال : لا . قيل : فكيف أقول ؟ قال : قل : « عن أبي عمرو » ، أو « قال أبو عمرو » ۳ .
2الأعلامالأوزاعي، 2فالأوزاعي وهو من المتشدّدين في الالتزام بصيغ الأداء المعيّنة يؤكّد على استعمال « العنعنة » في طريقة « المناولة » ، وهي أن يعطي الشيخ لتلميذه كتابا معيّنا قد عرف صحّة نسبته وصحّة ضبطه ، وقد تُقْرَنُ بالإجازة ، فتكون من أخصّ أنواع الإجازة وأقواها ، بل لم يعتبر بعض المحدّثين الإجازة إلّا إذا كانت مقرونةً بالمناولة ۴ .
إلّا أنّ الأوزاعي ليس ممّن يُتّبع رأيُهُ في باب الحديث ؛ لكونه فقيها وليس محدّثا ۵ .
3 ـ إنّ المفهوم من ترجمة البخاري ( ت 256 ه ) في كتابه الجامع ، في كتاب العلم الباب « قول المحدّث : حدّثنا وأخبرنا وأنبأنا وقال لنا » ، وإيراده تحته استعمال العلماء لمختلف ألفاظ الأداء ، وممّا جاء فيه :
قال أبو العالية عن ابن عبّاس ، عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم فيما يروي عن ربّه ، وقال أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلميرويه عن ربّكم ۶ .
فالمفهوم من صنيع البخاري بإيراده هذه الأمثلة هو التزامه بالأداء بالعنعنة في جميع الطرق وعدم اختصاصها عنده بالإجازة ، بقرينة استعماله لكلمة « عَنْ » مع اسم النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ومع اسم الربّ جلّ وعلا ، مع أنّ البخاري إنّما التزم في صدر الباب بالتسوية بين الألفاظ ، ممّا يدلّ على تسامحه في الأداء بها من دون تفرقة بين الطرق المختلفة . وقد نقل عن ابن عيينة أنّه كان « حدّثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعتُ » عنده واحدا ۷ ، وإن كان البخاري قد اشترط في استعمال « عن » العلم باللقاء وعدم التدليس ، كما مرّ .
4 ـ وأمّا مسلم بن الحجّاج القشيري ( ت 261 ه ) فقد بحث مفصّلاً عن « الحديث المعنعن » ودافع عن الاحتجاج به بقوّة ، وردّ على المتشدّدين المانعين عن العمل به إلّا بشروط ، واعتبرهم أُناسا « سيّئي الرويّة » وجعل قولهم « مخترَعا مستحدَثا غير مسبوق ، ولا مساعدا عليه » ۸ .
وقد ذكروا أنّ المشترِط المتشدِّد الّذي عناه مسلم ، وردّ عليه ، هو البخاري وعليّ بن المديني ، وقد نقل الصنعاني إجماع الناظرين على أنّ مسلما أراد البخاري بذلك ۹ . وصرّح الذهبي بذلك فقال : إنّ مسلما لحدّةٍ في خُلُقه ، انحرف أيضا عن البخاريّ ، ولم يذكر له حديثا ، ولا سمّاه في صحيحه ، بل افتتح الكتاب بالحطّ على من اشترط اللُقيَ لمن روى عنه بصيغة « عن » ، وادّعى الإجماعَ في أنّ المعاصرة كافية ، ولا يتوقّف في ذلك على العلم بالتقائهما ، ووبّخ مَن اشترط ذلك ، وإنّما يقول ذلك أبو عبد اللّه البخاري وشيخه عليُّ بن المديني ۱۰ .

1.تاريخ بغداد : ج ۸ ص ۱۹۹ ؛ وانظر : فتح المغيث : ج ۲ ص ۱۱۸ .

2.لاحظ مجلّة علوم الحديث العدد الأوّل ، ص ۹۳ .

3.جامع بيان العلم : ج ۲ ص ۱۷۹ .

4.لاحظ قسم المناولة من « الطرق الثمان لتحمّل الحديث وأدائه » .

5.لاحظ : تنوير الحوالك : ج ۱ ص ۳ ؛ ومختصر تاريخ دمشق : ج ۱۴ ص ۳۲ .

6.صحيح البخاري : ج ۱ ص ۳۲ باب ۴ من كتاب العلم .

7.المصدر السابق : ج ۱ ص ۲۳ .

8.صحيح مسلم : ج ۱ ص ۲۳ وقد سبق نصّ كلامه .

9.توضيح الأفكار : ج ۱ ص ۴۴ .

10.سير أعلام النبلاء : ج ۱۲ ص ۵۷۳ .


العنعنة
60
  • نام منبع :
    العنعنة
    المؤلف :
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
عدد المشاهدين : 93643
الصفحه من 173
طباعه  ارسل الي