35
حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني

المطلب الثاني : الحياة الثقافية والفكرية في الريّ

امتازت الريّ عن غيرها من بلاد فارس بموقعها الجغرافي، وأهميّتها الاقتصادية، فهي كثيرة الخيرات وافرة الغلّات، عذبة الماء، نقيّة الهواء، كثيرة القرى والرساتيق، وتمتاز بنسبة عالية من السكّان، مع بعدها عن مركز الخلافة العبّاسية ببغداد ، زيادة على كونها بوّابة للشرق في حركات الفتح الإسلامي، ومتجرا مهمّا في ذلك الحين.
قال القزويني في آثار البلاد وأخبار العباد يصف الريّ : «الريّ مدينة مشهورة ، من اُمّهات البلاد، وأعلام المدن، كثيرة الخيرات، وافرة الغلّات والثمرات، قديمة البناء» ۱ .
وقال الأصطخري: «وليس بالجبال بعد الريّ أكبر من أصبهان.. والريّ مدينة ليس بعد بغداد في المشرق أعمر منها» ۲ .
وقال الأصمعي: «الريّ عروس الدنيا، وإليها متجر الناس» ۳ .
وحكى ابن الفقيه عن بعض العلماء أنّه قال: «في التوراة مكتوب: الريّ باب من أبواب الأرض، وإليها متجر الخلق» ۴ .
ولشهرة الريّ وموقعها، قصدها بعض الصحابة ۵ ، وكبار التابعين وتابعيهم، كسعيد ابن جبير التابعي الجليل، قتله الحجّاج بن يوسف (سنة / 94 ه )، وكانت له رحلة شملت مدينة الريّ ، وقد التقى به الضحّاك (ت / 105 ه ) وكتب عنه التفسير في الريّ ۶ .
ووصل الشعبي (ت / 103 ه ) إلى الريّ ليدخل على الحجّاج يوم كان عاملاً ـ لطاغية عصره عبدالملك بن مروان ـ على الريّ ۷ ، ولا عجب من نديم عبدالملك وسميره وسفيره إلى ملك الروم ـ كما صرّح بذلك سائر مترجميه ـ أن يزور مثل الحجّاج.
كما دخل الريّ سفيان الثوري (ت / 161 ه ) ۸ .
كما حظيت الريّ برعاية ملوك بني العبّاس، وقد مرّ في حياتها السياسية مكوث المهدي العبّاسي بها، وأمره ببنائها وتسميتها بالمحمدية ، وأنّه ولد له فيها ابنه هارون الذي أرضعته نساء الوجوه من الرازيين.
وقد مات في الريّ الكثير من الأعلام والفقهاء والمحدّثين والاُدباء والشعراء والقوّاد، نذكر منهم ـ على سبيل المثال ـ محمّد بن الحسن الشيباني صاحب أبي يوسف القاضي، حيث مات بالريّ (سنة / 189 ه ) ۹ وكذلك الكسائي النحوي (ت / 189 ه )، والحجّاج بن أرطاة، وغيرهم ممّن سيأتي ذكرهم في الحديث عن المذاهب والفِرَق الفكرية التي شهدتها مدينة الريّ.
وكان للشعراء والاُدباء حضور بارز في تلك المدينة أيضا، حيث قدِمها بعضهم بصحبة المهدي العبّاسي، كالشرقي بن قطامي المتوفّى بحدود (سنة / 155 ه ) ۱۰ ، والمؤمّل ابن أميل الذي صيّر المنصور من يحمله من الريّ إلى بغداد، كي يستردّ منه ما أعطاه ولده المهدي على قصيدة امتدحه بها في الريّ ۱۱ .
وقد تردّد ذكر الريّ بمختلف الأغراض الشعرية، من مدح وذم، وحنين إلى الوطن، وشوق إلى الأحبّة، مع العتاب والهزل إلى غير ذلك من الأغراض الاُخرى.
فمن ذلك ما قاله معن بن زائدة الشيباني وهو في نيسابور مشتاقا إلى الريّ :
تمطى بنيسابور ليلي وربّمايُرى بجنوب الريّو هو قصيرُ۱۲
وأنشد عون بن محلم الشيباني:
وأرقني بالريّ نوح حمامةفنحت وذوالشجوالقديم ينوح۱۳
ولعبدالصمد بن فضل الرقاشي أبيات يعاتب فيها عامل الريّ خالد بن ديسم، ويحثّه فيها على استنجاز ما وعده من عطاء، يقول فيها:
أخالد أن الريّ قد أجحفت بناوضاق علينا رحبها ومعاشها
وقد أطمعتنا منك يوما سحابةٌأضاءت لنا برقا وأبطا رشاؤها
فلا غيمها يصحو فييئس طامعولاماؤها يأتي فيروي عطاشها۱۴
وقال آدم بن عمر بعدما قدم الريّ وضاق صدره شوقا إلى وطنه في قصيدة مطلعها:
هل تعرف الإطلال من مريمبين سواسٍ فلوى برثم
إلى أن يقول فيها:
مالي وللريّ وأكنافهايا قوم بين الترك والديلم
أرض بها الأعجم ذو منطقٍوالمرء ذو المنطق كالأعجم۱۵
ومن طرائف ما قيل في الريّ شعرا، ما أورده الفقيه ابن إدريس الحلّي من أبيات في البراغيث في كتابه السرائر ، ونسبها للجاحظ.
هنيئا لأهل الريّ طيب بلادهموأنّ أمير الريّ يحيى بن خالدِ
بلاد إذا جنّ الظلام تقافزتبراغيثها من بين مثنى وواحدِ
ديازجة سود الجلود كأنّهابغالُ بريدٍ أُرسلت من مذوادِ۱۶
ونظير هذا ما قاله في العقد الفريد من أنّ أعرابيا دخل على المساور بن هند وهو على الريّ ، فلم يعطه شيئا، فخرج وهو يقول:
أتيت المساور في حاجةفما زال يسعلُ حتى ضرط
وحكّ قفاه بكرسوعهومسح عثنونه وامتخط
فأمسكت عن حاجتي خيفةًلاُخرى تقطع شرج السفط
فأقسم لو عدت في حاجتيللطخ بالسلح وجه النمط
وقال غلطنا حساب الخراجفقلت من الضرط جاء الغلط
وكان كلّما ركب صاح به صبيان أهل الريّ : من الضرط جاء الغلط، حتى هرب من الريّ من غير عزل إلى بلاد أصبهان ۱۷ .
ومن قديم الشعر الإسلامي الذي قاله المسلمون وهم في الريّ ، ما قاله كعب بن عبدة النهدي وهو من أشراف الكوفة ، وكان قد كتب مع بعض وجوه أهل الكوفة وفيهم مالك الأشتر، وحجر بن عدي وغيرهما كتابا إلى عثمان بن عفّان يذكرون فيه سوء ما فعله واليه على الكوفة سعيد بن العاص، ولم يسمّ أحد من أشراف الكوفة نفسه في الكتاب إلّا كعب بن عبدة، فلمّا وصل الكتاب إلى عثمان أمر سعيد بن العاص أن يضرب كعبا عشرين سوطا وينفيه إلى الريّ!! ففعل سعيد ذلك، فقال كعب وهو في الريّ هذه الأبيات:
أترجو اعتذاري يا ابن أروى ورجعتيعن الحقّ قدما غال حلمك غولُ
وأنّ دعائي كلّ يوم وليلةٍعليك لما أسديته لطويل
وأنّ اغترابي في البلاد وجفوتيوشتمي في ذات الإله قليلُ۱۸
هذا وقد تمثّل الإمام الصادق عليه السلام ذات يوم ببيت شعر لابن أبي عقب:
وينحر بالزوراء منهم لدى الضحىثمانون ألفا مثلما تنحر البُدُنُ
والمراد بالزوراء ليس بغداد كما ظنّ راوي الخبر، وإنّما الريّ كما وضّح ذلك الإمام الصادق عليه السلام ۱۹ .

1.. آثار البلاد وأخبار العباد : ص ۳۷۵، معجم البلدان : ج ۳ ص ۱۱۶ (الريّ).

2.. معجم البلدان : ج ۳ ص ۱۱۷.

3.. المصدر السابق : ج ۳ ص ۱۱۸.

4.. المصدر السابق : ج ۳ ص ۱۱۸.

5.. فتوح البلدان : ص ۳۱۱.

6.. المصدر السابق : ص ۳۱۲.

7.. مصنّف ابن أبي شيبة : ج ۷ ص ۲۴۷ الرقم ۲ من كتاب الاُمراء، فتوح البلدان : ص ۳۱۲ .

8.. الجرح والتعديل : ج ۱ ص ۱۰۳ ، في ترجمة سفيان الثوري.

9.. تاريخ بغداد : ج ۲ ص ۱۷۲ ـ ۱۸۲، وفيات الأعيان : ج ۱ ص ۴۵۳ ـ ۴۵۴.

10.. مروج الذهب : ج ۳ ص ۳۲۹.

11.. تاريخ الطبري : ج ۸ ص ۷۴ ـ ۷۵.

12.. معجم البلدان : ج ۳ ص ۱۲۰.

13.. التذكرة الحمدونية : ج ۸ ص ۱۲۵ الرقم ۳۳۵، معجم البلدان : ج ۳ ص ۱۱۹ ـ ۱۲۰.

14.. العقد الفريد : ج ۱ ص ۱۳۵ في استنجاز المواعيد.

15.. تاج العروس : ج ۸ ص ۱۹۹ (برثم).

16.. السرائر : ج ۲ ص ۱۸۱ والصحيح ـ كما في كتاب الحيوان للجاحظ : ج ۳ ص ۲۰۹ الرقم ۱۵۱۳ ـ أنّها قيلت في البراغيث ببغداد لا في الريّ ، وهي للشاعر الأموي آدم بن عبدالعزيز، وقد أوردها الخطيب البغدادي في ترجمته في تاريخ بغداد : ج ۷ ص ۲۸ الرقم ۳۴۹۱، وابن عساكر في تاريخ دمشق : ج ۷ ص ۴۶۰ الرقم ۵۷۹ في ترجمته أيضا، وذكرها الحموي في معجم البلدان : ج ۱ ص ۴۶۶ في حديثه عن بغداد، ونسب الأبيات لبعض الأعراب. والأبيات في هذه المصادر هكذا: هنيئا لأهل الريّ طيب بلادهموواليهم الفضل يحيى بن خالدِ تطاول في بغداد ليلي ومن يبتببغداد يلبث ليله غير راقدِ بلاد إذا زال النهار تقافزتبراغيثها من بين مثنى وواحدِ ديازجة شهب البطون كأنّهابغال بريد سرح في مواردِ

17.. العقد الفريد : ج ۴ ص ۱۶۵ ـ ۱۶۶ (قولهم في الذم).

18.. تاريخ المدينة : ج ۳ ص ۱۱۴۳، والمراد بابن أروى، عثمان بن عفّان.

19.. روضة الكافي : ج ۸ ص ۱۵۵ ح ۱۹۸.


حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
34
  • نام منبع :
    حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
    المؤلف :
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
عدد المشاهدين : 308860
الصفحه من 532
طباعه  ارسل الي