41
حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني

حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
40

1 ـ الخوارج:

كان الطابع العام لمجتمع الريّ بعد فتحها الإسلامي، هو الدخول التدريجي في الدين الجديد بمعناه الإسلامي العريض؛ إذ لم تكن هناك مذاهب وفرَق، وإنّما انحصر الأمر في مسألة اعتناق الإسلام بإعلان الشهادتين، ولا يمنع هذا من اكميل إلى بعض الاتّجاهات الفكرية المتطرّفة التي نشأت في ذلك العهد من عمر الإسلام في بلاد الريّ.
ولا غرابة في ذلك؛ لأنّ قرب العهد بالدين الجديد مع اختلاط أوراقه بين نظريتين، جعل إسلام الرازيين ـ في ذلك الحين ـ غضّا طريا قابلاً لأن يتأثّر بأيّ اتجاه ويصطبغ بلونه، ومن هنا كانت لبقيّة الخوارج الذين ارتثوا في معركة النهروان (سنة / 40 ه ) صوت يسمع في بلاد الريّ ، حيث اتّخذوها موطنا، ومنها خرجت أنصارهم في معاركهم العديدة مع الأمويين، كما مرّ في الحياة السياسية.
ولابدّ وأن يكون للخوارج دور في إشاعة مقولتهم في التحكيم بين صفوف الرازيين.

2 ـ النواصب:

انتقل النصب ـ وهو عداوة أهل البيت عليهم السلام ـ إلى الريّ منذ إن وطأت أقدام الأمويين السلطة بعد صلح الإمام الحسن السبط عليه السلام (سنة / 41 ه )، حيث سنّ معاوية بدعته في سبّ أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه على جميع منابر المسلمين، وكان منبر الريّ واحدا منها!
ويؤيّده ما قاله ابن الأثير من أنّ كثير بن شهاب والي الريّ لمعاوية: «كان يكثر سبّ عليٍّ على منبر الريّ ، وبقي عليها إلى أن ولي زياد الكوفة، فأقرّه عليها» ۱ .
وفي فتوح البلدان أنّ كثيرا هذا «كان عثمانيّا يقع في علي بن أبي طالب عليه السلام ويثبط الناس عن الحسين عليه السلام ومات قبيل خروج المختار بن أبي عبيد أو في أوّل أيّامه، وفيه يقول المختار بن أبي عبيد.. لأنبشن قبر كثير بن شهاب المفتري الكذّاب. وكان معاوية ولّاه الريّ ودستبى حينا من قبله ومن قبل زياد والمغيرة بن شعبة عامليه، وكان يزيد بن معاوية قد حمد مشايعته واتّباعه لهواه، فكتب إلى عبيداللّه بن زياد في توليته ماسبذان ومهرجانقذف وحلوان والماهين، وأقطعه ضياعا بالجبل» ۲ .
ولا شكّ في أنّ بقاء بدعة سبّ الوصي عليه السلام زهاء ستين عاما إلى أن رفعها ـ من على المنابر فقط ـ عمر بن عبدالعزيز الأموي ۳ كافية لأنّ تنشأ عليها أجيال لا تعرف من إسلامها شيئا إلّا من عصم اللّه .
ومن هنا كان يقول إمامنا الصادق عليه السلام في أهل الريّ في ذلك الحين فيما رواه الأعمش: «هم أعداء اللّه ، وأعداء رسوله، وأعداء أهل بيته، يرون حرب أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله جهادا، ومالهم مغنما، فلهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا والآخرة ولهم عذاب مقيم» ۴ .
وممّا يدلّ على تفشّي النصب ما جاء في أخبار الدولة العبّاسية من أنّ أبا مسلم الخراساني كان إذا قدم الريّ في فترة دعوته لبني العبّاس نزل على رجل من الشيعة الرازيين يقال له عمر بن المختار الثقفي ، وكان هذا الرجل الشيعي يكتم تشيّعه ولا يطلع أحدا على رأيه، وكان بزّازا لصاحب حانوت، وكان صاحب الحانوت سريا يجتمع إليه الناس من أهل الريّ فيتحدّثون عنده. وذات يوم نزل بهم أبو مسلم وكان فيهم ناس من المرجئة من أهل العراق وأهل الريّ فذكروا عليّا عليه السلام بقتل الناس وسفك الدماء، فلمّا سمع أبو مسلم ذلك منهم غضب وردّ عليهم بقوّة، فثاروا عليه ليضربوه، فخلّصه عمر المختار منهم وأدخله حانوته وأغلق عليه بابه.
فلمّا ظهر أبو مسلم بعد هذا حفظ هذا الموقف إلى عمر فولّاه الريّ ستّة أشهر ثمّ عزله وأقدمه عليه ۵ .
وقد ذكر ابن الأثير في حوادث (سنة / 131 ه ) ما يشير إلى تفشّي النصب في بلاد الريّ، قال: «ولمّا استقرّ أمر بني العبّاس بالريّ، هرب أكثر أهلها لميلهم إلى بني اُمية، لأنّهم كانوا سفيانية، فأمر أبو مسلم بأخذ أملاكهم وأموالهم، ولمّا عادوا من الحجّ أقاموا بالكوفة سنة إثنتين وثلاثين ومائة، ثمّ كتبوا إلى السفّاح يتظلّمون من أبي مسلم، فأمر بردّ أملاكهم، فأعاد أبو مسلم الجواب يُعرِّف حالهم وأنّهم أشدّ الأعداء، فلم يسمع قوله، وعزم على أبي مسلم بردّ أملاكهم، ففعل» ۶ .
وهكذا بقيت الريّ بلدا آمنا للأمويين حتى بعد وصول بني العبّاس للسلطة (سنة/132 ه )، ويشهد على ذلك ما قاله ابن عَدِي في الكامل في ضعفاء الرجال في ترجمة ابن المبارك (ت / 181 ه )، قال: «لمّا قدم ابن المبارك الريّ ، دسّ له أهل الريّ صبيّا، فقام، فقال: يا أبا عبدالرحمن! ما تقول فيمن يقول: قتل علي بن أبي طالب المؤمنين؟
فقال ابن المبارك: ما أدري ما أقول في هذا!! ما أدري ما أقول في هذا!! قتل طلحة والزبير المؤمنين. ما أدري يا أهل الريّ أصغاركم شرّ أم كباركم؟» ۷ .
فانظر كيف طبع اللّه على قلب السائل والمسؤول ! في عَدِّ من قُتِل بسيف ذي الفقار من المؤمنين!
ويبدو أنّ النَّصب في الريّ وصل إلى زمان ثقة الإسلام الكليني رحمه اللّه تعالى، ويدلّ عليه ما حصل في زمان الدولة العلوية في طبرستان التي نشأت في زمان المستعين العبّاسي (248 ـ 252 ه )، من وقوع أحد الأمويين في قبضة محمّد بن زيد الداعي العلوي في طبرستان، فخاف الأموي القتل، فعفا عنه محمّد بن زيد، وخيّره بالمسير إلى المكان الذي يجد فيه مأمنه، فلم يختر الرجل الأموي مكانا سوى الريّ ۸ .
ومن طريف ما يروى عن محمّد بن زيد هذا الذي دخل الريّ ، أنّه تقدّم إليه يوما خصمان اسم أحدهما معاوية، واسم الآخر علي، فقال محمّد بن زيد: إنّ الحُكمَ بينكما ظاهر.
فقال معاوية: أيّها الأمير لا تغتر بأسمائنا ، فإنّ أبي كان من كبار الشيعة، وإنّما سمّاني معاوية مداراةً لمن ببلدنا من النواصب، وهذا أبوه كان من كبار النواصب فسمّاه عليّا تقاة لكم، فتبسّم محمّد بن زيد وأحسن إليهما ۹ .
فانظر كيف اقترن النصب باسم معاوية.
ونتيجةً لوجود الهوى الأموي السفياني بين أهل الريّ ، فقد انتشرت في أوساطهم عقيدة الإرجاء واستمرّ وجودها إلى زمان ثقة الإسلام الكليني، تلك العقيدة الخبيثة التي شجّعتها الأموية لتكون غطاءً شرعيّا لعبثها في السلطة، ومبرّرا لاستهتارها بمقدّرات الاُمّة، واستباحتها لكلّ حرمة، ونبذها كتاب اللّه والسنّة المطهّرة.
ويدلّ على وجود تلك العقيدة الفاسدة في الريّ ما قاله عبداللّه بن محمّد الجمال الزوزني الرازي لعلي بن موسى بن نوبا القمّي ساكن الريّ لما بلغا نيسابور في رسالة من سلطان الريّ إلى نصر بن أحمد الساماني (ت / 331 ه ) ببخارا، قال: هل لك في زيارة قبر الرضا عليه السلام بطوس؟
فأجاب ابن نوبا برواية ابن النّجار قائلاً: «يتحدّث أهل الريّ أنّي خرجت من عندهم مرجئا وأرجع إليهم رافضيا» ۱۰
، وفي رواية الشيخ الصدوق: «خرجت من الريّ مرجئا، لا أرجع إليهم رافضيا» ۱۱ .

1.. الكامل في التاريخ : ج ۳ ص ۲۷۸ في حوادث (سنة / ۴۱ ه ) تحت عنوان (ذكر استعمال المغيرة بن شعبة على الكوفة) وقد مرّ في الحياة السياسية للريّ أنّ كثيرا هذا كان لعنه اللّه واليا على الريّ لعمر بن الخطّاب .

2.. فتوح البلدان : ج ۲ ص ۳۷۸.

3.. راجع : تاريخ الخلفاء : ص ۱۹۵ في ترجمة عمر بن عبدالعزيز.

4.. الخصال : ص ۵۰۶ ـ ۵۰۷ ح ۴، أبواب الستّة عشر، وعنه الحرّ العاملي في الفصول المهمّة في اُصول الأئمّة عليهم السلام : ج ۳ ص ۲۶۱، والعلّامة المجلسي في بحار الأنوار : ج ۵ ص ۲۷۹ ح ۸ .

5.. أخبار الدولة العبّاسية : ص ۲۶۲ ـ ۲۶۳.

6.. الكامل في التاريخ : ج ۵ ص ۵۵ تحت عنوان (ذكر دخول قحطبة الريّ).

7.. الكامل في ضعفاء الرجال : ج ۱ ص ۱۰۵.

8.. التذكرة الحمدونية : ج ۲ ص ۲۱۱ ـ ۲۱۳ الرقم ۵۱۳.

9.. راجع : البداية والنهاية : ج ۱۱ ص ۹۵ في حوادث (سنة / ۲۸۷ه )، وفيه : إنّ محمّد بن زيد العلوي أمير طبرستان والديلم كان فاضلاً، ديِّنا، حسن السيرة فيما وليه من تلك البلاد، ثمّ أورد الخبر.

10.. ذيل تاريخ بغداد : ج ۱۹ ص ۱۴۰ الرقم ۹۶۹ في ترجمة الإمام الرضا عليه السلام .

11.. عيون أخبار الرضا عليه السلام : ج ۱ ص ۳۱۴ ح ۶ باب ۶۹.

  • نام منبع :
    حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
    المؤلف :
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
عدد المشاهدين : 308958
الصفحه من 532
طباعه  ارسل الي