المطلب الثاني : الحياة الثقافية والفكرية ببغداد
أوّلاً ـ مركزية بغداد وشهرتها العلمية:
استمرّت الحياة الثقافية والفكرية في عصر الكليني ببغداد بعطائها الثر ونشاطها المبدع، واتّساع حركتها أكثر بكثير ممّا كانت عليه في العصر العبّاسي الأوّل، بما يمكن القول إنّ الحياة السياسية وإن فرّقت بين عصري الدولة العبّاسية بلحاظ قوّتها في الأوّل، واضمحلالها في الثاني، إلّا أنّ الحياة الثقافية والفكرية قد جعلت من العصرين عصرا واحدا، لعدم وجود تلك الفوارق الكبيرة بينهما على الصعيد الفكري من هذه الجهة، سوى نموّ الحركة الفكرية وانطلاقها بخطوات واسعة إلى الأمام أكثر من ذي قبل، بحيث لم تؤثر تلك التحوّلات السياسية الكبرى في هذا العصر ـ كعزل (الخلفاء) وسمل عيونهم، وقطع رؤوسهم، أو جعلهم كالأسير بيد حرسه، أو الطائر في قفصه ونحو ذلك ممّا تقدّم ـ على نموّ الفكر الإسلامي بمعناه العريض الواسع واطراده ببغداد.
وقد ساعد على ذلك ما امتازت به بغداد على غيرها من الحواضر العلمية، بتوفّر عوامل النهضة الثقافية والفكرية فيها أكثر من غيرها بكثير.
فهي من جهة عاصمة لأكبر دولة في عصر الكليني، امتدّت حدودها من الصين شرقا إلى مراكش غربا، ومن جهة اُخرى تمثّل: (دار الخلافة) وبيت الوزارة، والإمارة، ومعسكر الجند، ورئاسة القضاء، وديوان الكتابة، وفيها بيت المال، وإليها يجبى الخراج.
وأمّا موقعها الجغرافي فليس له نظير، ويكفي أنّ أكبر الأقاليم الإسلامية وأهمّها يوم ذلك أربعة: بلاد فارس، والحجاز، ومصر، والشام ، وهي أشبه ما تكون بنقاط متناسبة البعد موزّعة على محيط دائرة إسلامية مركزها بغداد، هذا فضلاً عن موقعها على ضفّتي دجلة، وقرب الفرات من ضواحيها الأمر الذي زاد من خصوبة أرضها، وعذوبة مائها، وصفاء هوائها، وكثرة خيراتها، كلّ ذلك مع جودة بنائها وكثرة جوامعها وأسواقها وحوانيتها وجسورها وقناطرها وجريان الماء في أزقّتها من المحول والصراتين ونهر عيسى وغيرها.
ومن جهة اُخرى، فقد ضمّت بغداد قبري الإمامين موسى بن جعفر الكاظم، ومحمّد بن علي الجواد عليهم السلام ، ومن ثمَّ فهي موطن السفراء الأربعة رضوان اللّه تعالى عليهم، ولا زالت قبورهم الشريفة قائمة في بغداد.
ومن هنا صارت بغداد مهبطا روحيا للشيعة، وعامل جذب للعلماء من كلّ مذهب، إذ لا تكاد تجد فقيها، أو مفسّرا، أو محدّثا، أو أديبا من سائر المسلمين إلّا وقد قصد زيارة بغداد وشدّ ركابه إليها من شتّى مراكز الإشعاع الفكري الموزّعة على أمصار الدولة وأقاليمها في عصر ثقة الإسلام.
وهكذا غطّت بغداد بشهرتها على جميع الحواضر العلمية ـ في ذلك الوقت ـ بلا استثناء.