85
حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني

حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
84

ثانيا ـ أوجه النشاط الثقافي والفكري والمذهبي ببغداد:

الملاحظ في ذلك العصر هو اجتماع جميع المذاهب والفرق الإسلامية ببغداد، من الشيعة الإمامية، والزيدية، والواقفة، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، والظاهرية، والطبرية، والمعتزلة، مع بروز عدد كبير من فقهاء كلّ مذهب، حتى تألّق الفقة الإسلامي، ـ بمعناه العريض الواسع ـ تألّقا كبيرا في هذا العصر «حيث بلغ ذروته في الدقّة، وقمّته في الاتّساع، وأصبحت له مناهج واضحة، وطرائق مرسومة محدودة، فوصل إلى درجة النضج والكمال» ۱ .
وممّن برز في هذا العصر جملة من أعلام وفقهاء سائر المذاهب الإسلامية.
فمن المذهب المالكي: إسماعيل بن إسحاق القاضي (ت / 282 ه )، وأبو الفرج عمر بن محمّد المالكي (ت / 331 ه ).
ومن الأحناف: عبدالحميد بن عبدالعزيز (ت / 292 ه )، وأحمد بن محمّد بن سلمة، أبو جعفر الطحاوي (ت / 322 ه )، وأبو الحسن عبيداللّه بن الحسن الكرخي (ت / 340 ه ).
ومن الشافعية: أبو بكر محمّد بن عبداللّه الصيرفي (ت / 330 ه )، ومحمّد بن أحمد ابن إبراهيم بن يوسف بن أحمد الشافعي المولود (سنة / 281 ه )، وهو من كبار تلاميذ ثقة الإسلام الكليني، وثقاتهم المشهورين كما سيأتي في تلامذة الكليني رحمه الله.
ومن الحنابلة الحشوية والمجسّمة: ابن الحربي (ت / 285 ه )، وعبداللّه بن أحمد بن حنبل (ت / 290 ه )، والبربهاري المعروف بشغبه على الشيعة في زمان ثقة الإسلام الكليني خصوصا في عهد المقتدر العبّاسي.
ومن الظاهرية: محمّد بن علي بن داوود ، إمام أهل الظاهر في عصره (ت / 297 ه )، وابن المغلّس أبو الحسن عبداللّه بن أحمد بن محمّد (ت / 324 ه ).
ومن الطبرية: مؤسّس المذهب الطبري محمّد بن جرير المفسّر (ت / 310 ه ) الذي اشتغل بمذهب خاص له ولم يقلّد أحدا، وقد ذكر ابن النديم بعض تلامذته الذين روّجوا لمذهبه ۲ إلّا أنّ أتباعه انقرضوا بعد القرن الرابع الهجري، ولم يكتب لمذهبهم البقاء.
ومن الشيعة الزيدية: عبدالعزيز بن إسحاق، أبو القاسم الزيدي المعروف بابن البقال، وكان من متكلّمي المذهب الزيدي، ولد (سنة / 272 ه ) ومات (سنة / 363 ه ) ۳ .
ومن الواقفة: محمّد بن الحسن بن شمون، أبو جعفر البغدادي، وكان من غلاة الواقفة، وفضل بن يونس الكاتب البغدادي الواقفي.
ومن المعتزلة: الجبائي المعتزلي، ولد ومات ببغداد (سنة / 321 ه )، وكان رأسا في الاعتزال، وله فيه مصنّفات كثيرة، وعنه أخذ الكلام إمام الأشاعرة أبو الحسن الأشعري (ت / 324 ه )، وكان الجبائي زوج اُمّ أبي الحسن الأشعري.
وأمّا الحديث عن فقهاء وعلماء الشيعة الإمامية ببغداد فسيأتي في مكان لاحق.
كما ازدهرت علوم اللغة العربية، وبرز عدد كبير من النحاة، والاُدباء، والكتّاب، والشعراء من البغداديين أو الذين وصلوا إليها وأملوا علومهم على تلامذتها.
من أمثال المبرّد (ت / 285 ه )، وثعلب (ت / 291 ه )، والزجاج (ت / 311 ه )، وابن السرّاج (ت / 316 ه )، وابن دريد (ت / 321 ه )، ونفطويه (ت / 323 ه )، وعبدالرحمن بن عيسى الهمداني (ت / 327 ه )، وأبو بكر محمّد بن القاسم الأنباري (ت / 328 ه )، وابن درستويه (ت / 330 ه )، وقدامة بن جعفر البغدادي (ت / 337 ه )، وأبو علي القالي (ت / 356 ه )، والسيرافي الحسن بن عبداللّه المعتزلي النحوي شارح كتاب سيبويه، توفّي ببغداد (سنة / 368 ه ).
ومن الشعراء: البحتري وابن الرومي، ماتا بسنة واحدة وهي (سنة / 283 ه ) وغيرهم، ممّن لا حصر لهم، ولا تنضبط كثرتهم ببغداد في عدد، وقد طرقوا أبواب الشعر جميعها في مجالسهم الشعرية ببغداد، وكثيرا ما أنشدوا القصيد على ضفاف دجلتها، وطالما اشتدّ شوق النازحين عنها إليها، روى التنوخي (ت / 384 ه ) عن أبي سعد محمّد بن علي بن محمّد بن خلف الهمداني، وهو من معاصري ثقة الإسلام الكليني، قوله مشتاقا إلى بغداد:
فدى لك يا بغداد كلّ قبيلةمن الأرض حتى خطتي ودياريا
فقد طفت في شرق البلاد وغربهاوسيّرت رحلي بينها وركابيا
فلم أر فيها مثل بغداد منزلاًولم أر فيها مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرقّ شمائلاًوأعذب ألفاظا وأحلى معانيا۴
وفي كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني الذي عاش ومات ببغداد (سنة / 356 ه )، وكذلك في معجم الاُدباء لياقوت الحموي المزيد لمن أراد الاطّلاع.
كما شهد النثر نقلة جديدة في تاريخه في هذا العصر ببغداد، وهو ما يعرف في الدراسات الأدبية المعاصرة بالنثر الفني، قال الدكتور زكي مبارك يصف هذا العصر من تلك الجهة، هو «أوّل عصر في اللغة العربية أراد فيه الكتاب أن يستبدوا بمعاني الشعراء وألفاظهم وتعابيرهم، وأن يروِّضوا القلم الطليق على التحليق في جميع الأجواء» ۵ .
ومن خصائص هذا العصر ذات الارتباط الوثيق بالحركة الثقافية والفكرية ببغداد، هو التطوّر الكبير الذي شهده الخطّ العربي، إذ كانت الكتابة قبل هذا العصر بالخطّ الكوفي، وهو خطّ جميل، لكنّه معقّد، صعب، يكتنفه الغموض، وأمّا في هذا العصر فقد استُبدِل بخطّ النسخ الرشيق السهل الواضح، ويرجع الفضل في هذا إلى معاصر ثقة الإسلام الكليني ابن مقلة البغدادي (ت / 328 ه ) الذي اشتهر بحسن الكتابة وجودة الخطّ، حتى ضرب المثل بجودة خطّه.
فمن ذلك ما قاله الشيخ الطوسي (ت / 460 ه ) في قبح تقديم المفضول على الفاضل:
«ألا ترى أنّه يقبح من ملك حكيم أن يجعل رئيسا في الخطّ على مثل ابن مقلة؟» ۶ .
وقد ساعد اكتشاف ابن مقلة لهذا الخطّ على سرعة الكتابة والاستنساخ، كما نشط المؤلّفون في هذا العصر لا في الحديث الشريف وعلومه، أو في علوم اللغة العربية وآدابها من نحو وبلاغة وشعر ونشر فحسب، بل صنّفوا أيضا في التفسير كالطبري (ت / 310 ه )، وابن المنذر (ت / 318 ه )، وبقي بن مخلد (ت / 324 ه )، وعبدالعزيز بن يحيى الجلودي الإمامي، وهو من كبار علماء الشيعة المفسّرين في عصره، مات (سنة / 330 أو 335 أو 336 ه ).
كما طرقوا علوما اُخرى كثيرة كالتاريخ، والجغرافية، والطبّ ، والهندسة، والرياضيّات، والفلك، والفلسفة، وفي فهرست ابن النديم شواهد كثيرة على التأليف في جميع تلك العلوم.
ومن معالم النشاط الثقافي في هذا العصر ببغداد الاندفاع نحو ترجمة الكتب النفيسة من اللغات الاُخرى كالسريانية، واليونانية، والفارسية إلى اللغة العربية، وقد ظهر في عصر الكليني مترجمون أكفّاء ترجموا الكثير من الأعلاق الأجنبية النفيسة، منهم على سبيل المثال إسحاق بن حنين (ت / 298 ه )، وقسطا بن لوقا (ت / 300 ه )، وثابت بن سنان (ت / 311 ه ) وغيرهم، وقد فصل ابن النديم ما قاموا به من نشاط واسع في هذا المجال.
ونتيجة منطقية لهذه الحركة الواسعة من التأليف والترجمة طفحت حوانيت الورّاقين بالكتب، وما أكثر الورّاقين ببغداد في ذلك العصر، حتى كانت لهم سوق ببغداد تعرف بسوق الكتب، قال أبو محمّد الحسن النوبختي الشيعي الإمامي الجليل، وهو يصف تلك السوق: «وهي عامرة، والدكاكين مملوءة بالكتب» ۷ .
هذا وقد بلغ شغف العلماء بالكتب في عصر الكليني درجة تفوق الوصف، بحيث أنّ قسما منها كان يكتب بماء الذهب، ومنها ما يبطن بالديباج والحرير، ومنها ما يجلّد بالأدَم الجيّد ۸ وكانت مكتبة سابور بن أردشير الشيعي الإمامي وزير بهاء الدولة البويهي التي أنشأها بالكرخ من بغداد (سنة / 381 ه ) تضمّ الآلاف من تلك الكتب القيّمة، قال ياقوت الحموي: «ولم يكن في الدنيا أحسن كتبا منها، كانت كلّها بخطوط الأئمّة المعتبرة واُصولهم المحرّرة، واحترقت فيما اُحرق من محال الكرخ عند ورود طغرل بك أوّل ملوك السلجوقية إلى بغداد (سنة / 447 ه ) » ۹ .
وهكذا جنت الطائفية البغيضة على حضارة الأمّة، فأحرقت بهمجيّتها تراثها العتيد الذي شيّدته العقول الشيعية ببغداد ۱۰ .

1.. أسباب اختلاف الفقهاء في الأحكام الشرعية / الدكتور مصطفى إبراهيم الزلمي: ص ۲۷.

2.. فهرست ابن النديم : ص ۳۲۶ ـ ۳۲۹.

3.. تاريخ بغداد : ج ۱۰ ص ۴۵۸ الرقم ۵۶۲۷ .

4.. تاريخ بغداد : ج ۱ ص ۷۵ .

5.. النثر الفني في القرن الرابع الهجري / الدكتور زكي مبارك : ج ۱ ص ۳۳ .

6.. الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد : ج ۱ ص ۱۹۱.

7.. تاريخ بغداد : ج ۱۱ ص ۳۹۸ الرقم ۶۲۷۸.

8.. الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري أو عصر النهضة في الإسلام / المستشرق آدم متز : ج ۱ ص ۳۲۷، ومن جميل ما قرأته في هذا الصدد ما ذكره العلّامة النوري في الفائدة الرابعة من فوائد خاتمة مستدرك الوسائل : ج ۳ ص ۵۳۴ نقلاً عن رسالة (بغية المريد في الكشف عن أحوال الشهيد) لمؤلّفها الشيخ محمّد ابن علي بن الحسن العودي تلميذ الشهيد الثاني، وقد جاء فيها: «ومن غريب ما اتّفق لي تلك الليلة ـ يقصد إحدى الليالي التي مرّت عليه في زيارته للعتبات المقدّسة في العراق ـ كأنّي في حضرة شيخنا الجليل محمّد بن يعقوب الكليني رحمه الله، وهو شيخ بهيّ جميل الوجه، عليه أُبّهة العلم، ونحو نصف لمّته بياض، ومعي جماعة من أصحابي منهم رفيقي الشيخ حسين بن عبدالصمد، فطلبنا من الشّيخ أبي جعفر الكليني نسخة الأصل لكتاب الكافي لننسخه، فدخل إلى البيت وأخرج لنا الجزء الأوّل منه في قالب نصف الورق الشامي، ففتحته، فإذا هو بخطّ حسن، معرّب، مصحّح، ورموزه مكتوبة بالذهب، فجعلنا نتعجّب من كون نسخة الأصل بهذه الصفة..».

9.. معجم البلدان : ج ۱ ص ۵۳۴ في حديثه عن محلّة (بين السورين) .

10.. كما أحرق السلاجقة الأوغاد مكتبة الشيخ الطوسي ببغداد في تلك السنة أيضا فهاجر قدس سره إلى النجف الأشرف، وبهمجيّتهم تلك فعل صلاح الدين الأيّوبي بالتراث الشيعي في مصر يوم أحرق مكتبة جامع الزهراء عليهاالسلامبمصر ، وزاد على تلك الهمجية بأن داست خيوله قداسة الجامع الشريف الذي بناه الفاطميون، ثمّ تحوّل اسم الجامع فيما بعد إلى اسم (الجامع الأزهر)!! نظير تحوّل جامع الصفوية ـ الذي بناه الصفويّون في الجانب الغربي من بغداد ـ إلى جامع الآصفية!! وهو الجامع الواقع في نهاية رأس جسر الشهداء المسمّى حالياً بـ (جسر المأمون)، وفيه القبر المنسوب إلى ثقة الإسلام الكليني رحمه الله فلاحظ .

  • نام منبع :
    حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
    المؤلف :
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
عدد المشاهدين : 305393
الصفحه من 532
طباعه  ارسل الي