89
حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني

ثالثا ـ تدخّل السلطة العبّاسية في الحياة الثقافية والفكرية:

حاولت السلطة العبّاسية منذ عصرها الأوّل التدخّل المباشر في معتقدات الناس وآرائهم، ابتداءً من زمن المنصور العبّاسي الّذي حمل الناس قهرا على كتاب الموطأ لمالك ابن أنس، وكان تأليفه بإيعاز من المنصور، وكان يقول لمالك: «واللّه لئن بقيت ! لأكتبنّ قولك كما تكتب المصاحف، ولأبعثنّ به إلى الآفاق، فلأحملنّهم عليه» ۱ ، ونادى منادي المنصور في (سنة / 148 ه ) في موسم الحجّ أن لا يفتي الناس أحدٌ إلّا مالك بن أنس ۲ .
وأراد هارون تعليق الموطّأ على الكعبة!!! وحمل الناس على ما فيه ۳ .
ووفّر هارون أسنح الفرص أمام المذهب الحنفي لينتشر ببغداد على أثر إسناد مهام سلطة القضاء العليا في الدولة إلى أبي يوسف القاضي تلميذ أبي حنيفة ، الّذي حاول نشر فقه اُستاذه بقوة السلطان وسلطان القوة ۴ .
كما تدخّل المأمون العبّاسي في مسألة القول بخلق القرآن الكريم وعاقب مخالفيه على ذلك بعد امتحان الناس بهذه المسألة، ثمّ سار خلفه المعتصم ثمّ الواثق على طريقته، حتّى أنّ الواثق قتل بيده أحمد بن نصر الخزاعي لأنّه كان يزعم قدم القرآن الكريم ويؤمن بالتشبيه، وصلب جثّته في سامراء ستّ سنين.
ولمّا جاء المتوكّل قضى على حرية الفكر ومال إلى المجسّمة والمشبّهة من الحنابلة ، فانتعشت عقائدهم الفاسدة وكثر جمعهم ببغداد وسادت كلمتهم.
قال المسعودي: «ولمّا أفضت الخلافة إلى المتوكّل أمر بترك النظر والمباحثة في الجدال، والترك لما كان عليه الناس في أيام المعتصم والواثق والمأمون، وأمر الناس بالتسليم والتقليد، وأمر شيوخ المحدّثين بالتحديث وإظهار السنّة والجماعة» ۵ .
وكتب إلى الآفاق كتابا ينهى الناس فيها عن المناظرة والجدل ۶ ، وفي مقابل هذا ضيّق الخناق على الشيعة ، وهدم قبر الإمام الحسين عليه السلام ومنعهم من زيارته كما مرّ في الحياة السياسية ببغداد، ويكفي ما ذكره الخطيب في ترجمة نصر بن علي الجهضمي من أنّه حدّث في زمان المتوكّل بحديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوم أخذ بيد الحسن والحسين عليهماالسلاموقال صلى الله عليه و آله : «من أحبّني وأحب هذين وأباهما وأُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة» فأمر المتوكّل لعنه اللّه بضربه ألف سوط، فكلّمه جعفر بن عبدالواحد، وجعل يقول له: هذا الرجل من أهل السنّة، ولم يزل به حتّى تركه.
قال الخطيب: «إنّما أمر المتوكّل بضربه؛ لأنّه ظنّه رافضيا، فلمّا علم أنّه من أهل السنّة تركه» ۷ .
وقد مرّ بنا كيف قطع المتوكّل لسان ابن السكّيت رحمه الله بعد تفضيله قنبر مولى أمير المؤمنين عليه السلام على ولدي المتوكّل، ولو فضّل نعلي قنبر على المتوكّل نفسه لكان أولى وأجمل.
ونتيجة لما فعله المتوكّل سادت أفكار السلفية، خصوصا وقد وجدوا من خلفاء بني العبّاس ما يقف إلى جانبهم بعد المتوكّل كالمقتدر باللّه العبّاسي ، الّذي صرّح علماء العامّة بسفاهته كما مرّ في الحياة السياسية.
وهكذا أرهج الحنابلة والظاهرية بغداد بشغبهم وعقائدهم الفاسدة، كاعتقادهم أنّ اللّه تعالى جسم يجلس على العرش، ويفصل عنه من كل جانب ستة أشبار بشبره، وأنّه ينزل في كل ليلة جمعة على حمار وينادي إلى الصباح: هل من تائب، هل من مستغفر، وحملوا آيات التشبيه على ظواهرها.
وقالوا أيضا: إنّ اللّه تعالى جسم له طول وعرض وعمق، وأنّه تجوز عليه المصافحة وإنّ الصالحين من المسلمين يعانقونه في الدنيا، وحكى الكعبي عن بعضهم تجويزهم لرؤيته تعالى في الدنيا، وأنّه يزورهم ويزورونه، وحكى عن داوود الظاهري (ت / 270 ه ) أنّه قال: اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك!!!، وقال أيضا: إنّ معبود المجسّمة والمشبّهة من الحنابلة والظاهرية له جسم ولحم ودم، وله جوارح وأعضاء كاليد والرجل واللسان والعينين والأُذنين، وأنّه أجوف من أعلاه إلى صدره مصمت ما سوى ذلك، وله شعر قطط، حتّى قالوا: اشتكت عيناه فعادته الملائكة، وبكى على طوفان نوح حتّى رمدت عيناه، وأنّه يفضل من العرش أربع أصابع من كل جانب، وقالوا ـ قبّحهم اللّه ـ أنّه ينزل في كل ليلة جمعة على شكل شاب أمرد حسن الوجه راكبا على حمار، حتّى أنّ بعضهم في بغداد وضع على سطح داره معلفا يضع كل ليلة جمعة فيه شعيرا وتبنا لتجويز أنْ ينزل اللّه على حماره على ذلك السطح، فيشتغل الحمار بالأكل، ويشتغل الرب بالنداء ويقول: هل من تائب؟ هل من مستغفر؟ إلى غير ذلك من خرافاتهم وسخافاتهم ۸ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
وفي زمان المقتدر هاجت فتنة الحنابلة ببغداد (سنة / 317 ه ) بسبب فهمهم السقيم لقوله تعالى: «عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا»۹ فقالت الحنابلة: معناه يقعده اللّه على عرشه، وقال غيرهم: بل هي الشفاعة ، فثاروا فيما بينهم وقُتِلَ جماعة منهم ، ۱۰ وكانوا يحرّضون المقتدر على الشيعة الإمامية بين فترة واُخرى بحجّة أنهم يجلسون في مسجد براثا لشتم الصحابة ـ يعنون معاوية وزبانيته ـ والخروج عن الطاعة، فأمر المقتدر السفيه بكبسه وقت الصلاة وأخذ من وجد فيه، فعوقبوا، وحبسوا حبسا طويلاً، وهدّم المسجد حتّى سوّي بالأرض، وعفي رسمه، ووصل بالمقبرة التي تليه، ومكث خرابا إلى (سنة / 328 ه ) حتّى أمر الأمير بجكم بإعادة بنائه في زمان الراضي ۱۱ الّذي أدّبهم أكثر من مرة لشغبهم واعتدائهم على الناس بفرض عقيدتهم عليهم بشتى أساليب الإرهاب كما هو واقع الوهّابية اليوم، وممّا خرج بحقّ أسلافهم هو توقيع الراضي الّذي أمر بقراءته على الحنابلة وهو طويل جاء فيه: إنّكم تزعمون أنّ صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين... ونحو هذا من قبائحكم ۱۲ .
وهكذا وقفت السلطة إلى جانب الحنابلة الذين لم يتبلور مذهبهم إلّا بعد (سنة / 458 ه ) على يد محمّد بن الحسين بن الحسن بن الفرّاء الحنبلي المتوفّى في تلك السنة ۱۳ حيث لم يكن إمامهم أحمد فقيها ۱۴ .
كما تدخَّل المعتمد العبّاسي في الحياة الثقافية والفكرية، حيث أمر في (سنة/279 ه ) أن لا يقعد في الطريق منجّم ولا قاص، واستحلف الورّاقين أن لا يبيعوا كتب الفلاسفة والجدل ۱۵ وسار على طريقته المعتضد باللّه أيضا ۱۶ .
وأمّا ابن المعتز الّذي ولي الخلافة (سنة/317 ه ) لمدة يوم واحد فقط ثمّ عزل وقُتِل، فقد كان موقفه من الفكر الشيعي معلنا قبل تسلّطه في ذلك اليوم، حيث كان يقول: «إنْ ولّاني اللّه لأفنينّ جميع بني أبي طالب، فبلغ ذلك ولد علي فكانوا يدعون عليه» ۱۷ .
وهكذا استجاب اللّه دعاءهم فقصف عمره.
والملاحظ في هذا التدخّل إنّ السلطة لم تنشد فيه إشاعة الفكر الإسلامي الصحيح، وإنّما كانت تتخبَّط في الغالب خبط عشواء، إذ لم تكن حكيمة في تصرّفاتها.
ومن جهة اُخرى فإنّها قضت باختيارها هذا الاتّجاه دون غيره من الاتّجاهات الكثيرة في المجتمع الإسلامي على حرّية الأفراد والجماعات في التعبير عن عقائدهم وأفكارهم، هذا فضلاً عن محاربتها الطرف المخالف بكلّ ضراوة، الأمر الذي أسهم في ظهور الثورات الشيعية الكبرى في هذا العصر، مع بروز الحركات المتطرّفة كحركة القرامطة والزنج، والزندقة والكفر والإلحاد على يد الحلّاج ۱۸ والشلمغاني ۱۹ وغيرهم في هذا العصر.

1.. سير أعلام النبلاء : ج ۸ ص ۶۱ ـ ۶۲ الرقم ۱۰.

2.. المصدر السابق : ج ۸ ص ۱۰۸ الرقم ۱۰.

3.. المصدر السابق : ج ۸ ص ۹۸ الرقم ۱۰.

4.. راجع : كتاب الإمام الصادق عليه السلام والمذاهب الأربعة / أسد حيدر : ج ۱ ص ۱۵۳ ـ ۱۷۵ بعنوان (نشوء المذاهب)، وفيه تفصيل واسع عن دور السلطة العبّاسية في نشأة المذاهب الأربعة، مع الكثير من الأدلّة المثبّتة لهذه الحقيقة تاريخيا .

5.. مروج الذهب : ج ۴ ص ۸۶ .

6.. تاريخ اليعقوبي : ج ۲ ص ۴۸۴ ـ ۴۸۵ .

7.. تاريخ بغداد : ج ۳ ص ۲۸۹ الرقم ۷۲۵۵.

8.. راجع ما كتبه السيّد جلال الدين الحسيني الأرموي المحدِّث في مقدّمة تحقيق كتاب الإيضاح للفضل بن شاذان النيسابوري : ص ۱۷ وما بعدها، ومن مصائب الإسلام الكبرى المعاصرة، وجود الخطّ الوهابي البغيض المتمسّك بتلك الخرافات والأوهام ويدعوا إليها باسم الإسلام، مع ممارسة الإرهاب في ترويجها!

9.. سورة الإسراء : ۷۹ .

10.. البداية والنهاية : ج ۱۱ ص ۱۸۴ وعلّق عليه بقوله: «وقد ثبت في صحيح البخاري أنّ المراد بذلك مقام الشفاعة العظمى»، ويُنظر: تاريخ الخلفاء : ص ۳۰۷ .

11.. تاريخ بغداد : ج ۱ ص ۱۲۴.

12.. تاريخ مختصر الدول : ص ۱۴۳.

13.. قال أبو الفداء الدمشقي في تاريخه : ج ۱ ص ۵۴۴ في حوادث (سنة / ۴۵۸ ه): «وفيها توفّي أبو علي محمّد ابن الحسين بن الحسن بن الفّراء الحنبلي، وعنه انتشر مذهب أحمد بن حنبل، وهو مصنّف كتاب الصفات، أتى فيه بكل عجيبة، وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض، وكان ابن التميمي الحنبلي يقول: لقد خرّى أبو يعلى الفرّاء على الحنابلة خريةً لا يغسلها الماء». وشهد شاهد من أهلها ... » ولهذا وصفهم أبو الفداء في تاريخه : ج ۱ ص ۴۲۳ ـ ۴۲۴ بالجهل .

14.. كما في تاريخ أبي الفداء : ج ۱ ص ۳۹۹ .

15.. تاريخ الخلفاء : ص ۲۹۴.

16.. البداية والنهاية : ج ۱۱ ص ۷۴ ، مرآة الجنان : ج ۲ ص ۱۴۳، تاريخ الخلفاء : ص ۲۹۶ .

17.. تاريخ أبي الفداء : ص ۳۸۸.

18.. الكامل في التاريخ : ج ۷ ص ۴.

19.. التنبيه والإشراف : ص ۳۴۳ ، مرآة الجنان : ج ۲ ص ۲۱۴ ، تاريخ الخلفاء : ص ۳۱۳ .


حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
88
  • نام منبع :
    حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
    المؤلف :
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
عدد المشاهدين : 305352
الصفحه من 532
طباعه  ارسل الي