7 / 27
سَدُّ الحُرِّ الطَّريقَ عَلَى الإِمامِ عليه السلام
۱۴۷۹.تاريخ الطبري عن هشام عن أبي مخنف عن أبي جناب عن عديّ بن حرملة عن عبداللّه بن سليم والمذري بن المشمعلّ الأسديّين :ثُمَّ ساروا مِنها [أي مِن شَرافِ ]فَرَسَموا ۱ صَدرَ يَومِهِم حَتَّى انتَصَفَ النَّهارُ . ثُمَّ إنَّ رَجُلاً قالَ : اللّه ُ أكبَرُ ! فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام : اللّه ُ أكبَرُ ، ما كَبَّرتَ ؟
قالَ : رَأَيتُ النَّخلَ ، فَقالَ لَهُ الأَسَدِيّانِ : إنَّ هذَا المَكانَ ما رَأَينا بِهِ نَخلَةً قَطُّ ، قالا : فَقالَ لَنَا الحُسَينُ عليه السلام : فَما تَرَيانِهِ رَأى ؟ قُلنا : نَراهُ رَأى هَوادِيَ الخَيلِ ۲ ، فَقالَ : وأنَا وَاللّه ِ أرى ذلِكَ .
فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام : أما لَنا مَلجَأٌ نَلجَأٌ إلَيهِ نَجعَلُهُ في ظُهورِنا ، ونَستَقبِلُ القَومَ مِن وَجهٍ واحِدٍ ؟ فَقُلنا لَهُ : بَلى ، هذا ذو حُسُمٍ إلى جَنبِكَ ، تَميلُ إلَيهِ عَن يَسارِكَ ، فَإِن سَبَقتَ القَومَ إلَيهِ فَهُوَ كَما تُريدُ .
قالا : فَأَخَذَ إلَيهِ ذاتَ اليَسارِ ، قالا : ومِلنا مَعَهُ ، فَما كانَ بِأَسرَعَ مِن أن طَلَعَت عَلَينا هَوادِي الخَيلِ ، فَتَبَيَّنّاها ، وعُدنا فَلَمّا رَأَونا وقَد عَدَلنا عَنِ الطَّريقِ عَدَلوا إلَينا ، كَأَنَّ أسِنَّتَهُمُ اليَعاسيبُ ۳ ، وكَأَنَّ راياتِهِم أجنِحَةُ الطَّيرِ .
قالَ : فَاستَبَقنا إلى ذي حُسُمٍ ، فَسَبَقناهُم إلَيهِ ، فَنَزَلَ الحُسَينُ عليه السلام ، فَأَمَرَ بِأَبنِيَتِهِ فَضُرِبَت ، وجاءَ القَومُ ـ وهُم ألفُ فارِسٍ ـ مَعَ الحُرِّ بنِ يَزيدَ التَّميمِيِّ اليَربوعِيِّ ، حَتّى وَقَفَ هُوَ وخَيلُهُ مُقابِلَ الحُسَينِ عليه السلام في حَرِّ الظَّهيرَةِ ، وَالحُسَينُ عليه السلام وأصحابُهُ مُعتَمّونَ مُتَقَلِّدو أسيافِهِم .
فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام لِفِتيانِهِ : اِسقُوا القَومَ وأرووهُم مِنَ الماءِ ، ورَشِّفوا الخَيلَ تَرشيفا ، فَقامَ فِتيانُهُ فَرَشَّفُوا الخَيلَ تَرشيفا ، فَقامَ فِتيَةٌ وسَقَوُا القَومَ مِنَ الماءِ حَتّى أروَوهُم ، وأقبَلوا يَملَؤونَ القِصاعَ وَالأَتوارَ ۴ وَالطِّساسَ ۵ مِنَ الماءِ ، ثُمَّ يُدنونَها مِنَ الفَرَسِ ، فَإِذا عَبَّ فيهِ ثَلاثا أو أربَعا أو خَمسا عُزِلَت عَنهُ ، وسَقَوا آخَرَ ، حَتّى سَقَوُا الخَيلَ كُلَّها .
قالَ هِشامٌ : حَدَّثَني لَقيطٌ ، عَن عَلِيِّ بنِ الطَّعّانِ المُحارِبِيِّ : كُنتُ مَعَ الحُرِّ بنِ يَزيدَ ، فَجِئتُ في آخِرِ مَن جاءَ مِن أصحابِهِ ، فَلَمّا رَأى الحُسَينُ عليه السلام ما بي وبِفَرَسي مِنَ العَطَشِ ، قالَ : أنِخِ الرّاوِيَةَ ـ وَالرّاوِيَةُ عِندِي السِّقاءُ ـ ثُمَّ قالَ : يَابنَ أخِ ، أنِخِ الجَمَلَ ، فَأَنَختُهُ ، فَقالَ : اِشرَب ، فَجَعَلتُ كُلَّما شَرِبتُ سالَ الماءُ مِنَ السِّقاءِ .
فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام : اِخنِثِ السِّقاءَ ـ أيِ اعطِفهُ ـ قالَ : فَجَعَلتُ لا أدري كَيفَ أفعَلُ ! قالَ : فَقامَ الحُسَينُ عليه السلام فَخَنَثَهُ ، فَشَرِبتُ وسَقَيتُ فَرَسي .
قالَ : وكانَ مَجيءُ الحُرِّ بنِ يَزيدَ ومَسيرُهُ إلَى الحُسَينِ عليه السلام مِنَ القادِسِيَّةِ ، وذلِكَ أنَّ عُبَيدَ اللّه ِ بنَ زِيادٍ لَمّا بَلَغَهُ إقبالُ الحُسَينِ عليه السلام بَعَثَ الحُصَينَ بنَ تَميمٍ التَّميمِيَّ ـ وكانَ عَلى شُرَطِهِ ـ فَأَمَرَهُ أن يَنزِلَ القادِسِيَّةَ ، وأن يَضَعَ المَسالِحَ فَيُنَظِّمَ ما بَينَ القُطقُطانَةِ إلى خَفّانَ ۶ ، وقَدَّمَ الحُرَّ بنَ يَزيدَ بَينَ يَدَيهِ في هذِهِ الأَلفِ مِنَ القادِسِيَّةِ ، فَيَستَقبِلُ قالَ : فَلَم يَزَل مُوافِقا حُسَينا عليه السلام حَتّى حَضَرَتِ الصَّلاةُ ؛ صَلاةَ الظُّهرِ ، فَأَمَرَ الحُسَينُ عليه السلام الحَجّاجَ بنَ مَسروقٍ الجُعفِيَّ أن يُؤَذِّنَ ، فَأَذَّنَ ، فَلَمّا حَضَرَتِ الإِقامَةُ خَرَجَ الحُسَينُ عليه السلام في إزارٍ ورِداءٍ ونَعلَينِ ، فَحَمِدَ اللّه َ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ :
أيُّهَا النّاسُ ! إنَّها مَعذِرَةٌ إلَى اللّه ِ عز و جل وإلَيكُم ؛ إنّي لَم آتِكُم حَتّى أتَتني كُتُبُكُم ، وقَدِمَت عَلَيَّ رُسُلُكُم : أنِ اقدَم عَلَينا ؛ فَإِنَّهُ لَيسَ لَنا إمامٌ ، لَعَلَّ اللّه َ يَجمَعُنا بِكَ عَلَى الهُدى . فَإِن كُنتُم عَلى ذلِكَ فَقَد جِئتُكُم ، فَإِن تُعطوني ما أطمَئِنُّ إلَيهِ مِن عُهودِكُم ومَواثيقِكُم اَقدَم مِصرَكُم ، وإن لَم تَفعَلوا وكُنتُم لِمَقدَمي كارِهينَ انصَرَفتُ عَنكُم إلَى المَكانِ الَّذي أقبَلتُ مِنهُ إلَيكُم !
قالَ : فَسَكَتوا عَنهُ وقالوا لِلمُؤَذِّنِ : أقِم ، فَأَقامَ الصَّلاةَ ، فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام لِلحُرِّ : أتُريدُ أن تُصَلِّيَ بِأَصحابِكَ ؟ قالَ : لا ، بَل تُصَلّي أنتَ ونُصَلّي بِصَلاتِكَ ، قالَ : فَصَلّى بِهِمُ الحُسَينُ عليه السلام ، ثُمَّ إنَّهُ دَخَلَ وَاجتَمَعَ إلَيهِ أصحابُهُ ، وَانصَرَفَ الحُرُّ إلى مَكانِهِ الَّذي كانَ بِهِ ، فَدَخَلَ خَيمَةً قَد ضُرِبَت لَهُ ، فَاجتَمَعَ إلَيهِ جَماعَةٌ مِن أصحابِهِ ، وعادَ أصحابُهُ إلى صَفِّهِمُ الَّذي كانوا فيهِ فَأَعادوهُ ، ثُمَّ أخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنهُم بِعِنانِ دابَّتِهِ وجَلَسَ في ظِلِّها ، فَلَمّا كانَ وَقتُ العَصرِ أمَرَ الحُسَينُ عليه السلام أن يَتَهَيَّؤوا لِلرَّحيلِ . ثُمَّ إنَّهُ خَرَجَ فَأَمَرَ مُنادِيَهُ فَنادى بِالعَصرِ ، وأقامَ فَاستَقدَمَ الحُسَينُ عليه السلام فَصَلّى بِالقَومِ ثُمَّ سَلَّمَ ، وَانصَرَفَ إلَى القَومِ بِوَجهِهِ ، فَحَمِدَ اللّه َ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ :
أمّا بَعدُ ، أيُّهَا النّاسُ ! فَإِنَّكُم إن تَتَّقوا وتَعرِفُوا الحَقَّ لِأَهلِهِ يَكُن أرضى للّه ِِ ، ونَحنُ أهلَ البَيتِ أولى بِوِلايَةِ هذَا الأَمرِ عَلَيكُم مِن هؤُلاءِ المُدَّعينَ ما لَيسَ لَهُم ، وَالسّائِرينَ فيكُم بِالجَورِ وَالعُدوانِ ، وإن أنتُم كَرِهتُمونا ، وجَهِلتُم حَقَّنا ، وكانَ رَأيُكُم غَيرَ ما أتَتني كُتُبُكُم ، وقَدِمَت بِهِ عَلَيَّ رُسُلُكُم ، اِنصَرَفتُ عَنكُم .
فَقالَ لَهُ الحُرُّ بنُ يَزيدَ : إنّا وَاللّه ِ ما نَدري ما هذِهِ الكُتُبُ الَّتي تَذكُرُ !
فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام : يا عُقبَةَ بنَ سَمعانَ ! أخرِجِ الخُرجَينِ اللَّذَينِ فيهِما كُتُبُهُم إلَيَّ . فَأَخرَجَ خُرجَينِ مَملوءَينِ صُحُفا ، فَنَشَرَها بَينَ أيديهِم .
فَقالَ الحُرُّ : فَإِنّا لَسنا مِن هؤُلاءِ الَّذينَ كَتَبوا إلَيكَ ، وقَد اُمِرنا إذا نَحنُ لَقيناكَ ألّا نُفارِقَكَ حَتّى نُقدِمَكَ عَلى عُبَيدِ اللّه ِ بنِ زِيادٍ .
فَقالَ لَهُ الحُسَينُ عليه السلام : المَوتُ أدنى إلَيكَ مِن ذلِكَ ، ثُمَّ قالَ لِأَصحابِهِ : قوموا فَاركَبوا ، فَرَكِبوا وَانتَظَروا حَتّى رَكِبَت نِساؤُهم ، فَقالَ لِأَصحابِهِ : اِنصَرِفوا بِنا . فَلَمّا ذَهَبوا لِيَنصَرِفوا حالَ القَومُ بَينَهُم وبَينَ الاِنصِرافِ .
فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام لِلحُرِّ : ثَكِلَتكَ اُمُّكَ ! ما تُريدُ ؟ قالَ : أمَا وَاللّه ِ لَو غَيرُكَ مِنَ العَرَبِ يَقولُها لي وهُوَ عَلى مِثلِ الحالِ الَّتي أنتَ عَلَيها ما تَرَكتُ ذِكرَ اُمِّهِ بِالثُّكلِ أن أقولَهُ كائِنا مَن كانَ ، ولكن وَاللّه ِ ما لي إلى ذِكرِ اُمِّكَ مِن سَبيلٍ إلّا بِأَحسَنِ ما يُقدَرُ عَلَيهِ .
فَقالَ لَهُ الحُسَينُ عليه السلام : فَما تُريدُ ؟ قالَ الحُرُّ : اُريدُ ـ وَاللّه ِ ـ أن أنطَلِقَ بِكَ إلى عُبَيدِ اللّه ِ بنِ زِيادٍ .
قالَ لَهُ الحُسَينُ عليه السلام : إذن وَاللّه ِ لا أتبَعُكَ ! فَقالَ لَهُ الحُرُّ : إذَن وَاللّه ِ لا أدَعُكَ ! فَتَرادّا القَولَ ثَلاثَ مَرّاتٍ ، ولَمّا كَثُرَ الكَلامُ بَينَهُما قالَ لَهُ الحُرُّ : إنّي لَم اُؤمَر بِقِتالِكَ ، وإنَّما اُمِرتُ ألّا اُفارِقَكَ حَتّى اُقدِمَكَ الكوفَةَ ، فَإِذا أبَيتَ فَخُذ طَريقا لا تُدخِلُكَ الكَوفَةَ ، ولا تَرُدُّكَ إلَى المَدينَةِ ، تَكونُ بَيني وبَينَكَ نَصَفا حَتّى أكتُبَ إلَى ابنِ زِيادٍ ، وتَكتُبَ أنتَ إلى يَزيدَ بنِ مُعاوِيَةَ إن أرَدتَ أن تَكتُبَ إلَيهِ ، أو إلى عُبَيدِ اللّه ِ بنِ زِيادٍ إن شِئتَ ، فَلَعَلَّ اللّه َ إلى ذاكَ أن يَأتِيَ بِأَمرٍ يَرزُقُني فيهِ العافِيَةَ مِن أن اُبتَلى بِشَيءٍ مِن أمرِكَ .
قالَ : فَخُذ هاهُنا ، فَتَياسَرَ عَن طَريقِ العُذَيبِ ۷ وَالقادِسِيَّةِ ، وبَينَهُ وبَينَ العُذَيبِ ثَمانِيَةٌ وثَلاثونَ ميلاً . ثُمَّ إنَّ الحُسَينَ عليه السلام سارَ في أصحابِهِ وَالحُرُّ يُسايِرُهُ . ۸
1.يرسُمون نحوه : أي يذهبون إليه سرعا . والرَّسيم : ضربٌ من السير سريع يؤثّر في الأرض (النهاية : ج ۲ ص ۲۲۴ «رسم») .
2.هَوادي الخيل : يعني أوائلها ، والهادي والهادية : العُنُق (النهاية : ج ۵ ص ۲۵۵ «هدا») .
3.اليَعسُوب : جريدة من النخل مستقيمة دقيقة يكشط خوصها ، والذي لم ينبت عليه خوص (القاموس المحيط : ج ۱ ص ۱۰۴ «عسب») .
4.التَّوْر : إناء يُشرب فيه (الصحاح : ج ۲ ص ۶۰۲ «تور») .
5.طَسّ : لغة في الطَّست ، والجمع طساس (لسان العرب : ج ۶ ص ۱۲۲ «طسس») .
6.خَفّان : موضع قرب الكوفة (معجم البلدان : ج ۲ ص ۳۷۹) وراجع: الخريطة رقم ۴ في آخر المجلّد ۴ .
7.العُذَيْبُ : هو ماء بين القادسيّة والمُغِيثة ، وبينه وبين القادسيّة أربعة أميال (معجم البلدان : ج ۴ ص ۹۲) وراجع : الخريطة رقم ۴ في آخر المجلّد ۴ .
8.تاريخ الطبري : ج ۵ ص ۴۰۰ ، أنساب الأشراف : ج ۳ ص ۳۸۰ ، تجارب الاُمم : ج ۲ ص ۶۱ ، الكامل في التاريخ : ج ۲ ص ۵۵۱ ، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : ج ۱ ص ۲۲۹ ؛ الإرشاد : ج ۲ ص ۷۷ ، إعلام الورى : ج ۱ ص ۴۴۸ وفي الأربعة الأخيرة «الحصين بن نمير التميمي» وكلّها نحوه ، بحار الأنوار : ج ۴۴ ص ۳۷۵ وراجع : روضة الواعظين : ص ۱۹۸ والمناقب لابن شهرآشوب : ج ۴ ص ۹۵ .