۲۳۰۷.الفتوح :صَعِدَ ابنُ زِيادٍ المِنبَرَ ، فَحَمِدَ اللّه َ وأثنى عَلَيهِ ، وقالَ في بَعضِ كَلامِهِ : الحَمدُ للّه ِِ الَّذي أظهَرَ الحَقَّ وأهلَهُ ، ونَصَرَ أميرَ المُؤمِنينَ وأشياعَهُ ، وقَتَلَ الكَذّابَ ابنَ الكَذّابِ .
قالَ : فَما زادَ عَلى هذَا الكَلام ِشَيئا ووَقَفَ ، فَقامَ إلَيهِ عَبدُ اللّه ِ بنُ عَفيفٍ الأَزدِيُّ رَحِمَهُ اللّه ُ ، وكانَ مِن خِيارِ الشّيعَةِ وكانَ أفضَلَهُم ، وكانَ قَد ذَهَبَت عَينُهُ اليُسرى في يَومِ الجَمَلِ وَالاُخرى في يَومِ صِفّينَ ، وكانَ لا يُفارِقُ المَسجِدَ الأَعظَمَ يُصَلّي فيهِ إلَى اللَّيلِ ، ثُمَّ يَنصَرِفُ إلى مَنزِلِهِ .
فَلَمّا سَمِعَ مَقالَةَ ابنِ زِيادٍ ، وَثَبَ قائِما ثُمَّ قالَ : يَابنَ مَرجانَةَ ، الكَذّابُ ابنُ الكَذّابِ أنتَ وأبوكَ ومَنِ استَعمَلَكَ وأبوهُ ، يا عَدُوَّ اللّه ِ أتَقتُلونَ أبناءَ النَّبِيّينَ وتَتَكَلَّمونَ بِهذَا الكَلامِ عَلى مَنابِرِ المُؤمِنينَ ؟!
قالَ : فَغَضِبَ ابنُ زِيادٍ ، ثُمَّ قالَ : مَنِ المُتَكَلِّمُ ؟ فَقالَ : أنَا المُتَكَلِّمُ يا عَدُوَّ اللّه ِ ، أتَقتُلُ الذُّرِّيَّةَ الطّاهِرَةَ الَّتي قَد أذهَبَ اللّه ُ عَنهَا الرِّجسَ في كِتابِهِ ، وتَزعُمُ أنَّكَ عَلى دينِ الإِسلامِ ؟ وا عَوناه ، أينَ أولادُ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ ، لِيَنتَقِموا مِن طاغِيَتِكَ ۱ اللَّعينِ ابنِ اللَّعينِ عَلى لِسانِ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ رَبِّ العالَمينَ ؟
قالَ : فَازدادَ غَضَبا عَدُوُّ اللّه ِ حَتَّى انتَفَخَت أوداجُهُ ، ثُمَّ قالَ : عَلَيَّ بِهِ ، قالَ : فَتَبادَرَت إلَيهِ الجَلاوِزَةُ مِن كُلِّ ناحِيَةٍ لِيَأخُذوهُ ، فَقامَتِ الأَشرافُ مِنَ الأَزدِ مِن بَني عَمِّهِ فَخَلَّصوهُ مِن أيدِي الجَلاوِزَةِ ، وأخرَجوهُ مِن بابِ المَسجِدِ ، فَانطَلَقوا بِهِ إلى مَنزِلِهِ .
ونَزَلَ ابنُ زِيادٍ عَنِ المِنبَرِ ودَخَلَ القَصرَ ، ودَخَلَ عَلَيهِ أشرافُ النّاسِ ، فَقالَ : أرَأَيتُم ما صَنَعَ هؤُلاءِ القَومُ ؟ فَقالوا : قَد رَأَينا أصلَحَ اللّه ُ الأَميرَ ، إنَّمَا الأَزدُ فَعَلَت ذلِكَ فَشُدَّ يَدَيكَ بِساداتِهِم ، فَهُمُ الَّذينَ استَنقَذوهُ مِن يَدِكَ حَتّى صارَ إلى مَنزِلِهِ .
قالَ : فَأَرسَلَ ابنُ زِيادٍ إلى عَبدِ الرَّحمنِ بنِ مِخنَفٍ الأَزدِيِّ ، فَأَخَذَهُ وأخَذَ مَعَهُ جَماعَةً مِنَ الأَزدِ فَحَبَسَهُم ، وقالَ : وَاللّه ِ لا خَرَجتُم مِن يَدي أو تَأتُوني بِعَبدِ اللّه ِ بنِ عَفيفٍ .
قالَ : ثُمَّ دَعَا ابنُ زِيادٍ لِعَمرِو بنِ الحَجّاجِ الزُّبَيدِيِّ ومُحَمَّدِ بنِ الأَشعَثِ وشَبَثِ بنِ الرِّبعِيِّ وجَماعَةٍ مِن أصحابِهِ ، وقالَ لَهُم : اِذهَبوا إلى هذَا الأَعمى ، أعمَى الأَزدِ الَّذي قَد أعمَى اللّه ُ قَلبَهُ كَما أعمى عَينَيهِ ، ائتوني بِهِ .
قالَ : فَانطَلَقَت رُسُلُ عُبَيدِ اللّه ِ بنِ زِيادٍ إلى عَبدِ اللّه ِ بنِ عَفيفٍ ، وبَلَغَ ذلِكَ الأَزدَ فَاجتَمَعوا ، وَاجتَمَعَ مَعَهُم أيضاً قَبائِلُ اليَمَنِ لِيَمنَعوا عَن صاحِبِهِم عَبدِ اللّه ِ بنِ عَفيفٍ . وبَلَغَ ذلِكَ ابنَ زِيادٍ ، فَجَمَعَ قَبائِلَ مُضَرَ وضَمَّهُم إلى مُحَمَّدِ بنِ الأَشعَثِ وأمَرَهُ بِقِتالِ القَومِ .
قالَ : فَأَقبَلَت قَبائِلُ مُضَرَ نَحوَ اليَمَنِ ودَنَت مِنهُمُ اليَمَنُ ، فَاقتَتَلوا قِتالاً شَديدا ، فَبَلَغَ ذلِكَ ابنَ زِيادٍ ، فَأَرسَلَ إلى أصحابِهِ يُؤَنِّبُهُم ، فَأَرسَلَ إلَيهِ عَمرُو بنُ الحَجّاجِ يُخبِرُهُ بِاجتِماعِ اليَمَنِ عَلَيهِم . قالَ : وبَعَثَ إلَيهِ شَبَثُ بنُ الرِّبعِيِّ : أيُّهَا الأَميرُ ، إنَّكَ قَد بَعَثتَنا إلى اُسودِ الآجامِ فَلا تَعجَل ، قالَ : وَاشتَدَّ قِتالُ القَومِ حَتّى قُتِلَ جَماعَةٌ مِنهُم مِنَ العَرَبِ .
قالَ : ودَخَلَ أصحابُ ابنِ زِيادٍ إلى دارِ ابنِ عَفيفٍ ، فَكَسَرُوا البابَ وَاقتَحَموا عَلَيهِ ، فَصاحَت بِهِ ابنَتُهُ : يا أبَتِ! أتاكَ القَومُ مِن حَيثُ لا تَحتَسِبُ ، فَقالَ : لا عَلَيكِ يَا ابنَتي ، ناوِلينِي السَّيفَ : قالَ : فَناوَلَتهُ فَأَخَذَهُ وجَعَلَ يَذُبُّ عَن نَفسِهِ ، وهُوَ يَقولُ :
أنَا ابنُ ذِي الفَضلِ العَفيفِ الطّاهِرِعَفيفٌ شَيخي وَابنُ اُمِّ عامِرِ
كَم دارِعٍ مِن جَمعِهِم وحاسِرِوبَطَلٍ جَندَلتُهُ مُغادِرِ
قالَ : وجَعَلَتِ ابنَتُهُ تَقولُ : يا لَيتَني كُنتُ رَجُلاً فَاُقاتِلَ بَينَ يَدَيكَ اليَومَ هؤُلاءِ الفَجَرَةَ ، قاتِلِي العِترَةِ البَرَرَةِ . قالَ وجَعَلَ القَومُ يَدورونَ عَلَيهِ مِن خَلفِهِ وعَن يَمينِهِ وعَن شِمالِهِ ، وهُوَ يَذُبُّ عَن نَفسِهِ بِسَيفِهِ ، ولَيسَ يَقدِرُ أحَدٌ أن يَتَقَدَّمَ إلَيهِ .
قالَ : وتَكاثَروا عَلَيهِ مِن كُلِّ ناحِيَةٍ حَتّى أخَذوهُ . فَقالَ جُندَبُ بنُ عَبدِ اللّه ِ الأَزدِيُّ : إنّا للّه ِِ وإنّا إلَيهِ راجِعونَ ، أخَذوا وَاللّه ِ عَبدَ اللّه ِ بنَ عَفيفٍ ، فَقَبُحَ وَاللّه ِ العَيشُ مِن بَعدِهِ .
قالَ : ثُمَّ اُتِيَ بِهِ حَتّى اُدخِلَ عَلى عُبَيدِ اللّه ِ بنِ زِيادٍ ، فَلَمّا رَآهُ قالَ : الحَمدُ للّه ِِ الَّذي أخزاكَ ، فَقالَ لَهُ عَبدُ اللّه ِ بنُ عَفيفٍ : يا عَدُوَّ اللّه ِ بِهذا أخزاني ، وَاللّه ِ لَو فَرَّجَ اللّه ُ عَن بَصَري لَضاقَ عَلَيكَ مَورِدي ومَصدَري .
قالَ : فَقالَ ابنُ زِيادٍ : يا عَدُوَّ نَفسِهِ ، ما تَقولُ في عُثمانَ بنِ عَفّانَ ؟ فَقالَ : يَابنَ عَبدِ بَني عِلاجٍ ، يَابنَ مَرجانَةَ وسُمَيِّةَ ، ما أنتَ وعُثمانُ بنُ عَفّانَ ؟ عُثمانُ أساءَ أم أحسَنَ ، وأصلَحَ أم أفسَدَ ، وَاللّه ُ تَبارَكَ وتَعالى وَلِيُّ خَلقِهِ ، يَقضي بَينَ خَلقِهِ وبَينَ عُثمانَ بنِ عَفّانَ بِالعَدلِ وَالحَقِّ ، ولكِن سَلني عَن أبيكَ ، وعَن يَزيدَ وأبيهِ .
فَقالَ ابنُ زِيادٍ : وَاللّه ِ لا سَأَلتُكَ عَن شَيءٍ أو تَذوقَ المَوتَ .
فَقالَ عَبدُ اللّه ِ بنُ عَفيفٍ : الحَمدُ للّه ِِ رَبِّ العالَمينَ ، أما إنّي كُنتُ أسأَلُ رَبّي عز و جل أن يَرزُقَنِي الشَّهادَةَ ، وَالآنَ فَالحَمدُ للّه ِِ الَّذي رَزَقَني إيّاها بَعدَ الإِياسِ مِنها ، وعَرَّفَني الإِجابَةَ مِنهُ لي في قَديمِ دُعائي .
فَقالَ ابنُ زِيادٍ : اِضرِبوا عُنُقَهُ ، فَضُرِبَت رَقَبَتُهُ وصُلِبَ ، رَحمَةُ اللّه ِ عَلَيهِ . ۲