205
موسوعة الامام الحسين عليه السّلام في الکتاب و السّنّة و التّاريخ ج5

الطريق الثالث: ضفاف دجلة

يعدّ دجلة النهر الكبير الثاني في العراق، حيث ينبع هو الآخر من تركيا أيضا، ولكنّه لا يمرّ بالشام ، فكان الذي يريد السفر إلى شمال شرقي العراق يختار ضفافه للسفر إلى هناك. ولم يكن هذا الطريق هو الطريق الرئيسي بين الكوفة و دمشق وإنّما يسيرون مقدارا منه ثمّ ينحرفون تدريجيّاً نحو الغرب والالتحاق بطريق ضفاف الفرات بعد اجتياز مسافة ليست بالقصيرة، ثمّ دخول دمشق من ذلك الطريق.
ويمكن اعتبار هذا الطريق ثلاثة أضلاع من مستطيل طوله طريق البادية، والأضلاع الثلاثة الاُخرى هي : المسافة المقطوعة من الكوفة نحو الشمال، الطريق المقطوع باتّجاه الغرب ، ثمّ رجوع قسم من الطريق المقطوع نحو الجنوب ، ولذلك فإنّه أطول من جميع الطرق الاُخرى ، ويبلغ طوله حدود (1545 كيلومترا)، ويُسمّى هذا الطريق بـ«الطريق السلطاني» .

نقاط ملفتة للنّظر

لم نعثر على دليل واضح ورواية تاريخية معتبرة وقديمة لإثبات مرور سبايا أهل البيت عبر أحد هذه الطرق الثلاثة، كما لم تصلنا رواية عن أهل البيت عليهم السلام في هذا المجال، والذي وصلنا ما هو إلّا علامات جزئية وغير كافية جاءت بشكل متفرّق في بعض الكتب أو القصص والتراجم الفاقدة للسند وغير المعتبرة، مع أنّها وردت في كتب غير صالحة للاعتماد ؛ كالمقتل المنتحل المنسوب إلى أبي مخنف ، والذي تكرّر ذكره في الكتب اللّاحقة له . وسندرس هنا بعض الدلالات والعلامات الجزئية المشار إليها :
1 . ذكر في معجم البلدان ـ وهو كتاب جغرافي قديم ـ في التعريف بقسم من مدينة حلب في الشام :
في غربي البلد في سفح جبل جوشن قبر المحسن بن الحسين عليه السلام ، يزعمون أنّه سقط لمّا جيء بالسبي من العراق ليُحمل إلى دمشق، أو طفل كان معهم [مات ]بحلب فدفن هنالك. ۱
ومن الواضح أنّ هذه الرواية ـ في حالة صحّتها ـ تنفي مرور السبايا من طريق البادية؛ لأنّ حلب لا تقع على هذا الطريق، وبمفردها لا تعيّن أحد الطريقين: الطريق السلطاني (المحاذي لدجلة) أو ضفاف الفرات ؛ ذلك لأنّ هذين الطريقين يشتركان مع بعضهما لمسافة طويلة ، ومدينة حلب تقع في مسار كلا الطريقين .
ومن جهة اُخرى فإنّ تعبير مؤلّف معجم البلدان كلمة «يزعمون» ، دالّ على عدم صلاحية هذا الظنّ للاستناد، خاصّة وأنّنا لا نعرف في أحداث كربلاء ابناً باسم المحسن أو زوجة حاملاً من الإمام الحسين عليه السلام ، ولم يرد شيء عنهما في الكتب ، وإنّ الشهرة المحلّية ـ على فرض صحّة الرواية ـ لا تتجاوز حدّ كونها عقيدة عامّة وعادية. ۲
2 . من المحتمل أنّ البعض أراد أن يثبت مرور السبايا من الطريق السلطاني من خلال اتّحاد مسير حمل رأس الإمام الحسين عليه السلام مع مسير السبايا ، استناداً إلى رواية ابن شهرآشوب. فقد روى ابن شهرآشوب نقلاً عن النطنزي ۳ قصّة راهب الدير مع رأس الإمام الحسين عليه السلام وذلك في قِنَّسرين الواقعة في شمال الشام .
والجواب هو أنّ الفرض المسبق لهذا الاستدلال ـ أي اتّحاد مسير السبايا والرأس الشريف للإمام الحسين عليه السلام ـ ليس مسلّماً به ۴ ، ومن المحتمل أن يكونوا قد طافوا بالرأس في المدن، ولكنّهم أخذوا السبايا عبر طريق أقصر. بل جاء في بعض الأخبار أنّ الرأس الطاهر للإمام عليه السلام طيف به في مدن الشام بعد دخول السبايا هذه المنطقة . يقول صاحب كتاب شرح الأخبار :
ثمّ أمر يزيد اللعين برأس الحسين عليه السلام فطيف به في مدائن الشام وغيرها . ۵
فمن الممكن ـ واستنادا إلى هذا الخبر ـ أن يكون الرأس الشريف بعد وصوله إلى الشام اُخذ إلى مناطق، مثل: الموصل ونصيبين الواقعتين على الطريق السلطاني .
ومن هنا فمن المحتمل أن تكون أمثال هذه الأحداث التي نقلها التاريخ لنا تتعلّق بالأيّام التي طافوا فيها بالرأس الشريف بعد وصول السبايا إلى الشام أو في زمان حركتهم نحوها .
ويأتي الاحتمال نفسه حول الأماكن التي تعرف بـ «رأس الحسين» ، والتي يقول عنها ابن شهر آشوب في معرض كلامه حول مناقب الإمام عليه السلام :
ومن مناقبه عليه السلام ما ظهر من المشاهد التي يُقال لها «مشهد الرأس» من كربلاء إلى عسقلان ، وما بينهما في الموصل ونصيبين وحماة وحمص ودمشق وغير ذلك . ۶
وبالنسبة إلى هذه المدن ، ففضلاً عن عدم تصريح ابن شهر آشوب بمرور السبايا أو الرأس الشريف بها ، هناك احتمال آخر باعتبار أنّها كانت تحت سيطرة ونفوذ الحكومات الشيعية أو الموالية لأهل البيت عليهم السلام على مرّ السنين ـ كالحمدانيّين والفاطميّين ـ فقد اُحدِثت فيها أماكن ـ ومهما كانت الدوافع والحوافز ؛ سواء حقيقيّة أو رمزيّة وتذكاريّة أو عن طريق منامات وغير ذلك ـ وهذه الأماكن اُطلق عليها «رأس الحسين» ، كالمقام الموجود في القاهرة إلى يومنا هذا والذي اُحدِث في زمان الفاطميّين .
وبالإضافة إلى ذلك، فإن قصّة الراهب والرأس ذُكرت في بعض المواضع الاُخرى أيضاً، وبسبب استبعاد تكرارها، فإنّ رواية ابن شهرآشوب ۷ تتعرّض للتعارض؛ لأن من بين المواضع المذكورة ديراً في أوائل الطريق ۸ ، وهو لا يتلاءم مع قِنَّسرين الواقعة في أواخر الطريق .
الجدير بالذكر هو أنّه على فرض صحّة رواية ابن شهرآشوب، فلا يثبت بها مرور السبايا من الطريق السلطاني؛ لأنّ قسماً من الطريق السلطاني وطريق الفرات كان مشتركاً، ومنطقة قِنَّسرين تقع على الطريق المحاذي للفرات أيضاً . نعم ، لو صحّت هذه الرواية فهي تنفي مرور السبايا من طريق البادية .
3 . في تصوّرنا ـ وخلافاً للرائج في العصر الأخير ـ أنّ الطريق السلطاني يمثّل أقلّ الاحتمالات ؛ لأنّه أبعد الطرق، بل لا يمثل طريقاً طبيعيّاً لركب صغير يُقتاد سبياً، لا للسياحة والتنزّه .
وبالإضافة إلى ذلك، فلا يوجد مصدر معتبر يعضد هذا القول ، بل إنّ مستنده هو المقتل المنسوب إلى أبي مخنف ۹ . ومن جهة اُخرى فالمسافة الطويلة للطريق السلطاني لا تتلاءم وقضيّة الأربعين ۱۰ ؛ أي حضور اُسارى أهل البيت عليهم السلام في الأربعينيّة الاُولى لشهادة أبي عبداللّه عليه السلام عند قبره الشريف ، عند عودتهم من الشام .
نعم ، قد يقال بأنّ استعراض الجهاز الحاكم لقوّته كان يقتضي الطواف بالسبايا داخل المدن، ولذلك فقد اختاروا الطريق السلطاني . إلّا أنّ هذا الوجه يتلاءم مع أخذ الأسرى عبر طريق ضفاف الفرات أيضا؛ ذلك لأنّ هذا الطريق يمرّ بمدنٍ عديدة أيضا . وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ استعراض القوّة كان من الممكن أن يتجلّى بالطواف بالرؤوس أيضاً ، ولم تكن هناك حاجة إلى الطواف بمجموعة صغيرة مؤلّفة من النساء والأطفال؛ ذلك لأنّ هذا الأمر إذا لم يدلّ على ضعف الجهاز الحاكم ، فإنّه لا يدلّ على قوّته، خاصّة وأنّ جهاز الحكم شهد شجاعة وبلاغة الإمام السجّاد عليه السلام وزينب الكبرى عليهاالسلاموالسبايا الآخرين في الكوفة. وبناءً على ذلك فمقتضى السياسة هو اقتياد الأسرى من الطرق الفرعية ولا يطاف بهم في المدن.
4 . بناءً على ما تقدّم ، فإنّ النقطة الوحيدة التي ترجّح الطريق السلطاني أو المحاذي للفرات على طريق البادية، هي قربه من الماء . على أنّ هذه القضية لا تمثّل وجه ترجيح قوي؛ نظراً إلى صِغَر الركب وإمكانية حمل الماء على الجمال .
وممّا يؤيّد هذه الملاحظة عدم ذكر تفاصيل السفر ، وعدم توفّر رواية حول مرور الركب بالمدن، وعلى الأقلّ ذكر مدينة أو مدينتين من المدن المهمّة الواقعة في الطريق ، وهو ما يدلّ بحدّ ذاته على اجتياز الطريق الصحراوي، أو الطرق الفرعية .
5 . هناك بعض القرائن التي يمكن من خلالها القول بترجيح طريق البادية على الطريقين الآخرَين ، وهي :
أوّلاً : لوكان مسير الاُسارى هو طريق ضفاف الفرات أو الطريق السلطاني اللذين يمرّان عبر مدن كثيرة ، لنقلت لنا المصادر المعتبرة بعض الأخبار المتعلّقة بكيفية مواجهة أهالي تلك المدن مع أهل البيت عليهم السلام ، أو على الأقلّ مشاهدتهم فيها ؛ كما هو الحال في كربلاء والكوفة والشام، في حين إنّنا لا نجد في هذا المجال خبرٌ واحد حول هذا الموضوع.
بناءً على ذلك ، فالظاهر أنّ مسير السبايا كان من طريق قليلة السكّان أو خالية منهم ، وهو ما يرجّح طريق البادية .
ثانيا : إنّ الاعتراضات التي كانت تشكّل ضغوطا على الجهاز الحاكم والتي بدأت منذ اللحظة الاُولى لشهادة الإمام الحسين عليه السلام ؛ حتّى من قِبل الموالين للحكومة واُسَرِ المقاتلين الجُناة و أصداء واقعة عاشوراء وانعكاساتها في الكوفة، تشكّل وبطبيعة الحال مانعا عن نقل السبايا والرأس الشريف عن طريق المدن والقرى العامرة بالسكّان!
ويؤيّد ذلك ما ورد في كتاب الكامل للبهائي ، حيث قال :
إنّ الأنذال الذين حملوا معهم رأس الإمام الحسين عليه السلام من الكوفة كانوا خائفين من أن تقوم القبائل العربيّة عليهم وتستعيد الرأس الشريف ؛ ولهذا فقد تركوا طريق العراق ولجؤوا إلى الطرق الفرعيّة . ۱۱
ثالثا : من الاُصول المهمّة التي تعتمدها الحكومات فى سياساتها سُرعة العمل ، وهذا الأصل يستدعي اختيار أخصر الطرق وأسرعها .

1.معجم البلدان: ج ۲ ص ۲۸۴ و۱۸۶ وورد في كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب: ج ۱ ص ۴۱۱ - ۴۱۴ بتفصيل أكثر .

2.إنّ مجرّد عرض قضيّة من القضايا أو جريانها على الألسن لا تكفي في حصول الاطمئنان ما لم يكن لها خلفيّة واضحة وجليّة ، خصوصا في الأزمنة السالفة التي لم يكن فيها تدوين الأحداث والوقائع شائعا ومتداوَلاً ، ولم تكن على القبور أحجار يكتب عليها اسم المتوفّى عادة وما إلى ذلك . ولهذا يكون احتمال الخطأ والالتباس واردا بل قويّا ؛ ولذلك نجد قبورا متعدّدة في أماكن مختلفة تُنسب إلى شخصٍ واحد ، كما هو الحال في قبر السيّدة زينب عليهاالسلام مثلاً . وهذا البحث بحث واسع ومتشعّب ، ونكتفي هنا بعبارة ننقلها من كتاب الغيبة للشيخ الطوسي قدس سره (ص ۳۵۸) حيث قال : «قال أبو نصر هبة اللّه بن محمّد : وقبر عثمان بن سعيد بالجانب الغربيّ من مدينة السلام ، في شارع الميدان ، في أوّل الموضع المعروف بدرب جبلة ، في مسجد الدرب يمنة الداخل إليه ، والقبر في نفس قبلة المسجد . قال محمّد بن الحسن مصنّف هذا الكتاب : رأيتُ قبرَه في الموضع الذي ذكره وكان بُنِي في وجهِهِ حائط ، وبه محراب المسجد ، وإلى جنبه بابٌ يدخل إلى موضع القبر في بيتٍ ضيّقٍ مظلم ، فكنّا ندخل إليه ونزوره مشاهرةً ، وكذلك من وقت دخولي إلى بغداد وهي سنة ثمان وأربعمئة إلى سنة نيّف وثلاثين وأربعمئة . ثمّ نَقَض ذلك الحائطَ الرئيسُ أبو منصور محمّد بن الفرج ، وأبرز القبر إلى بَرّا ، وعمل عليه صندوقا ، وهو تحت سقفٍ يدخل إليه من أراده ويزوره ، ويتبرّك جيران المحلّة بزيارته ويقولون : هو رجلٌ صالحٌ . وربّما قالوا : هو ابن دايَة الحسين عليه السلام ، ولا يعرفون حقيقة الحال فيه . وهو إلى يومنا هذا ـ وذلك سنة سبع وأربعين وأربعمئة ـ على ما هو عليه» . فنرى هنا أنّ البعض قد التبس عليهم الأمر في القبر المحدّد لعثمان بن سعيد الذي هو أحد النوّاب الخاصّين للإمام المهدي عجّل اللّه فرجه ، فعلى الرغم من أنّه لم تمرّ على وفاته فترة طويلة قيل: إنّه قبر ابن مرضعة الإمام الحسين عليه السلام .

3.المناقب لابن شهرآشوب : ج ۴ ص ۶۰.

4.راجع: ص ۱۸۴ (نكتة) .

5.شرح الأخبار : ج ۳ ص ۱۵۹ .

6.المناقب لابن شهر آشوب : ج ۴ ص ۸۲ في خصوص الأماكن المعروفة بـ «رأس الحسين» والموجودة في المناطق المشار إليها بل وخارجها أيضا وتقييمها من الناحية التاريخية راجع : نگاهي نو به جريان عاشوراء (بالفارسية) : ص۳۵۵ (مقال رأس الحسين ومقاماته) بقلم مصطفى صادقي .

7.راجع : ص ۱۲۸ ح ۲۲۵۴ .

8.راجع: ص ۱۳۱ ح ۲۲۵۸ .

9.مقتل الحسين عليه السلام المنسوب إلى أبي مخنف: ص۱۸۰

10.خصوصاً و أن ّ هذا المقتل قد ذكر أحداثاً تفصيليّة يستغرق وقوعها وقتاً حدثت أثناء مسير السبايا .

11.كامل بهائي (بالفارسية) : ج ۲ ص ۲۹۱ .


موسوعة الامام الحسين عليه السّلام في الکتاب و السّنّة و التّاريخ ج5
204

الطريق الثاني: ضفاف الفرات

يعتبر الفرات أحد نهري العراق الكبيرين ، وينبع من تركيا ويصبّ في الخليج الفارسي بعد اجتياز سوريا والعراق. وكان الكوفيّون يسيرون على ضفاف هذا النهر للسفر إلى شمال العراق والشام؛ كي يكون الماء في متناولهم، ولكي يستفيدوا أيضاً من إمكانيات المدن الواقعة على ضفاف الفرات، ولذا كانت الجيوش الجرّارة والقوافل الكبيرة التي هي بحاجة إلى كمّيات كبيرة من المياه مضطرّة لسلوك هذا الطريق ۱ .
ويتّجه هذا الطريق ابتداءً من الكوفة نحو الشمال الغربي بمسافة طويلة ، ثمّ ينحدر من هناك نحو الجنوب وينتهي إلى دمشق بعد اجتيازه الكثير من مدن الشام. وقد كان لهذا الطريق تفرّعات عديدة ، ويبلغ طوله التقريبي حدود (1190 إلى 1333 كيلومترا) ، وكان بديلاً مناسباً لطريق البادية الشاقّ وإن كان قصيرا ، ويمكن أن نشبّه مجموع هذا الطريق وطريق البادية بمثلّث قاعدته طريق البادية .

1.سلك عسكر أمير المؤمنين عليه السلام هذا الطريق نفسه أيضا في معركة صفّين.

  • نام منبع :
    موسوعة الامام الحسين عليه السّلام في الکتاب و السّنّة و التّاريخ ج5
    سایر پدیدآورندگان :
    المساعدون : الطباطبائي نژاد،سيد محمود؛ السيّد طبائي،سيد روح الله
عدد المشاهدين : 168424
الصفحه من 414
طباعه  ارسل الي