المدخل
الآثار الاجتماعية والتكوينية لوقعة عاشوراء
ما يأتي في هذا القسم هو في الحقيقة نموذج لردود الفعل الاجتماعيّة والآثار التكوينيّة لواقعة عاشوراء. ورغم أنّ هذه الآثار الاجتماعيّة والتكوينيّة لم تؤدّ إلى سيادة القيم الإسلاميّة وحكومة أهل البيت عليهم السلام ، ولكنّها أضعفت الحكم الاُموي ، وحدّت بذلك من أخطار هذا الحزب إلى حدٍّ ما، وحالت دون تقويض أساس الإسلام .
وبتعبير أوضح، فإنّ الحزب الاُموي كان يشكّل أكبر خطر يهدّد الحكومة الإسلاميّة ، حيث يقول الإمام عليّ عليه السلام في روايةٍ مبيّناً خطر هذا الحزب على الاُمّة الإسلامية :
ألا وَ إِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِى عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِى اُمَيَّةَ ؛ فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ ، عَمَّتْ خُطَّتُهَا ، وَ خَصَّتْ بَلِيَّتُهَا ، وَ أَصَابَ الْبَلَاءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا ، وَ أَخْطَأَ الْبَلَاءُ مَنْ عَمِىَ عَنْهَا . وَ ايْمُ اللَّهِ ! لَتَجِدُنَّ بَنِى اُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِى ، كَالنَّابِ الضَّرُوسِ ؛ تَعْذِمُ بِفِيهَا ، وَ تَخْبِطُ بِيَدِهَا ، وَ تَزْبِنُ بِرِجْلِهَا ، وَ تَمْنَعُ دَرَّهَا . ۱
وقد روت عدد من المصادر التاريخيّة قصّة عن أحد الأصدقاء الحميمين لمعاوية مؤسّس الحكومة الاُمويّة ، تكشف عن حقده العميق على الإسلام ورسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ومخطّطه للقضاء على هذا الدين الإلهي .
يقول مطرف بن المغيرة بن شعبة:
وفدت مع أبي المغيرة إلى معاوية، فكان أبي يأتيه يتحدّث عنده، ثمّ ينصرف إليَّ فيذكر معاوية ويذكر عقله، ويعجب ممّا يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، فرأيته مغتمّا ، فانتظرته ساعة، وظننت أنّه لشيء حدث فينا أو في عملنا، فقلت له: مالي أراك مغتمّا منذ الليلة؟ قال: يا بنيّ ، إنّي جئت من عند أخبث الناس! قلت له: وما ذاك؟ قال: قلت له وقد خلوت به : إنّك قد بلغت منّا يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً ، وبسطت خيرا ؛ فإنّك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فواللّه ، ما عندهم اليوم شيء تخافه، فقال لي: هيهات هيهات!! ملك أخو تَيْمٍ فعدل وفعل ما فعل، فواللّه ، ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلّا أن يقول قائل: أبوبكر، ثمّ ملك أخو عَدِيٍّ ، فاجتهد وشمّر عشر سنين، واللّه ، ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلّا أن يقول قائل: عمر، ثمّ ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل ما عمل [وعمل به] ، فواللّه ، ما عدا أن هلك فهلك ذكره، وذكر ما فعل به، وإنّ أخا هاشم يُصرَخُ به في كلّ يومٍ خمس مرّات: «أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه »، فأيّ عمل يبقى مع هذا لا اُمّ لك؟! واللّه ، إلّا دفنا دفنا . ۲
وقد أدّى الانعكاس الاجتماعيّ والسياسيّ لشهادة الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه في المجتمع الإسلامي، إلى أن تواجه الحكومة الاُمويّة مشكلة حادّة. فقد أدانت الشخصيّات البارزة في العالم الإسلامي هذا العمل الإجراميّ . ۳ وقد سرت أمواج المظلومية التي لحقت بشهداء كربلاء ، وإدانة هذه المأساة إلى خارج العالم الإسلامي ، ۴ بل حتّى إلى اُسر المجرمين . ۵ ولم تمرّ فترة طويلة حتّى اضطرّ أعدى أعداء أهل البيت يزيد الذي هو أوّل مجرم تسبّب في هذه المأساة، إلى أن يعتبر ابن زياد المسؤول المباشر عن هذه الجريمة ؛ وذلك كي يبقى بمأمنٍ من غضب الناس ، وبهدف استمرار حكمه، حيث قال :
لعن اللّه ابن مرجانة فإنّه أخرجه واضطرّه ... وقتله ، فبغّضني بقتله إلى المسلمين ، وزرع لي في قلوبهم العداوة ، فبغضني البرّ والفاجر . ۶
كما أبدى الأشخاص الذين لعبوا دوراً في مأساة كربلاء ندمهم على ما فعلوه، كلٌّ باُسلوبٍ معيّن . ۷
ومن جهة اُخرى، فقد لحقت الآثار التكوينيّة لهذه الجريمة من قام بها وشارك فيها من المجرمين. ۸ وبعد ثلاث سنوات من حادثة عاشوراء، هلك يزيد وانتقل الحكم بموته من آل أبي سفيان ـ الذين كانوا ينوون التسلّط على رقاب المسلمين وحكمهم لقرون ـ إلى بني مروان .
وقد جاء في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام يخاطب فيها المنصور الدوانيقي:
إنَّ هذَا المُلكَ كانَ في آلِ أبي سُفيانَ ، فَلَمّا قَتَلَ يَزيدُ حُسَينا سَلَبَهُ اللّه ُ مُلكَهُ ، فَوَرَّثَهُ آلَ مَروانَ . ۹
ولا شكّ في أنّ الإمام عليه السلام لا يريد بهذا الكلام أنّه لو لا شهادة الإمام الحسين عليه السلام لكانت حكومة بني سفيان شرعيّة ، أو أنّ انتقالها إلى بني مروان كان شرعيّاً ، بل يعني أنّه في ظلّ الجوّ السياسيّ الاجتماعيّ الذي كان معاوية قد أوجده، كان بالإمكان بشكل طبيعيّ أن يستمرّ الحكم في اُسرة أبي سفيان لأجيالٍ عديدة ، إلّا أنّ الجريمة التي ارتكبها يزيد أزالت هذه الأرضيّة .
وبتعبير آخر فإنّ نسبة استمرار حكم بني سفيان أو عدم استمراره وانتقاله إلى بني مروان ، إلى اللّه تعالى في الحديث المذكور هي من باب التوحيد في الأفعال ، حيث لا تتحقّق أيّ ظاهرة في العالم من دون مشيئته ، ولكنّه مع ذلك لا ينفي إرادة الإنسان ، ولا يدلّ على مشروعيّة الظاهرة .
وقد جاء في رواية اُخرى عن الإمام الصادق عليه السلام :
لَمّا وَلِيَ عَبدُ المَلِكِ بنُ مَروانَ الخِلافَةَ ، كَتَبَ إلَى الحَجّاجِ بنِ يوسُفَ : بِسمِ اللّه ِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ ، مِن عَبدِ المَلِكِ بنِ مَروانَ أميرِ المُؤمِنينَ إلَى الحَجّاجِ بنِ يُوسفَ .
أمّا بَعدُ ، فَانظُر دِماءَ بَني عَبدِ المُطَّلِبِ فَاحتَقِنها واجتَنبِها ؛ فَإِنّي رَأَيتُ آلَ أبي سُفيانَ لَمّا وَلَغوا فيها لَم يَلبَثوا إلّا قَليلاً ، وَالسَّلامُ . ۱۰
كما ذكر ابن عبد ربّه في العقد الفريد :
كتب [عبد الملك بن مروان] إلى الحجّاج بن يوسف: «جنّبني دماء بني عبد المطّلب ، فليس فيها شفاء من الحرب ، ۱۱ وإنّي رأيت بني حرب سُلبوا ملكهم لمّا قتلوا الحسين بن عليّ» . فلم يتعرّض الحجّاج لأحد من الطالبيين في أيّامه. ۱۲
وجاء في رواية أنّ هذا الكتاب بعثه عبدالملك بشكل سرّي إلى الحجّاج ، وبعد إرسال هذا الكتاب بقليل ، بعث الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام ، كتاباً إلى عبد الملك قال فيه :
أمّا بَعدُ ، فَإِنَّكَ كَتَبَت في يَومِ كَذا ، في ساعَةِ كَذا، في شَهرِ كَذا، في سَنَةِ كَذا بِكَذا وكَذا، وإنَّ اللّه َ تَعالى قَد شَكَرَ لَكَ ذلِكَ ، لِأَنَّ رَسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله أتاني في مَنامي فَأَخبَرَني أنَّكَ كَتَبتَ في يَومِ كَذا ، في ساعَةِ كَذا، وأنَّ اللّه َ تَعالى قَد شَكَرَ لَكَ ذلِكَ ، وثَبَّتَ مُلكَكَ ، وزادَكَ فيهِ بُرهَةً . ۱۳
وعندما وصل كتاب الإمام زين العابدين عليه السلام إلى عبد الملك ، رأى أنّ تاريخه يتزامن مع إرسال كتابه إلى الحجّاج ، ولذلك لم يتردّد في صدق تنبّؤ الإمام عليه السلام وأبدى ارتياحه الكبير . ۱۴
وممّا يجدر ذكره أنّ سياسة عبد الملك هذه لم تستمرّ في الذين خلفوه ، فإنّ جرائم بني مروان وإن لم تبلغ مستوى جرائم معاوية وابنه يزيد ، إلّا أنّها لم تكن تختلف عنها اختلافاً كبيراً، بل إنّ السياسات نفسها تواصلت بشكل عام، ولذلك يصرّح الإمام الصادق عليه السلام في الرواية التي نقلت بشأن انتقال الحكم من بني سفيان إلى بني مروان، قائلاً وهو يخاطب الخليفة العبّاسيّ المنصور :
فَلَمّا قَتَلَ هِشامُ زَيدا ، سَلَبَهُ اللّه ُ مُلكَهُ فَوَرَّثَهُ مَروانَ بنَ مُحَمَّدٍ ، فَلَمّا قَتَلَ مَروانُ إبراهيمَ ، سَلَبَهُ اللّه ُ مُلكَهُ فَأَعطاكُموهُ . ۱۵
وكما وردت الإشارة في هذه الرواية، فقد زالت حكومة بني اُميّة التي كانت تمثّل أكبر خطر على الإسلام ، تماماً سنة 132 هـ ؛ أي بعد 71 سنة من واقعة عاشوراء، وأمسك بنو العبّاس عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله بزمام حكم العالم الإسلامي .
ولم تمضِ مدّةٌ طويلة حتّى انتهج حكّام بني العبّاس سياسات حكّام بني اُميّة نفسها. وتعاملوا بقسوة مع الأمواج السياسيّة الاجتماعيّة المطالبة بالإصلاح ، والتي كانت تمتدّ جذورها إلى وقعة عاشوراء، كما واجهوا آل رسول اللّه صلى الله عليه و آله الذين كانوا يمثّلون الدعامة الأساسيّة لهذه الحركات .
والملاحظة التي تستحقّ التأمّل أنّ هذه الحركات الشعبيّة المستلهمة من واقعة عاشوراء، رغم أنّها لم تؤدّ أبداً إلى حكم الإسلام الأصيل بقيادة أهل البيت عليهم السلام ، إلّا أنّها أدّت دوماً دوراً مؤثّراً في الحؤول دون تقوّض أساس الإسلام .
تأثير وقعة كربلاء على ثوراتٍ أربع
من البديهيّ أنّ دراسة وتبيين دور واقعة عاشوراء في الحركات الشعبيّة والدفاع عن كيان الإسلام الأصيل ، منذ ذلك الحين وحتّى انتصار الثورة الإسلامية ، ليس فقط أنّه لا يمكن استيعابها في هذا المقال، بل إنّها خارج نطاق هذه الموسوعة أيضاً، ولذلك فإنّنا سنكتفي بإشارة عابرة إلى أربع حركات انطلقت في العقد الأوّل بعد نهضة سيّد الشهداء، تحت التأثير المباشر أو غير المباشر لأمواج واقعة عاشوراء السياسيّة والاجتماعيّة .
1.نهج البلاغة: الخطبة ۹۳، الغارات: ج ۱ ص ۱۰، شرح الأخبار: ج ۲ ص ۴۰ ح ۴۱۰ وص ۲۸۷ ح ۶۰۱، كتاب سليم بن قيس: ج ۲ ص ۷۱۴ ح ۱۷ كلها نحوه ، بحار الأنوار: ج ۳۴ ص ۱۱۷ح ۹۵۱؛ الفتن: ج ۱ ص ۱۹۵ ح ۵۲۹ وفيه صدره إلى «مظلمة» وراجع: موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في الكتاب والسنّة والتاريخ: ج ۶ ص ۴۳۱ (القسم الثالث عشر / الفصل الثالث / ملك بني اُمية وزواله).
2.مروج الذهب: ج ۴ ص ۴۱، الأخبار الموفقيات: ص ۵۷۶ الرقم ۳۷۵، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج ۳ ص ۲۸۸ ؛ كشف اليقين: ص ۴۶۶ الرقم ۶۵۴، كشف الغمة: ج ۲ ص ۴۴ كلها نحوه، بحار الأنوار: ج ۳۳ ص ۱۶۹الرقم ۴۴۳ وراجع: موسوعة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في الكتاب والسنّة والتاريخ: ج ۳ ص ۲۸۸ (القسم السادس / الحرب الثانية / الفصل الثاني / أهداف معاوية).
3.راجع: ص ۳۴۵ (الفصل الأوّل : صدى قتل الإمام عليه السلام في الشخصيات البارزة).
4.راجع: ص ۳۹۹ (الفصل الخامس: صدى واقعة كربلاء في غير المسلمين).
5.راجع: ص ۳۸۳ (الفصل الثالث : صدى قتل الإمام عليه السلام في ذوي قاتليه).
6.راجع : ص ۲۷۴ ح ۲۴۲۰ .
7.راجع: ص ۳۷۵ (الفصل الثاني : صدى قتل الإمام عليه السلام فيمن شرك في قتله).
8.راجع: ج ۶ ص ۷ (الفصل السادس : مصير من كان له دور في قتل الإمام عليه السلام وأصحابه) .
9.الكافي: ج ۲ ص ۵۶۳ ح ۲۲، بحار الأنوار: ج ۴۷ ص ۲۰۹ ح ۵۱.
10.كشف الغمّة: ج ۲ ص ۳۲۴، الثاقب في المناقب: ص ۳۶۱ ح ۳۰۰ نحوه، بحار الأنوار: ج ۴۶ ص ۴۴ ح ۴۴.
11.الحَرَب: الغَضَب (راجع : النهاية: ج ۱ ص ۳۵۹ «حرب» ).
12.العقد الفريد: ج ۳ ص ۳۸۲، المحاسن والمساوئ: ص ۵۵، جواهر المطالب: ج ۲ ص ۲۷۸ كلاهما نحوه.
13.الثاقب في المناقب: ص ۳۶۱ح ۳۰۰ ، كشف الغمة: ج ۲ ص ۳۲۴، بحار الأنوار: ج ۴۶ ص ۴۴ ح ۴۴ .
14.نفس المصادر .
15.الكافي: ج ۲ ص ۵۶۳ ح ۲۲، بحار الأنوار: ج ۴۷ ص ۲۰۹ ح ۵۱.