335
موسوعة الامام الحسين عليه السّلام في الکتاب و السّنّة و التّاريخ ج5

3 . ثورة التوّابين

رغم أنّ هذه الثورة اندلعت بعد ثورة أهل المدينة وأهل مكّة ، إلا أنّ مقدّماتها بدأت تزامناً مع ثورة المدينة ومكّة . وقد قام بهذه الثورة أشخاص تسبّبت دعوتهم قدوم الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة وأدّى تقاعسهم عن نصرته إلى وقوع حادثة كربلاء الدمويّة ، وبذلك فقد ارتكبوا ذنباً كبيراً، وكانوا يريدون أن يغسلوا عار هذا الذنب بدمائهم، ولذلك سمّيت نهضتُهم نهضةَ التوّابين .
وبعبارة اُخرى، فإنّ قسماً كبيراً من أهل الكوفة والذين كان بإمكانهم أن يغيّروا مصير المجتمع من خلال نصرة الإمام الحسين عليه السلام ، إلّا أنهم استسلموا ـ لبعض الأسباب ـ لسياسة ابن زياد القائمة على الترغيب والترهيب والخداع ، ۱ انتبهوا إلى خطئهم التاريخيّ على إثر الأمواج الاجتماعيّة والسياسيّة لواقعة كربلاء ، وقرّروا أن يخفّفوا من عار هذا الذنب الذي لا يغتفر، عبر الثورة ضدّ حكومة يزيد والانتقام من قتلة سيّد الشهداء. وهذا هو نصّ رواية الطبري في هذا المجال :
لمّا قتل الحسين بن عليّ ، ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة ۲ فدخل الكوفة ، تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندّم ، ورأت أنّها قد أخطأت خطأً كبيرا بدعائهم الحسين إلى النصرة وتركهم إجابته ، ومقتله إلى جانبهم لم ينصروه ، ورأوا أنّه لا يغسل عارهم والإثم عنهم في مقتله إلّا بقتل من قتله أو القتل فيه . ففزعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من رؤوس الشيعة : إلى سليمان بن صرد الخزاعي ؛ وكانت له صحبة مع النبي صلى الله عليه و آله ، وإلى المُسيّب بن نجبة الفزاري ؛ وكان من أصحاب عليّ وخيارهم ، وإلى عبد اللّه بن سعد بن نفيل الأزدي ، وإلى عبد اللّه بن وال التيمي ، وإلى رفاعة بن شدّاد البجلي .
ثمّ إنّ هؤلاء النفر الخمسة اجتمعوا في منزل سليمان بن صرد وكانوا من خيار أصحاب عليّ ، ومعهم اُناس من الشيعة وخيارهم ووجوههم . قال: فلمّا اجتمعوا إلى منزل سليمان بن صرد بدأ المسيّب بن نجبة القوم بالكلام ، فتكلّم فحمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على نبيّه صلى الله عليه و آله ، ثمّ قال :
أمّا بعد، فإنّا قد ابتُلينا بطول العمر والتعرّض لأنواع الفتن ، فنرغب إلى ربّنا ألّا يجعلنا ممّن يقول له غدا: «أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَ جَآءَكُمُ النَّذِيرُ»۳ ، فإنّ أمير المؤمنين قال : «العُمرُ الَّذي أعذَرَ اللّه ُ فيهِ إلَى ابنِ آدَمَ سِتُّونَ سَنَةً» ، ۴ وليس فينا رجل إلّا وقد بلغه ، وقد كنّا مغرمين بتزكية أنفسنا وتقريظ شيعتنا ، حتّى بلا اللّه أخيارنا فوجدنا كاذبين في موطنين من مواطن ابن ابنة نبيّنا صلى الله عليه و آله ، وقد بلغتنا قبل ذلك كتبُه وقدمَت علينا رُسلُه ، وأعذر إلينا يسألنا نصره عودا وبدءا ، وعلانية وسرّا ، فبخلنا عنه بأنفسنا ، حتّى قُتل إلى جانِبنا ؛ لا نحن نصرناه بأيدينا، ولا جادلنا عنه بألسنتنا ، ولا قوّيناه بأموالنا ، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا!! فما عذرُنا إلى ربّنا وعند لقاء نبينا صلى الله عليه و آله ، وقد قتل فينا ولده وحبيبه وذرّيته ونسله؟! لا واللّه لا عذر دون أن تقتُلوا قاتلَه والمُوالين عليه ، أو تُقتَلوا في طلب ذلك ، فعسى ربّنا أن يرضى عنّا عند ذلك، وما أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن . أيّها القوم ، ولّوا عليكم رجلاً منكم؛ فإنّه لابدّ لكم من أميرٍ تفزعون إليه ، وراية تحفّون بها ، أقول قولي هذا وأستغفر اللّه لي ولكم .
قال : فبدر القوم رفاعة بن شدّاد بعد المسيّب الكلام ، فحمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى الله عليه و آله ، ثمّ قال :
أمّا بعد ، فإنّ اللّه قد هداك لأصوب القول ، ودعوتَ إلى أرشد الاُمور ، بدأتَ بحمد اللّه والثناء عليه والصلاة على نبيّه صلى الله عليه و آله ، ودعوتَ إلى جهاد الفاسقين ، وإلى التوبة من الذنب العظيم ، فمسموع منك مستجاب لك مقبول قولك ، قلتَ : ولّوا أمركم رجلاً منكم تفزعون إليه وتحفّون برايته ، وذلك رأيٌ قد رأينا مثل الذي رأيت ، فإن تكن أنت ذلك الرجل تكن عندنا مرضيّا ، وفينا متنصّحا في جماعتنا محبّا ، وإن رأيت ورأى أصحابنا ذلك ولينا هذا الأمر شيخ الشيعة ، صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وذا السابقة والقدم سليمان بن صرد ، المحمود في بأسه ودينه ، والموثوق بحزمه ، أقول قولي هذا وأستغفر اللّه لي ولكم .
قال: ثمّ تكلّم عبد اللّه بن وال وعبد اللّه بن سعد ، فحمدا ربّهما وأثنيا عليه، وتكلّما بنحوٍ من كلام رفاعة بن شدّاد ، فذكرا المسيّب بن نجبة بفضله ، وذكرا سليمان بن صرد بسابقته ورضاهما بتوليته .
فقال المسيب بن نجبة : أصبتم ووُفّقتم ، وأنا أرى مثل الذي رأيتم ، فَوَلّوا أمرَكم سليمانَ بنَ صرد . ۵
وذكر الطبري في رواية اُخرى :
كان أوّل ما ابتدعوا به من أمرهم سنة 61 هـ ، وهي السنة التي قُتل فيها الحسين رضي اللّه عنه ، فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ، ودعاء الناس في السرّ من الشيعة وغيرها إلى الطلب بدم الحسين ، فكان يجيبهم القوم بعد القوم والنفر بعد النفر ، فلم يزالوا كذلك وفي ذلك حتّى مات يزيد بن معاوية يوم الخميس لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأوّل سنة 64 هـ ، وكان بين قتل الحسين وهلاك يزيد بن معاوية ثلاث سنين وشهران وأربعة أيّام ، وهلك يزيد وأمير العراق عبيد اللّه بن زياد وهو بالبصرة ، وخليفته بالكوفة عمرو بن حريث المخزومي .
فجاء إلى سليمان أصحابُه من الشيعة، فقالوا : قد مات هذا الطاغية والآمر الآن ضعيف ، فإن شئت وثبنا على عمرو بن حريث فأخرجناه من القصر ، ثمّ أظهرنا الطلب بدم الحسين وتتبّعنا قتلته ودعونا الناس إلى أهل هذا البيت المستأثر عليهم المدفوعين عن حقّهم . فقالوا في ذلك فأكثروا .
فقال لهم سليمان بن صرد : رويدا لا تعجلوا ، إنّي قد نظرت فيما تذكرون ، فرأيت أنّ قتلة الحسين هم أشراف أهل الكوفة وفرسان العرب ، وهم المطالبون بدمه ، ومتى علموا ما تريدون وعلموا أنّهم المطلوبون كانوا أشدّ عليكم ، ونظرت فيمن تبعني منكم فعلمت أنّهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم ، ولم يشفوا أنفسهم ، ولم ينكوا في عدوّهم ، وكانوا لهم جزراً ، ولكن بثّوا دعاتكم في المصر فادعوا إلى أمركم هذا شيعتكم وغير شيعتكم ، فإنّي أرجو أن يكون الناس اليوم حيث هلك هذا الطاغية ، أسرع إلى أمركم استجابة منهم قبل هلاكه .
ففعلوا ، وخرجت طائفة منهم دعاة يدعون الناس ، فاستجاب لهم ناسٌ كثير بعد هلاك يزيد بن معاوية أضعاف من كان استجاب لهم قبل ذلك . ۶
وبعد موت يزيد سنة 64ه اتّسع نشاط التوّابين أكثر، وأصبحت الكوفة مهيّأة للثورة ضدّ حكومة بني اُميّة، وبعد ستّة أشهر من هلاك يزيد وعندما كان أصحاب سليمان بن صرد يعدّون أنفسهم للثورة، دخل المختار بن أبي عبيدة الكوفة ـ وكان قبل ذلك يتعاون لفترة مع عبد اللّه بن الزبير ثمّ اعتزل عنه ـ ولكنّه رفض قيادة سليمان بن صرد ، وادّعى أنّه غير عارف بفنون الحرب، وأنّه سيعرّض الناس للقتل ، ۷ وبذلك دعا الناس لقيادته بهدف الثأر للإمام الحسين عليه السلام ، و في جوابه للذين كانوا ينهونه عن هذا الأمر طرح نفسه بعنوان أنّه ممثّل المهديّ محمّد بن الحنفيّة للثأر للإمام . ۸
وهكذا فقد ظهر الانشقاق بين أنصار النهضة، فكان معظمهم مع سليمان بن صرد لكنّ عدداً منهم انضمّوا إلى المختار . ۹
وعلى أيّ حال ، فقد بدأت نهضة التوّابين بقيادة سليمان بن صرد حركتها في سنة 65 هـ بهدف الإطاحة بحكومة الشام، في ظلّ الظروف التي كانت فيها الكوفة تحت سيطرة عبداللّه بن الزبير . وأمر سليمان أنصاره بأن يجتمعوا في النخيلة استعداداً لقتال جيش الشام ، إلّا أنّه بعد وصوله إلى هذا المعسكر وجد أنّه لم يبق من الذين كانوا بايعوه ـ أي حوالي 16 ألف شخصٍ ـ سوى أربعة آلاف ! ۱۰
فسار سليمان مع ما تبقّى من أنصاره من النخيلة إلى كربلاء ، واستغفروا اللّه عند قبر الإمام الحسين عليه السلام بعد أن اعترفوا بذنوبهم وتعاهدوا على أن يواصلوا طريقه، وقد كتب الطبري في هذا المجال قائلاً :
لمّا انتهى سليمان بن صرد وأصحابه إلى قبر الحسين ، نادوا صيحةً واحدة : يا ربّ، إنّا قد خذلنا ابن بنت نبيّنا ، فاغفر لنا ما مضى منّا ، وتب علينا إنّك أنت التوّاب الرحيم ، وارحم حسينا وأصحابه الشهداء الصدّيقين ، وإنّا نشهدك يا ربّ أنّا على مثل ما قتلوا عليه ، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين . ۱۱
وبعد أن توقّفوا يوماً وليلة إلى جوار قبر سيّد الشهداء، استعدّوا لقتال جيش الشام في عين الوردة، ۱۲ وكانت القوّة التي يقودها سليمان تبلغ حدود أربعة آلاف ، فيما كان عدد أفراد جيش العدوّ يبلغ عشرين ألفاً . ۱۳
وقد أبدى جيش سليمان شجاعة فائقة في قتال جيش الشام، ولكنّهم لم يحقّقوا هدفهم، وقُتل سليمان وعدد من قادة نهضة التوّابين وعدد كبير من أصحابه ، وغادر المتبقّون ساحة الحرب ليلاً وعادوا إلى الكوفة .
وهناك ملاحظتان تسترعيان الاهتمام فيما يتعلّق بجذور أسباب فشل نهضة التوّابين، هما:
الاُولى : أنّهم عزموا على الإطاحة بحكومة الشام قبل السيطرة على الكوفة والاطمئنان من عاقبة حركتهم، وهذا القرار يدلّ على ضعف تدبير قادة هذه النهضة .
الملاحظة الثانية : معارضة المختار لقيادة سليمان بن صرد، ووقوع الانشقاق بين أنصار النهضة، و مع الأخذ بنظر الاعتبار الملاحظة الاُولى، يمكننا القول بأنّ تصميم المختار بعدم الانضمام إليهم كان صحيحاً .

1.راجع : ج ۳ ص ۳۹۹ (القسم السابع / الفصل السابع / تحليل حول تقييم سفر الإمام الحسين عليه السلام إلى العراق وثورة الكوفة).

2.معسكر الكوفة بالقرب منها وفي طريق الشام (راجع : الخريطة رقم ۴ في آخر المجلّد ۴) .

3.فاطر:۳۷

4.نهج البلاغة ، الحكمة ۳۲۶ .

5.تاريخ الطبري: ج ۵ ص ۵۵۲.

6.تاريخ الطبري: ج ۵ ص ۵۵۸.

7.تاريخ الطبري: ج ۵ ص ۵۶۰.

8.تاريخ الطبري: ج ۵ ص ۵۷۹، أنساب الأشراف: ج ۶ ص ۳۸۰، الكامل في التاريخ: ج ۲ ص ۶۳۳.

9.تاريخ الطبري: ج ۵ ص ۵۶۰ و ۵۸۰، أنساب الأشراف: ج ۶ ص ۳۸۰، الكامل في التاريخ: ج ۲ ص ۶۳۳.

10.تاريخ الطبري: ج ۵ ص ۵۸۳.

11.تاريخ الطبري: ج ۵ ص ۵۸۹.

12.تاريخ الطبري: ج ۵ ص ۵۹۶.

13.تاريخ الطبري: ج ۵ ص ۵۹۶ - ۵۹۸ ، الفتوح: ج ۶ ص ۲۲۲.


موسوعة الامام الحسين عليه السّلام في الکتاب و السّنّة و التّاريخ ج5
334
  • نام منبع :
    موسوعة الامام الحسين عليه السّلام في الکتاب و السّنّة و التّاريخ ج5
    سایر پدیدآورندگان :
    المساعدون : الطباطبائي نژاد،سيد محمود؛ السيّد طبائي،سيد روح الله
عدد المشاهدين : 208829
الصفحه من 414
طباعه  ارسل الي