247
موسوعة معارف الکتاب و السنّة ج2

مَهَبِّ الجَنوبِ ، فَلَم يَجعَلِ اللّهُ عز و جل كَذلِكَ إلّا لِتَنحَدِرَ المِياهُ عَلى وَجهِ الأَرضِ فَتَسقِيَها وتَروِيَها ثُمَّ يُفيضَ آخِرَ ذلِكَ إلَى البَحرِ ، فَكَما يَرفَعُ أحَدَ جانِبَيِ السَّطحِ ويَخفِضُ الآخَرَ لِيَنحَدِرَ الماءُ عَنهُ ولا تَقومَ عَلَيهِ ، كَذلِكَ جُعِلَ مَهَبُّ الشَّمالِ أرفَعَ مِن مَهَبِّ الجَنوبِ لِهذِهِ العِلَّةِ بِعَينِها ، ولَولا ذلِكَ لَبَقِيَ الماءُ مُتَحَيِّراً عَلى وَجهِ الأَرضِ ، فَكانَ يَمنَعُ النّاسَ مِن أعمالِها ويَقطَعُ الطُّرُقَ وَالمَسالِكَ .
ثُمَّ الماءُ ، لولا كَثرَتُهُ وتَدَفُّقُهُ فِي العُيونِ وَالأودِيَةِ وَالأَنهارِ لَضاقَ عَمّا يَحتاجُ النّاسُ إلَيهِ لِشُربِهِم وشُربِ أنعامِهِم ومَواشيهِم ، وسَقيِ زُروعِهِم وأشجارِهِم وأصنافِ غَلّاتِهِم ، وشُربِ ما يَرِدُهُ مِنَ الوُحوشِ وَالطَّيرِ وَالسِّباعِ ، وتَتَقَلَّبُ فيهِ الحيتانُ ودَوابُّ الماءِ ، وفيهِ مَنافِعُ اُخَرُ أنتَ بِها عارِفٌ ، وعَن عِظَمِ مَوقِعِها غافِلٌ ، فَإنَّهُ سِوَى الأَمرِ الجَليلِ المَعروفِ مِن غَنائِهِ في إحياءِ جَميعِ ما عَلَى الأَرضِ مِنَ الحَيَوانِ وَالنَّباتِ ، يَمزُجُ بِالأَشرِبَةِ فَتَلينُ وتَطَيَّبُ لِشارِبِها ، وبِهِ تُنَظَّفُ الأَبدانُ وَالأَمتِعَةُ مِنَ الدَّرَنِ ۱ الَّذي يَغشاها ، وبِهِ يُبَلُّ التُّرابُ فَيَصلُحُ لِلاِعتِمالِ ، وبِهِ نَكُفُّ عادِيَةَ النّارِ ۲ إذَا اضطَرَمَت وأشرَفَ النّاسُ عَلَى المَكروهِ ، وبِهِ يَستَحِمُّ المُتعَبُ الكالُّ فَيَجِدُ الرّاحَةَ مِن أوصابِهِ ، إلى أشباهِ هذا مِنَ المآرِبِ الَّتي تَعرِفُ عِظَمَ مَوقِعِها في وَقتِ الحاجَةِ إلَيها .
فَإِن شَكَكتَ في مَنفَعَةِ هذَا الماءِ الكَثيرِ المُتَراكِمِ فِي البِحارِ ، وقُلتَ : مَا الإِربُ فيهِ؟ فَاعلَم أنَّهُ مُكتَنَفُ ۳ ومُضطَرَبُ ما لا يُحصى مِن أصنافِ السَّمَكِ ودَوابِّ البَحرِ ومَعدِنِ اللُّؤلُوَ?وَالياقوتِ وَالعَنبَرِ ، وأصنافٍ شَتّى تُستَخرَجُ مِنَ البَحرِ ، وفي سَواحِلِهِ

1.الدَّرَن: الوسَخ (لسان العرب: ج ۱۳ ص ۱۵۳ «درن»).

2.يقال : دفعتُ عنكَ عادِيَة فلانٍ : أي ظلمه وشرّه (الصحاح : ج ۶ ص ۲۴۲۲ «عدا») . والمراد هنا ضررها .

3.يقال: أنت في كَنَف اللّه تعالى؛ أي في حِرزه وستره، وهو الجانب، والظلّ، والناحية (القاموس المحيط: ج ۳ ص ۱۹۲ «كنف»). والمراد: إنّ هذا الماء هو مأوى للأصناف المذكورة.


موسوعة معارف الکتاب و السنّة ج2
246

مَندوحَةً ۱ عَن وَطَنِهِ إذا أحزَنَهُ أمرٌ يَضطَرُّهُ إلَى الاِنتِقالِ عَنهُ .
ثُمَّ فَكِّر في خَلقِ هذِهِ الأَرضِ عَلى ما هِيَ عَلَيهِ حينَ خُلِقَت راتِبَةً راكِنَةً ، فَيَكونُ مَوطِناً مُستَقَرّاً لِلأَشياءِ ؛ فَيَتَمَكَّنُ النّاسُ مِنَ السَّعيِ عَلَيها في مَآرِبِهِم ۲ ، وَالجُلوسِ عَلَيها لِراحَتِهِم ، وَالنَّومِ لِهُدُوئِهِم ، وَالإِتقانِ لِأَعمالِهِم . فَإِنَّها لَو كانَت رَجراجَةً ۳ مُتَكَفِّئَةً ، لَم يَكونوا يَستَطيعونَ أن يُتقِنُوا البِناءَ وَالتِّجارَةَ وَالصَّناعَةَ وما أشبَهَ ذلِكَ ، بَل كانوا لا يَتَهَنَّؤونَ بِالعَيشِ وَالأَرضُ تَرتَجُّ مِن تَحتِهِم! وَاعتَبِر ذلِكَ بِما يُصيبُ النّاسَ حينَ الزَّلازِلِ عَلى قِلَّةِ مَكثِها حَتّى يُصيروا إلى تَركِ مَنازِلِهم وَالهَرَبِ عَنها .
فَإِن قالَ قائِلٌ : فَلِمَ صارَت هذِهِ الأَرضُ تُزَلزَلُ؟ قيلَ لَهُ : إنَّ الزَّلزَلَةَ وما أشبَهَها مَوعِظَةٌ وتَرهيبٌ ؛ يُرَهَّبُ بِهَا النّاسُ لِيَرعَووا عَنِ المَعاصي ، وكَذلِكَ ما يَنزِلُ بِهِم مِنَ البَلاءِ في أبدانِهِم وأموالِهِم ، يَجري فِي التَّدبيرِ عَلى ما فيهِ صَلاحُهُم وَاستِقامَتُهُم ، ويُدَّخَرُ لَهُم ـ إن صَلَحوا ـ مِنَ الثَّوابِ وَالعِوَضِ فِي الآخِرَةِ ما لا يَعدِلُهُ شَيءٌ مِن اُمورِ الدُّنيا ، ورُبَّما عُجِّلَ ذلِكَ فِي الدُّنيا إذا كانَ ذلِكَ فِي الدُّنيا صَلاحاً لِلعامَّةِ وَالخاصَّةِ .
ثُمَّ إنَّ الأَرضَ في طِباعِهَا الَّذي طَبَعَهَا اللّهُ عَلَيهِ بارِدَةٌ يابِسَةٌ ، وكَذلِكَ الحِجارَةُ ، وإنَّمَا الفَرقُ بَينَها وبَينَ الحِجارَةِ فَضلُ يُبسٍ فِي الحِجارَةِ . أفَرَأَيتَ لَو أنَّ اليُبسَ أفرَطَ عَلَى الأَرضِ قَليلاً حَتّى تَكونَ حَجَراً صَلداً ، أكانَت تُنبِتُ هذَا النَّباتَ الَّذي بِهِ حَياةُ الحَيَوانِ ، وكانَ يُمكِنُ بِها حَرثٌ أو بِناءٌ؟! أفَلا تَرى كَيفَ نُقِصَت عَن يُبسِ الحِجارَةِ ، وجُعِلَت عَلى ما هِيَ عَلَيهِ مِنَ اللّينِ وَالرَّخاوَةِ ، وَليَتَهَيَّأ لِلاِعتِمادِ؟
ومِن تَدبيرِ الحَكيمِ ـ جَلَّ وعَلا ـ في خِلقَةِ الأَرضِ أنَّ مَهَبَّ الشِّمالِ أرفَعُ مِن

1.يقال : لكَ عنه مَندوحَةٌ؛ أي سَعَة وفُسحة (المصباح المنير : ص ۵۹۷ «ندح»).

2.الأَرَبُ والإربَةُ والمَأربَةُ : الحاجة ، والجمع : المَآرِب (المصباح المنير : ص ۱۱ «أرب») .

3.الرَّجْرَجَة: الاضطراب. وتَرَجْرَج الشيء: إذا جاء وذهب (الصحاح : ج ۱ ص ۳۱۷ «رجرج»).

  • نام منبع :
    موسوعة معارف الکتاب و السنّة ج2
    سایر پدیدآورندگان :
    المسعودي، عبدالهادي؛ الطباطبائي، محمد کاظم؛ الأفقي، رسول؛ الموسوي، رسول
    تعداد جلد :
    10
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1390
    نوبت چاپ :
    اول
عدد المشاهدين : 179387
الصفحه من 563
طباعه  ارسل الي