41
موسوعة معارف الکتاب و السنّة ج3

فَأَعرَضَ عَنِ الدُّنيا بِقَلبِهِ ، وأماتَ ذِكرَها مِن نَفسِهِ ، وأحَبَّ أن تَغيبَ زَينَتُها عَن عَينِهِ ، لِكَيلا يَتَّخِذَ مِنها رِياشا ۱ ، ولا يَعتَقِدُها قَرارا ، ولا يَرجو فيها مُقاما ، فَأَخرَجَها مِنَ النَّفس ، وأشخَصَها عَنِ القَلبِ ، وغَيَّبَها عَنِ البَصَرِ ، وكَذلِكَ مَن أبغَضَ شَيئا أبغَضَ أن يَنظُرَ إلَيهِ ، وأن يُذكَرَ عِندَهُ .
ولَقَد كانَ في رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ما يَدُلُّكَ عَلى مَساوِئِ الدُّنيا وعُيوبِها ؛ إذ جاعَ فيها مَعَ خاصَّتِهِ ۲ ، وزُوِيَت عَنهُ زَخارِفُها مَعَ عَظيمِ زُلفَتِهِ . فَليَنظُر ناظِرٌ بِعَقلِهِ : أكرَمَ اللّهُ مُحَمَّدا بِذلِكَ أم أهانَهُ؟ فَإِن قالَ : أهانَهُ ، فَقَد كَذَبَ ـ وَاللّهِ العَظيمِ ـ بِالإِفكِ العَظيمِ ، وإن قالَ : أكرَمَهُ ، فَليَعلَم أنَّ اللّهَ قَد أهانَ غَيرَهُ حَيثُ بَسَطَ الدُّنيا لَهُ ، وزَواها عَن أقرَبِ النّاسِ مِنهُ .
فَتَأَسّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ ، وَاقتَصَّ أثَرَهُ ، ووَلَجَ مَولِجَهُ ، وإلّا فَلا يَأمَنِ الهَلَكَةَ ، فَإِنَّ اللّهَ جَعَلَ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله عَلَما لِلسّاعَةِ ، ومُبَشِّرا بِالجَنَّةِ ، ومُنذِرا بِالعُقوبَةِ . خَرَجَ مِنَ الدُّنيا خَميصا ، ووَرَدَ الآخِرَةَ سَليما . لَم يَضَع حَجَرا عَلى حَجَرٍ حَتّى مَضى لِسَبيلِهِ وأجابَ داعِيَ رَبِّهِ . فَما أعظَمَ مِنَّةَ اللّهِ عِندَنا حينَ أنعَمَ عَلَينا بِهِ سَلَفا نَتَّبِعُهُ ، وقائِدا نَطَأُ عَقِبَهُ .
وَاللّهِ لَقَد رَقَعتُ مِدرَعَتي ۳ هذِهِ حَتَّى استَحيَيتُ مِن راقِعِها . ولَقَد قالَ لي قائِلٌ : ألا تَنبِذُها عَنكَ ؟ فَقُلتُ : اُغرُب عَنّي ، فَعِندَ الصَّباحِ يَحمَدُ القَومُ السُّرى ۴ . ۵

1.الرِّيشُ والرِّياشُ بمعنىً؛ وهو اللباس الفاخِر . ويقال : المال والخِصْب والمعاش (الصحاح : ج ۳ ص ۱۰۰۸ «ريش») .

2.خاصّته: اسم فاعل في معنى المصدر ، أي مع خصوصيّته وتفضّله عند ربّه (تعليقة صبحي الصالح على نهج البلاغة) .

3.المِدْرَعَة : ثَوبٌ ، ولا يكون إلّا من صوف (القاموس المحيط : ج ۳ ص ۲۰ «درع») .

4.السُّرى : سَير عامَّة الليل (القاموس المحيط : ج ۴ ص ۳۴۱ «سرى») . وقولهم : «عندَ الصباح يحمَدُ القومُ السُّرى» هو مَثَلٌ لما يُنال بالمشقَّة ، ويوصَل إليه بالتَّعَب (جمهرة الأمثال : ج ۲ ص ۳۸ الرقم ۱۲۹۳) .

5.نهج البلاغة : الخطبة ۱۶۰ ، بحار الأنوار : ج ۱۶ ص ۲۸۴ ح ۱۳۶ .


موسوعة معارف الکتاب و السنّة ج3
40

مِن ثَمَنِها .
وإن شِئتَ قُلتُ في عيسىَ بنِ مَريَمَ عليه السلام ، فَلَقَد كانَ يَتَوَسَّدُ الحَجَرَ ، ويَلبَسُ الخَشِنَ ، ويَأكُلُ الجَشِبَ ۱ . وكانَ إدامُهُ الجوعَ ، وسِراجُهُ بِاللَّيلِ القَمَرَ ، وظِلالُهُ فِي الشِّتاءِ مَشارِقَ الأَرضِ ومَغارِبَها ، وفاكِهَتُهُ ورَيحانُهُ ما تُنبِتُ الأَرضُ لِلبَهائِمِ . ولَم تَكُن لَهُ زَوجَةٌ تَفتِنُهُ ، ولا وَلَدٌ يَحزُنُهُ ، ولا مالٌ يَلفِتُهُ ، ولا طَمَعٌ يُذِلُّهُ . دابَّتُهُ رِجلاهُ ، وخادِمُهُ يَداهُ!
فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الأَطيَبِ الأَطهَرِ صلى الله عليه و آله ، فَإِنَّ فيهِ اُسوَةً لِمَن تَأَسّى ، وعَزاءً لِمَن تَعَزّى ، وأحَبُّ العِبادِ إلَى اللّهِ المُتَأَسّي بِنَبِيِّهِ ، وَالمُقتَصُّ لِأَثَرِهِ . قَضَمَ الدُّنيا قَضما ۲ ، ولَم يُعِرها طَرفا . أهضَمُ أهلِ الدُّنيا كَشحا ۳ ، وأخمَصُهُم مِنَ الدُّنيا بَطنا . عُرِضَت عَلَيهِ الدُّنيا فَأَبى أن يَقبَلَها ، وعَلِمَ أنَّ اللّهَ سُبحانَهُ أبغَضَ شَيئا فَأَبغَضَهُ ، وحَقَّرَ شَيئا فَحَقَّرَهُ ، وصَغَّرَ شَيئا فَصَغَّرَهُ . ولَو لَم يَكُن فينا إلَا حُبُّنا ما أبغَضَ اللّهُ ورَسولُهُ ، وتَعظيمُنا ما صَغَّرَ اللّهُ ورَسولُهُ ، لَكَفى بِهِ شِقاقا للّهِِ ، ومُحادَّةً ۴ عَن أمرِ اللّهِ .
ولَقَد كانَ صلى الله عليه و آله يَأكُلُ عَلَى الأَرضِ ، ويَجلِسُ جِلسَةَ العَبدِ ، ويَخصِفُ بِيَدِهِ نَعلَهُ ، ويَرقَعُ بِيَدِهِ ثَوبَهُ ، ويَركَبُ الحِمارَ العارِيَ ويُردِفُ خَلفَهُ ، ويَكونُ السِّترُ عَلى بابِ بَيتِهِ فَتَكونُ فيهِ التَّصاويرُ فَيَقولُ : يا فُلانَةُ ـ لِاءِحدى أزواجِهِ ـ غَيِّبيهِ عَنّي ؛ فَإِنّي إذا نَظَرتُ إلَيهِ ذَكَرتُ الدُّنيا وزَخارِفَها .

1.الجَشِب: هو الغليظ الخشن من الطعام. وقيل : غير المأدوم. وكلّ بشع الطعم جَشْب (النهاية : ج ۱ ص ۲۷۲ «جشب»).

2.قَضَم الدنيا : تناول منها قدْر الكفاف وما تدعو إليه الضرورة من خشِن العيشة ... وأصل القَضم : أكل الشيء اليابس بأطراف الأسنان (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ۹ ص ۲۳۳) .

3.الكَشْح : الخاصِرة . ورجُلٌ أهضَم بَيِّن الهَضم : إذا كان خميصا لقلّة الأكل (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ۹ ص ۲۳۴) .

4.المُحادَّة : المعاداة والمخالفة (لسان العرب : ج ۳ ص ۱۴۰ «حدد») .

  • نام منبع :
    موسوعة معارف الکتاب و السنّة ج3
    سایر پدیدآورندگان :
    المسعودي، عبدالهادي؛ الطباطبائي، محمد کاظم؛ الأفقي، رسول؛ الموسوي، رسول
    تعداد جلد :
    10
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1390
    نوبت چاپ :
    اول
عدد المشاهدين : 208926
الصفحه من 575
طباعه  ارسل الي